3- النظرية الحيرية:
لم يكتف المؤرخون لأصل الكتابة العربية بذكر الرأيين السابقين بل جاءوا بنظرية ثالثة مفادها أن الخط العربي قد اشتق من خط الحيرة ويرجعون أصل الكتابة العربية إلى رجال من هذا الإقليم إقليم الحيرة، وقد ذكر هذه النظرية من القدامى البلاذري حيث قال: "حدثني عباس بن هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه عن جده وعن الشرقي بن القطامي قال: "أجمع ثلاثة نفر من طيء ببقه وهم: مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة وعامر بن جدرة فوضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية فتعلمه منه قوم من أهل الأنبار ثم تعلمه أهل الحيرة من أهل الأنبار وكان بئر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن الكندي ثم السكوني صاحب دومة الجندل يأتي الحيرة فيقيم بها الحين، وكان نصرانياً فتعلم بشر الخط العربي من أهل الحيرة ثم أتى مكة في بعض شأنه فرآه سفيان بن أمية بن عبد شمس وأبو قيس بن مناف بن زهرة ابن كلاب يكتب فسألاه أن يعلمهما الخط فعلمهما الهجاء ثم أراهما الخط فكتبا ثم إن بشرا وسفيان وأباقيس أتوا الطائف في تجارة فصحبهم غيلان بن سلمة الثقفي فتعلم الخط منهم وفارقهم بشر ومضى إلى ديار مضر فتعلم الخط منه عمرو بن زرارة ابن عدس فسمى عمرو الكاتب ثم أتى بشر فتعلم الخط منه ناس هناك وتعلم الخط من الثلاثة الطائيين أيضاً رجل من طانجة كلب فعلمه رجلاً من أهل وادي القرى فأتى الوادي يتردد فأقام بها وعلم الخط قوماً من أهلها([xxx])".
ويسوق أبو داود السجستاني في كتابه "المصاحف" ما يقرب من هذا حين يقول: "عن الشعبي قال: سألت المهاجرين من أين تعلمتم الكتابة؟ قالوا: من أهل الحيرة، وسألنا أهل الحيرة من أين تعلمت الكتابة؟ قالوا: من أهل الأنبار([xxxi])".
وذهب إلى هذه النظرية بعض المحدثين منه عبد العزيز سالم و علي حسين الخربوطي([xxxii]) هؤلاء هم القائلون بها فما هي أدلتهم؟ وما موقف البحث العلمي منها؟
والواقع أن أحداً ممن قالوا بهذا الرأي لم يأت بأية أدلة مادي يمكن الاعتماد عليها في تقويم هذه النظرية ومن غير المعقول أن يعتمد على الروايات الإخبارية فقط ولاسيما في مجال علم الكتابات([xxxiii]). هذا مما جعل هذه النظرية ضعيفة واهية أمام النقود التي وجهت إليها التي منها:
أولاً: أن الرواية التي ذكرها بعض أصحاب هذه النظرية والمنسوبة لابن عباس t والتي مؤداها أن أول من وضع الحروف العربية ثلاثة رجال من بولان وهم مرامر بن مره وأسلم بن سررة وعامل بن جدرة اجتمعوا فوضعوا حروفاً مقطعاً وموصولة ثم قاسوها على هجاء السريانيين فأما مرامر فوضع الصور وأما أسلم ففصل ووصل وأما عامر فوضع الإعجام([xxxiv]).
هذه الرواية الصناعة فيها واضحة والسجع الذي فيها يوحي بأن شخصياتها لا وجود لها إلا في مخيلة صانعها كما أنه يصعب على العقل أن يتصور ثلاثة من الغرباء التقوا عفواً أو قصداً يمكن أن يبتدعوا ببساطة وفي زمن قصير أبجدية كاملة وواقية([xxxv]).
ثانياً: تضاربت أقوال المؤرخين في تلك الشخصية التي قامت بنقل الكتابة من الحيرة ونشرها في الجزيرة العربية وما حولها فهي مرة: "بشر بن عبد الملك" ومرة هي "أبو قيس بن عبد مناف([xxxvi])".
ثالثاً: اختلاف نوع الكتابة الحيرية عن الكتابة العربية حيث ثبت أن أهل الحيرة كانوا يستخدمون الخط السطر النجيلي السريالي وهو غير الخط العربي([xxxvii]).
رابعاً: عدم العثور على نماذج من الخط الحيري في الحجاز أو في أماكن قريبة منه تؤيد اشتقاق الخط العربي من الخط الحيري([xxxviii]).
خامساً: تذهب هذه الروايات المؤيدة إلى لهذه النظرية إلى أن الذي وضع الإعجام هو عامر بن جدرة أي أن الخط العربي في نشأته كان يكتب بالتنقيط وهذا يخالف الواقع لأن الخط العربي في نشأته كان يكتب من غير تنقيط([xxxix]).
يضاف إلى ذلك أن القدماء أنفسهم منهم من تنبه إلى ضعف هذه الرواية يقول حمزة الأصفهاني: "أن هذا الخبر صادر عن رجل كان يولد الأخبار على الأمم الذي بادوا كعاد وثمود وطسم وجديس وإضرابهم فإذا احتاج إلى توليد الشعار تؤكد تلك الأخبار خرج إلى ظهر المدينة لامتحان الأعراض ملتمساً من يحسن قول الشعر فإذا عثر على واحد عاد به إلى منزله فغداه وكساه وحباه ثم سأله أن يقول شعراً من جنس ما يطلب فكانوا يعملون له مثل:
كلم هدركني هلكه وسط الملحه
وهذا الرجل هو الذي ادعى آدم عليه السلام قول الشعر وروى له:
تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبر قبيح([xl]).
لهذه النقود التي أضعفت تلك النظرية يمكن للباحث القول باطمئنان بأنها لا تصح أساساً لتفسير نشأت أو مصدر الكتابة العربية الأصلي، وعليه فإنه يتبين غموض المصدر الأصلي للكتابة العربية عند مؤرخي العرب القدامى في النظريات الثلاث السابقة ولعل هذا يرجع إلى عدم معرفتهم بالباحث عن النقوش ودراستها واستختلاص النتائج منها والآن بعد ظهور دراسة النقوش على الباحث أن يتساءل عن المصدر الأصلي للكتابة العربية من وجهة نظر الدارس اللغوي الحديث، ذلك ما تحدده ما عرف لدى الدارسين المحدثين بالنظرية النبطية أو النظرية الحديثة.
4- النظرية النبطية أو النظرية الحديثة:
يستلزم بحث هذه النظرية أن تكون ثمة تساؤلات يحاول الباحث الإجابة عليها هذه الأسئلة:
أـ من البنط ، وما لغتهم ، وما تلك الكتابة التي استخدموها لتدوين لغتهم؟
ب ـ كيف انتقلت الكتابة منهم إلى العرب؟
جـ ـ ما أدلة القائلين بهذه النظرية؟
وأبدا بعرض التساؤل الأول ومحاولة إجابته.
قال الخليل بن أحمد ـ رحمه الله ـ : والنبط والنبيط كالحبش والحبيش في التقدير وسموا بهذا لأنهم أول من استنبط الأرض والنسبة إليهم نبطي وهم قول ينزلون سواد العراق والجميع: الأنباط([xli]).
"وقد حامت حول أصالة عروبة الأنباط بعض الشبهات بسبب تلك التسمية وما ورد حولها في المعجم العربي([xlii])" حيث ذهب بعض الدارسين إلا أنهم قوم ليسوا بعرب من هؤلاء د. إسرائيل ويلنيفسوف الذي يقرر: "أن أرهاط النبط الفاتحين كانوا من الآراميين ثم بعد استقرارهم في طور سيناء اختلطوا بالعرب فظهرت هناك طبقتان: واحدة آرامية أصيلة وأخرى عربية كثرة عناصرها إلى أن تغلبت بالتدرج عن العناصر الآرامية ومحتها محواً تامة وبقيت لغة الحضارة هي اللغة الآرامية التي كانت في تلك العصور لغة العمران عند جميع أمم الشرق الأدنى([xliii])"، وقد تابع هذا الرأي بعض الدارسين العرب إذ يقول: "الأنباط شعب سامي سكنوا جنوب شرق الأردن([xliv])".
إلا أن البحث العلمي قد نفى تلك الشبهات التي تقطع الصلة بين الأنباط والعرب إذ أثبت البحث بما لا يدع مجالاً للشك أن هؤلاء الأنباط من أرومة العرب ومن جذورها الضاربة في الجنوب والشمال([xlv]) وقد أدرك هذه الحقيقة بعض المستشرقين الذي يقول وكان الأنباط أمة عربية الأصل ولغتهم المأنوسة العربية وكانت إذ ذاك العربية بالتكلم وللمحاورة بين الناس لا لتحرير الكتابات أو المكاتيب إذ الأحرف الهجائية لم تستنبط بعد عند العرب([xlvi])"
وقد كانت هناك أدلة تؤيد كون الأنباط عرباً خلصاً منها:
أولاً: أغلبية الأسماء النبطية عربية مثل: حارسة مليكة وجزيمة.
ثانياً: تجدهم يستعملون في نقوشهم كلمة (غير) التي لا توجد في الآرامية ولا في غيرها من الساميات.
ثالثاً: وجود آثار النحو العربي في النقوش النبطية فمثلاً: يستعملون الفاء للترتيب كما في العربية ويستعملون الماضي عوضاً عن المضارع في حالة الدعاء وغير ذلك من قواعد النحو العربي([xlvii]).
رابعاً: ما ذكروه مؤرخو اليونان والرومان عن عروبة الأنباط وهو أمر يجب أخذه بعين الاعتبار لأن اليونان أحد الشعوب التي عاصرت الأنباط وهم بذلك أعلم الناس بهم فقد ذكر "ديودور السقلي" أنها كانت توجد في ناحية البطرا، قبائل تعيش عيشة بدوية لا تزرع ولا تحصد وما ذكره "ديودور" على أن هذه القبائل عربية لأن العرب كانت أمة بدوية تأنف من الاشتغال بالزراعة وتحتقر من يزاولها([xlviii]).
ومما يتصل بالحديث عن تعريف النبط التعرض لدولتهم "وقد ظهرت الدولة النبطية في شبه جزية سيناء على أنقاض المملكة الأدومية وكانت عاصمته "سلع " ومعناه بالعربية "الصخرة" وباليونانية "بطرا" ومن هنا امتدت إلى صحراء سورية حتى شملت دمشق وأطراف نهر الفرات من ناحية كما أنها توغلت في بلاد الحجاز من ناحية أخرى([xlix])" وبقيت عاصمتهم (البطراء) مزدهرة ما يقارب من خمسة قورن ظلت خلالها مركزاً تجارياً هاماً على طريق القوافل بين سبأ (اليمن) وبلاد البحر الأبيض المتوسط، وأغار الأنباط أول أمرهم على أقاليم آرامية وتحضروا بحضارتها واستعملوا لغتهم الآرامية إلى جانب الاحتفاظ بلغتهم العربية التي استعملوها في حيا تهم الخاصة وأحاديثهم اليومية([l]).
وقد أدى استعمالهم للغتين الآرامية والعربية إلى أن أصبحت لغتهم لغة مختلطة تتكون عناصرها الرئيسية من العربية والآرامية([li]).
هذا عن تعريف النبط ولغتهم ، أما الكتابة التي استخدموها في تدوين نقوشهم فقد أخذ البنط كتابتهم عن القوم الذي أغاروا عليهم وهم الآراميون، ومن المقرر لدى الدارسين أن النبط عندما اختلطت بالآراميين وأخذت تتعلم كتابتهم كتب حروفاً آرامية هي أقرب للخربشة منها إلى الكتابة وذلك لما وجدته هذه القبائل (النبط) من الصعوبة في محاكاة الحروف وتقليدها كما أنهم كتبوها بشيء من الاختلاف يكاد لا يطابق الأصل كل المطابقة ثم أتى بعدهم جيل آخر من النبط وتعلم هذه الخربشة في شيء من الصعوبة وجده أيضاً في تقليدها فكتب الحروف أكثر خربشة من الأول وأبعد قليلاً منها عن الأصل ـ وهذا أمر طبيعي لأن المنقول لا يشبه الأصل ولا يطابقه تمام المطابقة بل يختلف عنه وخصوصاً إذا كان الحاكي أو المقلد بعيد العهد بالأصل جاهلاً به وهكذا أخذت كتابتهم تبتبعد عن الأصل الآرامي شيئاً فشيئا حتى تميزت عنه وتحررت من نيره وصارت تعرف باسم الكتابة النبطية([lii]).
ويتمثل طور الانتقال من الآرامية إلى النبطية في تلك النقوش التي كتبت في القرن الأول قبل الميلاد وخصوصاً نقوش حوران لأنها قريبة من فلسطين حيث كان يستعمل القلم العبري الآرامي. أما الكتابة النبطية فتتمثل في تلك النقوش التي كتبت في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد خصوصاً نقوش مدائن صالح (الحجر) لأنها بعيدة عن النفوذ الآرامي وقريبة من البلاد العربية موطن النبط وبيئتهم الأولى([liii])، يبقى أن أسأل عن كيفية انتقال الخط من الأنباط إلى العرب؟.
في القرنين الثالث والرابع الميلاديين يلاحظ أن الكتابة النبطية قد تطورت حروفها تطوراً سريعاً ومدهشاً. حتى إنها فقدت المسحة النبطية وصبغت بالصبغة العربية يظهر هذا جلياً في نقوش هذين القرنين كالنقوش السبئية المؤرخة ونقش النمارة وفي القرنين الخامس والسادس الميلاديين تقنى الكتابة النبطية تماماً وتندثر ولكن روحها تبقى وتبعث من جديد في كتابة أخرى هي الكتابة العربية الجاهلية كما يظهر في نقشي زيد وحران([liv]).
تلك هي كيفية انتقال الخط من الأنباط إلى العرب في وجهة نظر الدرس الحديث أما أدلة العلماء على صحة هذه النظرية فكانت على النحو التالي([lv]).
(أ) وجود بعض النقوش بالخط النبطي كتبت بلهجة غير بعيدة عن اللهجة العربية التي نزل بها القرآن الكريم وهي مكتوبة بالقلم النبطي المتأخر الشبيه جداً بالخطوط العربية ولاسيما الكوفية منها وذلك مثل نقش أم الجمال الذي يعود إلى 328م ونقش زيد الذي يعود إلى 512م ونقش حران الذي يعود تاريخه إلى 568م([lvi])، ونظراً لأن هذه النقوش تعد من أقوى الأدلة التي تثبت اشتقاق الخط العربي من الخط النبطي نظراً لذلك سأقوم بدراستها دراسة موجزة بعد عرض هذه الأدلة.
(ب) ترتيب حروف الهجاء وكتابتها عند تعلمها على وفق نمط أبجد هوز في صدر الإسلام والذي لا يزال يستخدم في الكتاتيب حتى الآن دليل يشير بنفسه إلى المورد الذي أخذ منه قدماء الكتاب العرب كتابتهم ولهذا نجد الأحرف الستة التي انفردت بها العربية عن اللغات السامية الأخرى وضعت في آخر سلسلة أبجد مما يدل على أنها وضعت فيما بعد ذلك([lvii]).
(جـ) تعبير الكتاب عن الأرقام بما يقابل ذلك بالحروف فالذي يؤرخون أو يعبرون عن الأرقام بما يقابل الأرقام من حروف مازالوا يسيرون في طريقتهم هذه عن طريقة أبجد هوز أي على طريقة ابن إرم القديمة في الترتيب واعتبارهم الأرقام في العربية على تلك الطريقة دليل على أنها من بني إرم([lviii]).
(د) عروبة هؤلاء الأنباط وبالتالي فإن الأخذ عنهم يعد من أيسر الأمور وأقربها إلى الذهن([lix]).
(هـ) قرب بلاد النبط من وسط الحجاز وما كان لقريش من علاقات روحية واقتصادية بك العرب في أنحاء الجزيرة فالجميع يحجون إلى مكة وقوافل التجارة تمر عليها كما يمر القرشيون بمراكز الأنباط وبلادهم في رحلاتهم العديدة المشهورة([lx]).
(و) التشابه الواضح في أسماء الأعلام بين عرب الحجاز وعرب الأنباط([lxi]).
(ز) اشتراك عرب الحجاز والأنباط في العقائد والآلهة مثلاً اللات ومناة والعزى([lxii]).
(جـ) وجود أثر النحو العربي في النقوش النبطية([lxiii]).