عرض مشاركة واحدة
رقم المشاركة : ( 1 )
 
أ.د سعد بن حمدان الغامدي
عضو المجمع

أ.د سعد بن حمدان الغامدي غير موجود حالياً

       
رقم العضوية : 234
تاريخ التسجيل : Jun 2012
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 85
عدد النقاط : 10
قوة التقييم :
جهات الاتصال :
Unhappy سلسلة قصص (من أحاديث القرية)

كُتب : [ 03-12-2018 - 08:46 PM ]


أحاديث القرية
هذه سلسة قصص اخترت لها في عنوانها كلمة أحادِيْث لما لهذه الكلمة من معان وإيحاءات فهي مناسبة لمحتوى هذه القصص، جاء في اللسان (حدث): والحديثُ: الجديدُ من الأَشياء. والحديث: الخَبَرُ يأْتي على القليل والكثير، والجمع: أَحاديثُ، كقطيع وأَقاطِيعَ، وهو شاذٌّ على غير قياس، وقد قالوا في جمعه: حِدْثانٌ وحُدْثانٌ، وهو قليل، والحديثُ: الجديدُ من الأَشياء.
والحديث: الخَبَرُ يأْتي على القليل والكثير، والجمع: أَحاديثُ، كقطيع وأَقاطِيعَ، وهو شاذٌّ على غير قياس، وقد قالوا في جمعه: حِدْثانٌ وحُدْثانٌ، وهو قليل.
وجاء فيه أيضا:
والحديثُ: ما يُحَدِّثُ به المُحَدِّثُ تَحْديثاً؛ وقد حَدَّثه الحديثَ وحَدَّثَه به. الجوهري: المُحادثة والتَّحادُث والتَّحَدُّثُ والتَّحْديثُ: معروفات.
وأيضًا:
والأُحْدُوثةُ: ما حُدِّثَ به. الجوهري: قال الفراءُ: نرى أَن واحد الأَحاديث أُحْدُوثة، ثم جعلوه جمعاً للحَديث؛ قال ابن بري: ليس الأَمر كما زعم الفراءُ، لأَن الأُحْدُوثةَ بمعنى الأُعْجوبة، يقال: قد صار فلانٌ أُحْدُوثةً. فأَما أَحاديث النبي، صلى الله عليه وسلم، فلا يكون واحدها إِلا حَديثاً، ولا يكون أُحْدوثةً، قال: وكذلك ذكره سيبويه في باب ما جاءَ جمعه على غير واحده المستعمل، كعَرُوض وأَعاريضَ، وباطل وأَباطِيل.
وهذه القصص مفعمة بلغة قرية وقرى جنوبية، ومحمّلة ببعض هموم أهلها وببعض ما مرّ عليهم من حوادث وقصص في حياة مُستعِرَة بالفقر والضعف وسيطرة القبيلة وسننها المجحفة حينًا والعادلة حينًا، ومعطرة بمعاناة الرجال والنساء وكيفية تعاملهم في شتى ظروف حياتهم حلوها ومرّها، وباحثة في مدى تعاطيهم مع أولويات الحياة ومستجداتها، أرجو لكم قراءة نافعة.
1- بلاد الديرة
جاء القرية الهائمةَ في وحدتها وسكونها، تشتعل في نفسه حرائقُ الشوق والفرح، إنها رجعة بعد غياب طويل، يا لصمتها الرهيب، ويا لوحدتها القاسية، قال ذلك وهو يدخلها بعد صلاة العصر.
لم تعد كما كانت من قبل تترقّب الزائرين والعائدين، ويصطف رجالها لاستقبالهم، وتزغرد النساء، وترحب مردّدة: مرحبا تراحيب المطر.
ابتسم، عندما لمع في ذهنه أنه ليس كلُّ الزائرين يُستقبَلون كذلك،،، فقط (اللي عندهم قُرُوْشُو).
الطريق الذي يخترقه معبّد، ولكنه ضيق، تُزاحِمُهُ البيوتُ شحًّا في الأرض وتضييقًا على الناس؛ حسدا في أحيان ومعاندة ومشاكسة في أحيان أخرى، يقف وراء ذلك ضيق أفق لما يمكن أن تحتاج إليه القرية من توسع ونماء.
حدث نفسه قائلا: لماذا لا يكون حرصا على قديم القرية من (مَسَارِيْب)، سامحكِ الله، أنتِ تسيئن الظنَّ.
ردت عليه نفسه بما كان يسمعه في المدينة: (أَدِّي لُه ركبه)، بدأ يهتز من الضحك لهذه الخواطر، ولكنه تماسك، وقال لها: نَفَرُوا بك، وبسم الله عليه، اهتز من الضحك مرة أخرى.
رأى بعض أهلها سيارته، من المؤكد أنهم عرفوه، ولكنهم تظاهروا بعدم الاهتمام، لوّحَ لهم بيده فلوّحوا له بتثاقل، شعر أنهم لا يريدونه أن يقفَ عند أحدهم لا مُسلّما ولا سائلا، ناهيك عن أن يكون ضيفًا، استجاب لرغبتهم المكتومة، ومضى.
أخذ الطريق يتصاعد في جبل صغير، ولكنه شديد الانحدار، وفي قمته أوقف سيارته، ومضى يحدث نفسه: هذه الخرِبة، هنا كانت قريةٌ أخنى عليها الدهر، يا لله! أجدادنا كانوا هنا… أو ربما لم يكونوا، لا دليل، كأنهم سحابة صيف مرّت أو بددتها الرياح، كأنها أحلام، كأنّ وجودَهم وأخبارهم مجرد أوهام.
أراد الخروج من حديث النفس إلى الواقع، فقال: ولكنني كنت هنا أيام طفولتي، هذه حقيقة مؤكدة ما دام وجودي حقيقة كما أظن !!
شعر أنه بدأ يتفلسف، كما يقال، أو ربما هو الشيطان يوسوس له كما قد قرأ ذات يوم.
مضى في طريقه إلى حيث يسكن أبناء عمومته، أو من تبقى منهم!.. ألم تفرقهم الأيام والليالي أيدي سبأ، فبعد أن كانوا في ساحة واحدة تخاطفتهم مدن شتّى، وأعمال شتّى (والمُعُوْشة ضَنْكة) كما يردّد بعضهم، مرت في ذهنه صورةٌ لأيّامٍ كان فيها هو وأنداده (يتحاذفون بالحصى، ويتفاقعون الرُّوْس).
توقف برهة محاولًا إيقاف سيل حديث النفس والأفكار المتكالبة على عقله المشتت أصْلًا في آفاق لا حدود لها بما لا حاجة معه إلى مزيد مما يشغله ويلهيه.
وجد نفسه أمام منزل ابن عمه، قرع الباب، ودقّ الجرس ولا مجيب، أراد أن يجلس للتأمل في بقايا جمال الأمكنة قليلا، ولكنه نهض بعد أن تسلل إلى رأسه أحاديث عن صلة القرابة وعلاقات أبناء العمومة وأبناء القرية، شعر أنه سينهك عقله ويدمّر روحه بحديث شائك كهذا.
قال: الأفضل أن أذهب إلى منزل ابن عم آخر، وهو شيخ طاعن في السن، ومع هذا كان حاضر الذهن، قوي الذاكرة، بارع الكلام إلى حدٍّ يجذب السامع، ويملأ قلبَه وعقله بالإعجاب لهذه الموهبة الكلامية المطعّمة بالخبرة والتجربة والأمثال والحكم، والمزيّنة بالتشبيهات والصور البديعة. ولكنّ كلامه لم يَخْلُ من غَمْزٍ ولَمْزٍ، وبخاصة للذين تركوا البلاد وراء ظهورهم تهدّمها الأمطار والرياح، وتستوطنها الحيّات والأفاعي، وتحل محلَّ بيوتِها (بيوت النملة) كما كان يقول كنايةً عن استيطان الغُرباء للقرية.
تخاطفته حالات الذهول والإعجاب والتذمّر وهو يستمع إلى هذا السيّل من الكلام الحسَنِ مرة، والمزعج مرة، وفكّر بالإجابة على كل ما ورد فيه، ولكنّه فكّر في حال هذا الرجل الذي يضع إحدى رجليه في عالم الآخرة، ولازال مشغولًا بالدنيا ومشاكلها محاربًا قوي الشكيمة في صراعات شتّى، قال لنفسه: ينتهي أجل ابن آدم ولا تنتهي حاجته، وهنا ظنّ لوهلة أنه حكيم، ولكنه تذكر أنه قرأ هذه الحكمة في زمن ما.
عاد ليقول لنفسه: لا داعي للردّ: لقد تولت الأيام والسنون الردّ ببلاغة، حين قالت: إنك قد تحرص على شيء فتفقده، وقد تهمل شيئا فلا تستطيع منه ولا عنه فكاكًا، وإن أردت، وإن أردت.
ولكنّ الشيخَ لم يستمع إليها، على ما يبدو، على الرغم من إسماعها له بما فعلته في جسمه وصحته، فهل سيستمع إليك، وأنت لا سلاح لك سوى الوعظ والإرشاد، الذي لم يعد له تأثير على أحد؟
لم يكدر جو اللقاء سوى تلميحات وتصريحات من ابن عم آخر تتعلق بالبلاد، وأنك من بين بني عمك لم تحرك ساكنًا من أجل استخراج صكوك لها، وفي هذا ضياع لبلاد الأجداد، وستقوم البلدية بمصادرة هذه الأراضي وتحويلها إلى أراض بيضاء، وهكذا تفقد العائلة جزءًا من ممتلكاتها، وأن هذا لا يتفق مع شيم أهل القرية ويعتبر عارًا وإسقاطًا للمهابة وتضييعًا للحقوق.
استمع إلى هذا الكلام ولكنه حاول الهروب منه بذريعة أن الحق لا يضيع، وأن البلديات عندنا ليست بلديات إسرائيل حتى تعمل على الاستيلاء على أملاك الناس، وأنّ كرامة الإنسان محفوظة بالأرض أو بغيرها مادام مستقيمًا لا يخدش صفحته البيضاء بخيانة أو نذالة أو سوء أدب مع الأقارب والأباعد.
قال في نفسه: حسنًا دَعْك مما يقوله، وعد إلى المدينة التي خرجتَ منها، هناك ستفكر وستراقب، والأيام ستصدق أو تكذب ما يفكر به أبناء العم، وعندما يحدث ذلك فأين سأكون؟ أفي القرية ألتحف رداء الشيخوخة، وأهذي بالكلام المسلسل والمزيّن مادحًا وقادحًا، وقد مضى بعض أبناء العمومة إلى مصائرهم وبقي بعضهم، وعندما يخطر لهم أن يزوروني ليستمعوا إلىّ سيضيقون بغمزاتي ولمزاتي وتلميحاتي، وسيقول لي أحدهم: أنت (جيعان كلام)، ثم ينصرف غاضبا، وقد لا يعود أبدًا، أم سأكون في المدينة التي أحببت، أكتب الأشعار والحكايات، وأشاهد المحطات الفضائية المملّة، تثقلني الشيخوخة بأمراضها وأحزانها وهمومها، أم ماذا سيحدث؟ الله وحده يعلم، لكنّ الشيء الأكيد أنّ الأرض ستبقى كما بقيت منذ مئات السنين، وسأمضي إلى حيث مضى أجدادي، وسيأتي أحد الأحفاد يومًا ليتساءل هل كان لأجدادي وجود أم هُمْ مجرد وَهَم، وربما سيردّ هذه الخاطرة بقوله: الشيء المؤكد أنني أنا موجود، ولا شيء عن الأجداد وجودًا أو عدمًا سيكون مهمًّا وهامًا، فالأيام تمضي بكلّ شيء، ولكنّ (بلاد الديرة) ومشكلاتها باقيةٌ أبد الدهر.


رد مع اقتباس