الفتوى (1317) :
اختلف النحويون في جواز وقوع الفعل الماضي خبرًا لكان وأخواتها ما عدا ما زال، وما فتئ، وما برح، وما انفك، وما دام، وصار، وكان التي بمعنى صار، فهذه الأفعال لا يجوز وقوع الماضي خبرًا لها، أما كان وأخواتها الأخرى فمن النحويين من أجاز وقوع الماضي خبرًا لها مطلقًا، ومنهم من أجاز ذلك بشرط اقتران الماضي بـ(قد) ظاهرة أو مقدرة.
فمن أجاز بالشرط المذكور احتج بأن هذه الأفعال تفيد اتصاف المبتدأ بالخبر في الماضي، فإذا جاء الخبر فعلًا ماضيًا استُغني عن كان وأخواتها، وإنما أجازوه إذا اقترن الماضي بقد لفظًا أو تقديرًا لأن قد تقرب الماضي من الحاضر.
وحجة من أجازه مطلقًا أنه إذا وقع الماضي خبرًا لهذه الأفعال فالفعل الناقص يدل حينئذ على وقت اتصاف المبتدأ بالخبر في الماضي، فنحو: أصبح زيد خرج، يدل على أن خروج زيد الماضي كان في وقت الصباح، أما نحو: كان زيد خرج، فيدل على أن خروج زيد الماضي كان في الماضي، فيكون من باب التأكيد.
وحجتهم من السماع أنه ورد ذلك في القرآن وفي الشعر، وقد أورد أبو حيان طائفة من الشواهد مثل قوله تعالى: {إن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ}، {وَإن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ}، {إن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}، {إن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي}، {إن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ}.
فقال المشترطون: إن الذي سوَّغ ذلك في هذه الشواهد هو دخول أداة الشرط على "كان" لأنها مخلصة للاستقبال، وكأنه قال: إن يكن قميصه قُدَّ من قُبُل.
قال أبو حيان هذا "اعتذار لا يطرد لنقضه بقوله تعالى: {ولَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ}، وبقوله: {أَوَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم}، وبقول الشاعر:
وكان طوى كَشْحًا على مُسْتكِنَّةٍ*** فلا هو أبداها ولم يَتَجَمْجَمِ
وقول الآخر:
وكُنَّا حَسِبْناهم فوارسَ كَهَمْسٍ *** حَيُوا بعدما ماتوا من الدهر أَعْصُرا
وقول الآخر:
وكُنَّا وَرِثْناه على عَهْدِ تُبَّعٍ **** طويلًا سَوارِيه شديدًا دعائمُه
وقول الآخر:
وكنا حسبنا كلَّ بيضاءَ شحمةً *** عشية لاقينا جُذَامَ وحِمْيرا
وقول الآخر:
وأصبحت ودَّعتُ الصِّبا غير أنني*** أُراقبُ خُلَّاتٍ من العيش أربعا
وقول الآخر:
ورَأَوا عُقابَهم المُدِلَّةَ أصبحتْ *** نُبِذتْ بأَغَلبَ ذي مخالب جَهضَمِ
وحكي الكسائي عن العرب: "أصبحت نظرت إلى ذات التنانير" يعني ناقته.
وقال الشاعر:
أمستْ خَلاءً، وأمسى أهلُها احتملوا *** أَخْنى عليها الذي أخنى على لُبَدِ
وقال الآخر:
فأمسى مُقفرًا لا حيَّ فيه *** وقد كانوا، فأمسى الحيُّ ساروا
كانوا ناقصة، والخبر محذوف. أي: وقد كانوا فيه.
وقال الآخر:
ثم أضحوا لَعِبَ الدهرُ بهم***وكذاك الدهر حالًا بعد حالِ
انتهى كلام أبي حيان.
قلت وقد وجدت طائفة أخرى من الشواهد نحو قول المتنخل:
رُمحٌ لَنا كانَ لَم يُفلَل نَنوءُ بِهِ *** توفي بِهِ الحَربُ وَالعَزّاءُ وَالجُلَلُ
وكقول المثقب العبدي:
فَتَعَزَّيتُ خَشاة أَن يَرى *** جاهِلٌ أَنّي كَما كانَ زَعَم
وقول أبي الإصبع العدواني:
يا مَن لِقَلبٍ شَديدِ الهَمِّ مَحزونِ اَمسى تَذَكَّرَ رَيّا أُمِّ هارونِ
وقال الأسود بن يعفر النهشلي:
أتوني فلم أرضَ ما بيَّتوا*** وكانوا أتوني بشيءٍ نكرِ
وقول زهير:
كَما قَد كانَ عَوَّدَهُم أَبوهُ إِذا أَزَمَتهُمُ يَوماً أَزومُ
وقال عبيد بن الأبرص:
وكان اللَّهو حالفني زمانا ** فأضحى اليوم منقطعَ القرينِ
وقال الراعي النميري:
وقد كان مات الجُودُ حتى نَعشتُه*** وذَكيتُ نارَ الجودِ والجودُ خامدُ
وقال الفرزدق:
إذا ما هبطنا بلدةً كان أهلُها***بها وُلِدُوا يَظْعَنْ بها كُلَّ جارمِ
وقال ابن الدمينة:
بذلك كان أوصاني جُدودي*** فأرعى عهدهم والجَدُّ موصي
وقال أبو وجزة السعدي:
فإن كان قومي أصبحوا حَوَّطتْهم*** نوى ذات أَشطان لبعض المطارحِ
أما دلالة كان الواقعة فعلًا للشرط وبعدها الفعل الماضي في نحو قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا...}
فإنّ (كان) هنا تجعل فعل الشرط واقعًا في الماضي، فالفرق بين (إن آمنوا) و(إن كانوا آمنوا) أن فعل الشرط (آمنوا) في المثال الأول ماضٍ في اللفظ مستقبل في المعنى، أما في المثال الثاني فالفعل (آمنوا) ماضٍ لفظًا ومعنى، أي إنْ تبيّنَ في المستقبل أنهم آمنوا في الماضي..
أما دلالة الماضي غير المقترن بقد الواقع خبرًا لكان في نحو: كان زيد خرج، فهي أن الفعل خرج ماض على سبيل التأكيد.
وأما دلالة الماضي المقترن بقد الواقع خبرًا لكان في نحو: كان زيد قد خرج، فهو أن الفعل خرج ماض قريب من الحاضر.
اللجنة المعنية بالفتوى:
المجيب:
أ.د. بهاء الدين عبد الرحمن
(عضو المجمع)
راجعه:
أ.د. أحمد البحبح
أستاذ اللغويات المشارك بقسم اللغة
العربية وآدابها بكلية الآداب جامعة عدن
رئيس اللجنة:
أ.د. عبد العزيز بن علي الحربي
(رئيس المجمع)