- 3 –
وعلى قلم كراتشكوفيسكي ينتقل الاستشراق الحديث إلى مرحلة موضوعية منظمة، فباسمه ترتبط معظم الدراسات الجادة التى تناولت ظواهر التطور والتقليد في الأدب العربي القديم والحديث، وإليه ترجع ريادة الدراسات العربية المعاصرة في شرق أوروبا، بل لقد تجاوزت بحوثه ومقالاته في هذا الصدد حدود وطنه، بحيث أصبحت تشكل لبنة هامة في صرح دراسات الاستعراب بعامة، ولا يعود هذا إلى طبيعة منهجه الأكاديمي ونظرته النقدية الشاملة فحسب، بل يعود كذلك إلى خصوبة مادته وتنوع الموضوعات التى طرقها في دراسته؛ فمن بحث عن أبي العتاهية (سنة 1908م) إلى مقالات عن الشنفري (سنة 1924م) وذي الرمة (1918م) وأبي نواس (سنة 1928م) ومسلم بن الوليد (سنة 1930م) والأخطل (سنة 1932م)، ومن تحقيق "لرسالة الملائكة" التى أبدعها قلم الشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري إلى عرض تحليلي مفصل لتطور "الشعر العربي" بعامة، و"الشعر الأندلسي" بخاصة، حاول فيه دحض مقولة ذاعت وراجت على أقلام بعض دارسي الشعر العربي فى الأندلس، بخاصة، ومؤداها أن قطاعًا عريضًا من هذا الشعر يعتبر تقليدًا في أفكاره وأشكاله الفنية لشعر المشرق الإسلامي، وابتداء من رفض هذه المقولة يجتهد كراتشكوفسكي في الكشف عن أصالة هذا الشعر وجلاء خصائصه الأسلوبية.
ويلاحظ بوجه عام أن هذه الدراسات جميعاً إن اتفقت مع دراسات الباحثين العرب من حيث نوع وطبيعة المادة الأدبية المدروسة فإنها كثيرًا ما تختلف معها في تفسير بعض الظواهر والوصول من هذا التفسير إلى نتائج مغايرة لما تعارفنا عليه في البحوث الأدبية الحديثة، ولا شك أن هذا الاختلاف في التفسير والاستنتاج يرجع بدوره إلى اختلاف المنهج وزاوية الرؤية وطريقة معالجة المادة الأدبية. وسنحاول فيما يلى التوقف عند نموذج واحد من هذه الدراسات بما يجلو وجهة نظر المستشرقين إلى بعض ظواهر أدبنا المعاصر، إذ إن الوعي بنظرة الآخرين إلى تراثنا الفكري والأدبي جزء من وعينا بذاتيتنا الثقافية ووجودنا الحضاري في أرحب معانيه.
- 4 –
نموذج من دراسة المستعربين لنشأة الرواية العربية: من أهم الدراسات التى نلتقي بها في هذا المقام دراسة كراتشكوفسكي التى كتبها سنة 1909م تحت عنوان "الرواية التاريخية في الأدب العربي الحديث" (3)، وقد بدأ كتابتها حين كان في زيارة علمية لبيروت خلال السنوات الأولي من القرن العشرين.
وأول ما يسترعي الانتباه في هذه الدراسة تفسير المستعرب المذكور لنشأة الفن الروائي في أدبنا الحديث، فمعظم دراساتنا في هذا الصدد يستقطبها اتجاهان رئيسيان: الاتجاه الأول ينكر معرفة العرب بالفن اقصصي، ويبالغ فيربط غياب التقاليد الروائية في أدبنا القديم بعوامل تتعلق بطبيعة البيئة العربي بوجه عام. أما الاتجاه الثاني فيرجع بهذا الفن إلى أصول من التراث والحكاية الشعبية، ثم يمضي في تطبيقات هذا الرأي فيشير إلى بعض نماذج من القصص الجاهلي وخاصة تلك التى تسرد أخبار ملوك حمير وتاريخ الدولة اليمنية القديمة.
يتجاوز كراتشكوفسكي ما يشير إليه محتوى الاتجاهين السابقين معاً، بل وبغض النظر كذلك عن القيمة التاريخية لكل من "ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة" على اعتبار أن لكل منهما أصوله الآرية، ولكنه يتوقف كثيرًا عند روايات البطولة العربية مجسدة في السير الشعبية مثل "سيرة عنترة" و"سيرة أبي زيد" و "سيرة ذات الهمة" و"سيف بن ذي يزن" و "الظاهر بيبرس" وغيرها من الأعمال ذات الرصيد الشعبي والقيمة الفولكلورية.(4)
إن تلك الأعمال جميعاً –من وجهة نظر الاستعراب الحديث- ذات دلالة مهمة على المستويين المحلي والعالمي؛ فهي – من ناحية- سجل لبعض أيام العرب وعاداتهم وتقاليدهم ومذخورهم الشعبي بوجه عام، ثم هي –من ناحية أخري- تشبه من حيث الشكل الفني والمحتوي البطولي بعض نظائرها في الآداب الأوروبية إبان العصور الوسيطة، فإذا أردنا تمثيلاً لهذه النظائر وجدناه في "حكايات الملك آرثر" و "قصص فرسان المائدة المستديرة" وما يدور مدارها. بل إن التشابه هنا لا يقتصر على الشكل الفني والنبض البطولي فحسب، بل يتعدي ذلك إلى مصادر كل من الحكايات العربية والأوروبية، فالمصدر في كلتا الحالتين هو الوجدان الجمعي حين يجسد بطولاته وأمجاده في عدد من الشخصيات الفذة، ثم يبلورها من خلال بعض الأحداث الكبرى التى لا تعدم –أحيانًا- حظها من الحقيقة التاريخية.
وهذه المقارنة بين السير الشعبية في الأدب العربي ومثيلاتها فى أدب العصور الوسطي الأوروبي لا تعني انتقاصًا من أصالة التراث العربي، بل إنها –على العكس- تؤكد قيمته الإنسانية حيث تصله بالمنابع الأولي لتراث البشرية جمعاء. ومن هذا المنطلق ذاته يتساءل المستشرق "كوزين دي برسيفال" ومعه "كراتشكوفسكي": أليست سيرة عنترة – مثلاً- صياغة لبطولة الإنسان العربي بمثل ما كانت إلياذة هوميروس تعبيرًا عن البطولة اليونانية؟ ألا يصح النظر إليها من هذه الزاوية وكأنها الإلياذة بطريقة عربية؟ أما "ذات الهمة" بطلة الصراع الإسلامي ضد الكفار والمشركين فإن صورتها الفنية تدفع إلى الذهن دفعاً صورة "جان دارك" الفرنسية في تحنثها واستشعارها لمسئولية الدفاع عن انتمائها الديني".(5)
ورغم تسليم كثير من المستشرقين المحدثين بالقيمة التاريخية لهذا التراث القصصي في الأدب العربي، وإقرارهم بآثاره الخطيرة في الآداب الأوروبية إبان العصور الوسطي عن طريق الأندلس الإسلامية ، ثم عن طريق الاحتكاك الأوروبي بالمشرق العربي أثناء الحروب الصليبية-رغم هذا جميعه فإنهم ينكرون وجود صلة زمنية أو فنية بين هذا التراث والقصة العربية المعاصرة ؛ فهذه البذور القصصية لم تتطور-في نظرهم-بحيث يفضي نموها الطبيعي إلي قصص فنية مكتملة ، بل كانت هذه القصص المكتملة – علي عكس ما كان يتوقع –نتيجة التأثر بالآداب الأوروبية الحديثة ، التي عادت فأعطت الأدب العربي بقدر ما أخذت منه في فترة العصور الوسطي.
وثمة جانب آخر يستوقف النظر في دراسات المستشرقين لتطور الأدب العربي الحديث بعامة ، وتطور الفن القصصي في هذا الأدب بصفة خاصة ؛ فالملاحظ أن "كراتشكوفسكي" وعديد من علماء المدرسة الروسية الحديثة يصرفون جل اهتمامهم إلي إيضاح أثر أدباء الشام(سوريا ولبنان) في ترسيخ أسس النهضة الأدبية في القرن التاسع عشر ، ويرجعون بالفضل في هذا إلي قطبين رئيسيين هما : نصيف اليازجي وبطرس البستاني ؛ فعلي طريقهما سار أديب إسحاق وخليل اليازجي ونجيب حداد ، ذلك الثالثوث الذي قدم بترجماته الوفيرة السخية مجموعة من النماذج الناضجة للفن القصصي والدرامي ، ومن أطراف ثيابهما خرج "جميل نخلة مدور" الذي كتب سنة1888 م أول رواية تاريخية غير مترجمة ولا معربة ، بل تستمد أصالتها من أصالة البيئة التي عبرت عنها والإطار العربي الذي دارت حوادثها فيه.
وأيا كانت البواعث التي تقف وراء هذا التقييم غير المتكافئ لروافد النهضة الأدبية الحديثة ، فليس من شك في أن رأيا كهذا قد يعكس زاوية من الحقيقة ، ولكنه لا يعكس كل زواياها. ذلك أن الفترة التاريخية التي شهدت جهود أدباء الشام في أواسط القرن التاسع عشر لم تخل من جهود لنظرائهم في مصر والأقطار العربية الأخرى ؛ فمن قبل قام رفاعة الطهطاوي بترجمة "مغامرات تليماك" للقس الفرنسي فينيلون وسماها "مواقع الأفلاك في وقائع تليماك" ، كما وضع علي مبارك كتابا تعليمي الهدف سماه "علم الدين" وصاغه في قالب قصصي لا يحقق كل الشروط المطلوبة في هذا الفن ، ولكنه –علي أية حال- لا يقل في جهد الريادة عن رواية مثل"ثارات العرب" التي كتبها نجيب حداد في الفترة ذاتها.
كذلك ترجم محمد عثمان جلال عديداً من القصص والمسرحيات التي تفصح عن مزاج ذلك العهد من غرام بروائع الكلاسيكية الفرنسية وولع بآثار "كورني" و " راسين" و " موليير" علي وجه الخصوص.
ولا نقصد بهذا إلي التهوين من قيمة دراسات المستشرقين أو الغض من شأنهم في العناية بتراثنا الأدبي والتوفر عليه تحقيقاً ونشراً ودراسة ، بل لعله – علي النقيض من ذلك –قد اتضح من خلال هذه السطور حجم الجهود التي بذلوها لإعادة النظر في هذا التراث الموزع بين شتي المكتبات والمتاحف ودور الحفظ في "يرفان" و "باكو" و "تبليسي" و "طشقند" وغيرها . وكم تحس بالروعة والأسى معا حين تشاهد قاعة كاملة في أحد متاحف آسيا الوسطي مخصصة للنتاج الأدبي الذي ظهر في موضوع واحد هو: قصة ليلي والمجنون، وكيف تطورت أشكالها الفنية وقيمها الفكرية والصوفية علي مر العصور.
تحس بالروعة لخصوبة تراثنا وثرائه وقدرته علي إفراز هذا العطاء الجم في موضوع واحد، وتحس بالأسى لأن هذا العطاء وأمثاله مازال بعيدا عن تناول كثير من الباحثين والدارسين العرب، مع أن هذا الموضوع بالذات – ليلي والمجنون وتطور قصتهما في آداب المشرق الإسلامي – كان محور دراسات جامعية عديدة في مصر والخارج.
ومن ناحية أخري ، كان اختلاف منهج النظر، وقصور المادة المتاحة في الأدب الحديث بصفة خاصة ، سببا فيما لاحظناه من تركيز زاوية الضوء عند بعض المستشرقين- ومنهم كراتشكوفسكي – علي ظواهر وأقلام ليست من الخطورة والتأثير بالقدر الذي أضفي عليها، لدرجة أن أسماء عدد من كتاب الصحف القدامي، مثل فرح أنطون ويعقوب صروف وخليل خياط وأمين زاهر خير الله ، تكاد تحجب في مجال نشأة القصة العربية أسماء أدباء من أمثال المويلحي والمنفلوطي ومحمود طاهر لاشين والأخوين عبيد وغيرهم ممن أسهموا إسهاماً غير منكور في تأصيل هذا النمط الفني في أدبنا الحديث.
بيد أن هذه الملاحظة وأمثالها ينبغي ألا تصرفنا عن أعمال المستشرقين واجتهاداتهم في تراثنا ، وما نحتاجه في هذا المقام ليس هو الوقوف من هذه الاجتهادات موقف الرفض التام بدعوي قصورها أو تقصيرها ، وليس هو موقف التشكيك المطلق النابع من مشاعر الخشية علي التراث أو الحرج من أن يتناوله غير أهله ، بل ينبغي – في التحليل الأخير – أن يكون موقفنا موقف التقويم والإضافة: التقويم الرشيد الذي يكشف مواطن النقص والوهم والتزيد ، ويفيد من إيجابيات المنهج وتنوع وجهات النظر وتعدد زوايا الرؤية ، والإضافة الصادرة عن قدرتنا الخاصة علي الوعي بتراثنا وتمثله وإدراك قيمه الفكرية والجمالية. ولكن هذا بدوره قد لا يتاح إلا بالحركة النشيطة من أجل إعادة اكتشاف هذا التراث ، والعمل – دون إبطاء- علي تكوين فرق علمية مزودة بكل الإمكانات الفنية والمادية ، ترحل إلي مواطنه الأصلية ، وتتوفر علي جمع شتاته وتصنيفه ، ثم علي تحقيقه ودراسته ونشره . بهذا – وبهذا وحده –نضع أقدامنا علي بداية الطرق السوي نحو استكمال الصورة العامة لتطورنا الفكري والفني ، واسترداد أمشاج من تاريخنا عظيمة المعني والأثر ، ولكنها – رغم قيمتها الكبري – ما تزال تائهة في فجاج الأرض.
نقاش وحوار:
مصطفى يوسف