سلسلة (عالم ورأي)
تهدف هذه السلسلة إلى استجلاء رأي عالم من علمائنا حول قضية من القضايا، أو عقبة من العقبات التي تواجه أبناء العربية، أو طرح رؤية لاستنهاض الهمم وتحفيز العزائم. فإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر.

91-الدكتور محروس بُريّك-أستاذ النحو والصرف والعروض المشارك بكليتي دار العلوم جامعة القاهرة، والآداب والعلوم بجامعة قطر، ورأيه في: هل يُعدُّ المجاز مجازًا واحدًا أم أنه درجات متباينة؟ وما دور النحو في تشكيله وإبداعه؟
المجاز ليس مجازًا واحدًا، وإنما هو درجات، وتختلف كل درجة عن الأخرى في كيفية بنائها بناءً نحويًّا دلاليًّا. ويمكننا – بوجهٍ ما– أن نجعل المجاز إما مجازًا من الدرجة الأولى (ويدخل تحته كثير من المجازات التركيبية الموروثة في الشعر العربي القديم، وغالبية المجازات الإفرادية). وهـو نوعٌ قريبُ المأتـى. أو مجازًا من الدرجة الثانية (ويدخل تحته كثير من المجازات الجديدة في الشعر المعاصر، وأكثرها مجازات تركيبية قائمة على العلاقات النحوية بين المفردات). ويفترق النوعان فيما يلي:
في النوع الأول: يمكن تحديد السمات الانتقائية (الدلالية) للمفردات؛ كما في نحـو: (فلانٌ بحرٌ، وفلانٌ كثير الرماد ...)، وعندئذٍ تكون (الجهة الجامعة) هي: (المشابهة، أو التلازم، أو إحدى علاقات المجاز المرسل).
وفي النوع الثاني: لا يمكن تحديد السـمات الانتقائية للمفردات تحديدًا نهائيًّا؛ كما في: (صـلاةٌ زرقاء)، و(صوتٌ دافئ)، ونحو ذلك. وعندئذٍ تكون (الجهة الجامعة) هـي مجرد (منطق التداعي) النفسي أو العاطفي، أو تكون (المفارقةَ الدلاليةَ) التي قد تصل إلى حد (مزج المتناقضات)، كما في قول الشاعر:
أعِدْ على سمعي نشيدَ السكون حلوًا كمُرّ النَّسَم الأسودِ
وهذا النوع الثاني من المجازات إنما يكون تعبيرًا عن الحالات النفسية والأحاسيس الغامضة المبهمة؛ لذا فهذه المجازات ليست مبنية على إقامة علاقات منطقية مفهومة بين الأشياء يمكن إدراكها بالعقل، بل إنها –على حد تعبير أستاذنا د. علي عشري زايد- غالبًا ما تقوم على تحطيم العلاقات المادية والمنطقية بين عناصرها ومكوناتها لتبدع بينها علاقات جديدة. فلم تعد – إذن – علاقات المشابهة أو التلازم أو علاقات المجاز المرسل، لم تعد هي العلاقات الأساسية في القصيدة المعاصرة التي يجمع فيها الشاعر بين الأشياء المتنافرة ليسلكها في سلك شعوريّ نفسيّ واحد.
هذا كلّه يؤكد أن النحو بعلاقاته عنصرُ (بنَاءٍ)، له دور أساسيّ في تشكيل المجاز بالربط بين المفردات المتنافرة، في الوقت الذي تُحطَّم فيه العلاقات الدلالية والمنطقية، التي لو اعتبرها الشاعر لأصبحت عنصرَ (هدمٍ)؛ لأنها لا تجيز اجتماع المفردات المتباعدةِ الدلالة، بَلْه المتناقضة؛ ومن ثَمَّ فالنحو هو الذي يصنع المجاز، وهو سرّ إبداع مثل تلك المجازات الجديدة.
لكنْ تنبغي الإشارة إلى أمورٍ:
أولها: أن هناك بعضَ المجازات التي يمكن تحديد سمات مفرداتها، ورغم ذلك تعد (مجازات من الدرجة الثانية) لكونها (مجازات قائمة على استثارة الحواس والمشاعر) أكثر من قيامها على مجرد التشابه الحسي بين الأشياء؛ ومن ثَمَّ ينبغي ألا يُبحث عن التشابه بين عناصر هذه المجازات حيث لا تشابه، فمثل هذا البحث عن التشابه المتوهَّم يُعد (بحثًا عن علاقة حسّية لا وجود لها).
ثانيها: لا يعني كون المجاز من الدرجة الثانية أنه أفضل من صِنْوه. فالأفضلية إنما تكمن في مدى تأدية الجملة المجازية للمعنى المراد، ومدى تلاؤم ذلك المعنى مع السياق العام الذي ترد فيه الجملة؛ سواءً أكانت هذه الجملة مجازًا من الدرجة الأولى أم الثانية.
ثالثها: أن ما نصَّ عليه علماء النحو والبلاغة من ضرورة (إقامة القرينة) المانعة من إرادة المعنى الحقيقي، إنما هو أساس تفسيري يعتبره المتلقي، وليس أساسًا بنائيًّا يشغل المبدع عند بناء المجاز.
هذا فضلًا عن أن من يقول بإقامة القرينة إنما ينظر إلى المجاز بوصفه فرعًا عن الحقيقة، وتلك مسألة إن صدقت على بعض المجازات المباشرة، فإنها لا تصدق على المجازات الإبداعية التي أنتجها الشاعر بعيدًا عن شبح الحقيقة، وبخاصة تلك المجازات المُحدثة في الشعر المعاصر.
رابعها: أن السياق له دور رئيسٌ في تحديد معنى المفردة، وأحيانًا في توجيه معنى الجملة، فالمبدع يعتبره لأنه (لكل مقام مقال). لكن السياق لا يرقى إلى أن يصبح عنصرًا بنائيًّا رئيسًا في تشكيل المجاز، كما هو الحال في العلاقات النحوية والمفردات. في حين أنه يُعد عنصرًا تفسيريًّا يُعين المتلقي على فهم المعنى.
حوار ونقاش: د.مصطفى يوسف