بكاء الخنساء بين الجاهلية والإسلام
الخنساء امرأة عظيمة بكل المقاييس، عظيمة بعاطفتها الإنسانية الحانية التي تتدفق كشلال لا يتوقف، وعظيمة بشعرها، يشهد لذلك ما ورد في كتاب الأغاني من أنه كان يضرب للنابغة قبة من أدم حمراء، بسوق عكاظ، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، وأول من أنشده الأعشى، ثم حسان بن ثابت، ثم أنشدته الخنساء:
وإن صخراً لتأتمُّ الهداةُ بهِ ♦♦♦ كأنهُ علمٌ في رأسهِ نارُ
فقال النابغة: لولا أن أبا بصير - يعني الأعشى - أنشدني آنفا لقلت إنك أشعر الجن والإنس!
وهي عظيمة أيضاً بأمومتها وصبرها، وما كان منها من صبر واحتساب يوم فقدت أولادها الأربعة في معركة القادسية.
وقد ذكر ابن قتيبة رحمه الله خبراً موجزاً بيد أن معناه كبير، وهو يبين جانباً من عظمة هذه المرأة، قال: [قالت الخنساء: كنت أبكي لصخر من القتل، فأنا أبكي له اليوم من النار].
كلمات قليلة ولكنها عميقة المغزى، وكم في تراثنا من مثل هذه الأقوال الرائعة والحكم الخالدة التي تحتاج إلى مزيد من التحليل لكي تفقه كنهها الأجيال.
الخنساء تلك الشاعرة الرقيقة التي قالت أعذب شعرها في رثاء أخويها صخر ومعاوية، فما كاد دمعها يجف حتى راحت تذرفه من جديد بكاء على أخيها من النار. بكاء دائم لا ينقطع، ولكن سبب البكاء تغير، كان في البداية حزناً على عزيز فقدته في الحرب، وهو فيما بعد بكاء على مصير هذا الفقيد خشية أن يكون من أهل النار.
هل بكت لأن قلبها يفيض حباً وحناناً؟ أم لأن صخراً كان بمواصفات مثالية لا يمكن أن توجد في غيره بنظرها، أم لأن شجنة الرحم تجعل المرء يبكي ولو لم يرد البكاء وهي أكثر تأثيراً في النساء منها في الرجال؟ وما العمل إذا كان الإنسان لا يملك غير دموعه، أليس عليه أن يبكي حتى لا يموت هماً وكمداً، أليس في البكاء تصبراً، وعنه تقول الخنساء:
فلولا كثرةُ الباكينَ حولي ♦♦♦ على إخوانِهمْ لقتلتُ نفسي
وبصرف النظر عما يقوله علم النفس عن البكاء وبواعثه، نقول إن القلب المكلوم قد لا يهدأ بهذا البكاء، بل ربما يزداد تهيجاً مع كل قطرة، ويصبح البكاء عند ذلك صبغة خاصة تصبغ حياة صاحبه، فلا هو قادر على التخلص منها، وإذا استمر وهن جسمه وضعف بصره، وربما اعتراه ما اعترى يعقوب عليه السلام من كف البصر، قال تعالى: ﴿ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ [يوسف:84]، ومع الحزن تصبح الحياة كئيبة، وظلالها ثقيلة، وأنسها وحشة، ولا يجد المحزون مؤنساً لنفسه غير دمعته، التي ربما توصله إلى التلف مالم تتداركه عناية الله تعالى، انظر إلى يعقوب وهو يكثر من ذكر ابنه يوسف حتى قال له أبناؤه: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾ [يوسف:85].
لقد بكت الخنساء في الجاهلية، ثم تواصل بكاؤها في الإسلام، فهي الآن تؤمن بالبعث والنشور، وأشد ما تخشاه أن يكون صخر من أهل النار، ولكم هو مشهد مفزع أن يرى الإنسان أخاه وحبيبه يقذف في النار، حيث الخسارة الأبدية، وليس ثمة لقاء بينهما فيما بعد، وماذا سينفع أخاه كل الرثاء الذي قالته فيه إذا سلك سبيله إلى النار؟ على أن للعلماء أقوالاً في شأن من مات قبل بعثة الرسول عليه السلام ليس الآن موضع سردها، قال تعالى: ﴿ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [الإسراء:15].
إن في كلام الخنساء قاعدة تربوية عظيمة، فكثير من الناس لا يهمهم من الحبيب أيا كان إلا قربه، والمصالح المشتركة معه، ولا سيما في عصرنا حيث سرت المادة حتى في الفكر والشعور والأدب، فإذا مات حزنوا قليلاً ثم نسوه، ولا أحد يفكر في مصيره في الآخرة، أو يحاول أن يعمل عملاً صالحاً ينتفع به ذاك الفقيد، أما الخنساء فهي تبكي فقيدها وتفكر في مصيره في الآخرة، فيا لقلبها الكبير ما أعظمه!.. رحم الله الخنساء، فهي طويلة البكاء في الجاهلية والإسلام، منَّ الله عليها بنعمة الهداية، وتغلغل الإيمان في أعماقها، فلما رزئت بأولادها لم تكن لتذرف دمعة، وإن كان المصاب هنا أجل وأعظم، لأنها كانت تأمل بأن تلقاهم في الجنة مرة أخرى، فقالت: [الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مستقر رحمته]، وهنا تزول الوحشة عن فقد الأحبة، لأنها تأمل أن تلقى أولادها في الجنة.
ما أعظم العقيدة التي تخفف المصاب، وتجعل الإنسان أقدر على تحمل المواقف الصعبة عند النائبات!.
أ.د. محمد رفعت زنجير
.