قراءة في كتاب (زاد الأديب)
ريم زعفوري
(زاد الأديب) كتابٌ يبدأ بقول عظيم "اقرأ"، وينتهي إلى معانٍ سامية تنفتح على "عوالم حرَّة"، و"مجد دائم"، هو جمع من المقالات في القراءة والكتابة والأدب، صادفت حبًّا في أعماق الأديب المغربي (ربيع السملالي)، جمعها برفق حريص وأناة، من مجلات عربية أدبية وفكرية، قديمة وحديثة، ولسان حاله يقول: "لا يُؤمِن محبٌّ حتى يُحِبَّ لحبيبه ما يحبُّه".
ثم نسَّقها برؤية وذوق، بعث فيها الحياة من جديد جسدًا واحدًا في ثوب أدبيٍّ من حيث الأدب هو مجموعة الآثار المكتوبة التي يتجلَّى فيها العقل الإنساني بالإنشاء أو الفن الكتابي، فليس الأدب إذًا وصف ألفاظ فحسب، ولا هو حشد أفكار فحسب، بل هو الفن الذي يُحسن فيه الإنسان التعبيرَ عن حسن التفكير، والأدبُ الخالص يدلُّ على شخصية الأديب ويكشف عن صور الحياة، ويعبر عن الخواطر والمشاعر النفسية، إنه صورةٌ ناطقة لحياة الأفراد والأمم[1].
وهذه المراجعة قراءةٌ وتعاليق مسترسلة، ﺁخذٌ بعضُها بأيدي بعض؛ ربطًا للمعاني، وتأويلًا للمقاصد؛ بهدف تتبُّع منطق التأليف والتنسيق، اعتمادًا على مفاهيم مستخلَصة من النظريات المعرفية في ميدان علم النفس التربوي؛ لحضور الطابع التعليمي، بمنهجٍ في ذلك مقصود، سِيقت ضمنه المختارات بأسلوب شائق، وعرض مُعلَّل، نقتفي أثره لنتعرَّف كيف يمكن أن نجعل القارئ لا يكتفي بالمعرفة حاضرة مباشرة كما عهِد، بل يُفتِّش بين السطور عن ضالَّته معتمدًا الاستنباط والاستخراج ليكوِّن فسَيْفِسَاءه الخاصة.
"اقرأْ، فبفعل القراءة أنت موجود":
من هنا تنطلق رحلة "فصل في القراءة"، رحلة تحمل مَسْحَةَ جمالٍ لُغَوي، يعزف على أوتار التفاعل النفسي العميق، تجذب القارئَ ليدخل دائرة الترغيب والتحفيز، ويخوض غمار القراءة بعوالِمها السحرية العجائبية، وآفاقها اللامتناهية، فتضعه في مقام سيد المعرفة، وتتحرك العاطفة نحو الكتاب في قالب تَوْعوي، بتحليل موقعه لدى الشعوب على تباين ثقافاتها، وأثره فيها، مع الأمثلة والتجارب؛ مما يُعيد إلى السطح مقولةَ: "وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتاب"، فكرة لا انزياحَ عنها في عصر الثورة الإعلامية الذي نعيشه، دون الاستخفاف بقيمة ما توفره شبكة الإنترنت من مقالات ودراسات مهمة، رغم اختلاط المعلومة فيها إلى درجة جعلَتْها لا تتمتع بأية (رهبة معرفية) لدى مستعملها الجاد، "وعليه، فإن الفيصل الذي يُحدِّد قيمة هذا وذاك هو العين النقدية الثاقبة للباحث الذي يعرف هدفَه، والمتيقِّظ لكل الهَنَات والثغرات".
من أجل ذلك؛ يبقى هذا العالَمُ أجملَ بين دفَّتَي كتاب، فلو فتح حوار مع الكتب لعرَف معنى الصحبة والصداقة، وكيف يغدو هذا الصاحب مرآة واقع، وسُلَّم نجاة، وسبيل خلاص في أحلك المحن، ويتواصل إذكاء عاطفة القارئ لنسج جسور وصل متينة نحو عشق الكتب بعد التأكد من استعداده بتوفر أسباب التركيز والشغف للمعرفة، فيطالعه مقال بعنوان (إعارة الكتب من منظور عاشق)، قصد توثيق هذه العَلاقة وتِبيان آدابها، بسوق الحجج مفصَّلةً في محطة تعليمية ترسيخية، يعي من خلالها قيمة هذا الكتاب ورفعة شأنه عند محبيه، ومَن تعمقوا في بحور الوفاء له حتى قالوا:
ألا يا مُسْتعيرَ الكُتْبِ دَعْنِي
فإنَّ إعارتي للكُتْبِ عارُ
فمحبُوبي مِن الدنيا كتابِي
وهل يا صاحِ محبوبٌ يُعارُ
وهنا يأخذ مسارُ الرحلة اتجاهًا جديدًا في الإحاطة بالموضوع؛ عبر تأملات في صروف الحياة، ليطرق البعد الثقافي للكتاب ومكانته الحضارية، وسيرًا من التاريخ عنه، فيشحذ الهمم، ويوقظ رابط الهُوِيَّة والحنين الكامن نحوها، فيا ليتنا نبقى كما كنا (أمة كتاب).
واستجابةً لِما سبق في امتداد للتعزيز الإيجابي عبر إجراء الخيار المناسب، يدفع القارئ للتفاعل بمواجهة أول سؤال: لماذا نقتني الكتب؟
فتتوضح مكانته بين مصادر المعرفة الحديثة، بمناقشة نقطة الموضوعية، وعناصر الرصانة والاحترافية العلمية، فمهما قَوِيَت جاذبية بريق الحداثة، إلا أن الشوق إلى المعرفة الصافية لا يشفيه سوى العودة إلى منابعها الأصلية بين صفحات الكتب من جهة، وإحياء القراءة في الأسرة من جهة أخرى؛ فإن بؤرة الخلل أو الصلاح والعقدة، التي إن وهنت وتراخت في الوعي بمسؤوليتها، كانت المعضلة الشاملة، فيناقش الموضوعَ باحثٌ في الدراسات الأسرية، مقدمًا منهجًا دقيقًا، بتوجيهات فعالة لمعالجة إشكالية العزوف عن القراءة، عبر آليات طريفة ناجعة تنهض بأمة (اقرأ)، ليكون واجبًا تفصيلُ القول في المطالعة وبيان أبعادها، والتصاقها التلازمي بمختلف شرائح المجتمع، على تنوع مستوياتهم العلمية؛ لِمَا لها من فضل في إثراء زادهم المعرفي، وَفْق ما ترغب فيه النفس ويميل إليه الطبع، ثم لا ننسى أننا مَن نصنع رُقيَّنا، ولو أردنا أن نعرف مقدار رُقِي بلد، فلننظر إلى عدد الكتب التي تُباع فيه،هذه الكتب تصير مع الزمن كنزًا عزيزًا على مالكها؛ حتى يؤرقه يومًا مصيرُها بعده، وتلح عليه فكرة وراثة الكتب بشجونها، ويواسي نفسه بعزاء ليس فيه سوى الإكبار لهذه الثروة، فخيرُ ميراثٍ وُرِّث كتبٌ وعلم، وخير المورِّثين مَن أَوْرَث ما يجمع ولا يفرِّق، ويبصِّر ولا يعمي، ويعطي ولا يأخذ،فيطرح السؤال: كيف تقرأ كتابًا وتستفيد منه؟
يعيد شدَّ انتباه القارئ، يحثه على الانتفاع مِن سيل المعارف بين يدَيْه، فالقراءة فنٌّ له قواعده وأسسه؛ إذ ليس كل مَن حمل كتابًا قرأ، وليس كل مَن قرأ خرج بفائدة، ما دام لا يدرك كُنْه فعل القراءة وقيمة الكلمة والفكرة متى صادفها، وكيفية التعامل معها لتنمية ملكته، ليتزوَّد عند هذه المرحلة بتوجيهات عملية تطبيقية مُعلَّلة واضحة، ذات أثر مباشر منهجًا وأسلوبًا، مع جمع لا بأس به من الإحالات إلى مراجعَ مختصَّة في الغرض، ممهدًا لعرض فوضى الأدغال الورقية، محنة قرصنة الكتاب في العالم العربي وأبعادها بين مجتمع فقير، مِن حق الناس فيه أن يقرؤوا ما لا يستطيعون شراءه، وما خلف هذا من حقوق مهدورة وتعديات صارخة.
ليكون المقالُ الختاميُّ في فصل القراءة جامعًا: (ماذا ولماذا وكيف نقرأ؟) وَفْقَ صيغة تأليفية، كأنه يقوم القارئ ويُنبِّهه ليراجع ما رسَخ عنده، ويحثه أن يستفيد قدر جهده مما كسب، ويتعرَّف موقعه وطاقاته.
في المقال كلُّ أصناف القراء، فيجد الجميع بعضًا مِن ذواتهم في عبارة هنا، أو جملة هناك، ويتبينون أُولى لبنات الوَعي التي لا يمكن الاستمرار قبل تركيزها، هو أن "الإنسان في الواقع لا بد أن يكون عضوًا نافعًا في الحياة".
ولَمَّا كانت القراءةُ هي التوءم الوسيم للكتابة، وبمنطق اللَّبِنة التي تعاضد ما جاورها حتى يرتفع البناء متماسكًا، يفتح الباب الثاني (فصل في الكتابة)، مقدمًا منذ البداية معنى أن تكون كاتبًا في وطن عربي، إلى جانبه مقال آخر بعنوان: (أنا لا أكتب، بل أتجمل!)، وفي الاثنين عرضٌ لعيِّنات تلمس الجانب المخفي من عالم الكتابة، الصوت الثاني الذي لا يصل القارئ العادي، ويبقى حبيسًا خلف أغلفة الكتب اللماعة والمقالات جيدة العرض؛ صوت المعاناة، صوت الغرور، صوت الحيف والظلم والنكران، كاتب يقولون عنه مسكين، يرمونه بنظرات الشفقة البائسة، وكاتب واهمٌ مغرور لا يكتب بل يتجمَّل، ويسألني سائل عن شروط الكتابة، وإن كانت مخصصة فقط لحمَلة الدكتوراه، فلا يكون مجال سوى لتفسير معنى هذه الألقاب الخاوية، وما يفصلها عن ميدان العمل الجاد والموهبة.
غير أن الكتابة أساسًا فنٌّ كما القراءة، ولها مفاتيحها، أما الأمثلة التي تقدم عرضها، فقد وجب هدمها والحذر من مزالقها، ثم ينطلق الغوص المعرفيُّ التأسيسي للمرة الثانية، عبر طبقات التاريخ، فتنكشف مكانة الكتابة في مدِّ جسور المعرفة والحضارة عبر زمن الوعي الإنساني، ليس ذلك فحسب، بل أضحت وسيلة للسموِّ النفسي والوجداني، ومنه خلقت لذة الكتابة، وانبعث معنى الخلود مع النصوص التي تحيا إلى الأبد، تقاوم الفناءَ بقدرتها على الوصول واختراق الزمن والمسافة، مع الاحتفاظ بقوة تأثيرها، فيلح سؤال منطقي: كيف تصبح كاتبًا نافعًا لأمَّتك؟
تأتي الإجابات عليه مفاتيحَ ذهبية تحمل حلولًا لمشاكل قد تعترض سبيل هذه الغاية وَفْقَ سيرورة وقواعد تدعم أركان البناء الآخذ بالارتفاع، فينفتح بابٌ لنقد الذات، بأسلوب محكم، وتوجيه مدعم بالأمثلة والتحفيز، فالكاتب الحق هو مَن يحمل أمانة القلم وأمانة الكلمة.
ويتقدَّم السير للنظر في (رأي حين يكتب المبدع)، هي تحدِّيات فرضها الواقع على الأديب حامل القلم، تستدعي الثبات والصبر، فكم مِن عمل مهمٍّ بُخِسَت قيمته، وكم تصبح عندها الكتابة شاقة جدًّا حين لا تُقيَّم بطريقة جيدة، وليستوعب القارئ الطموح التحدياتِ المطروحة مع الكتابة في زمن تضاؤل القراءة، وجب أن يدرك حينها أزمةً يعانيها الحقل الفكريُّ بانسلاخ الأفراد عن أحد أهم مقومات الثقافة والحضارة لَمَّا هجروا الكتاب، لولا مبايعة شرائح بالوفاء له، وهم شعلة الإيمان في الظلمات، فإن تساءلت: لماذا أكتب؟
كانت الإجابة: اكتب لهم، اكتب والكتابة أمانة، اكتب في مجال تحسنه حتى لا تضيع وتضيع، ومتى حملت القلم ضَعْ مقولة الحافظ ابن حجر نصب عينيك: "ومَن تكلم في غير فنه، أتى بهذه العجائب"، وتبقى الأخلاق هي الداعمَ الأساس للقلم والفكر؛ ما يوجب الاعتراف بفضل السابقين، وتوخي الأدب والتواضع، فأنت حسنة مِن حسناتهم، شعرت أم لم تشعر.