قراءة في كتاب "المدخل إلى كتابي عبد القاهر الجرجاني" للدكتور محمد محمد أبو موسى
الباحثة: فرح الشويخ
تمهيد:
يعد عبد القاهر الجرجاني أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي، وإمام البلاغة والنقد في الأدب العربي، فهو مؤسس علم البلاغة وواضعُ أصولها، ويعد كتاباه " أسرار البلاغة " و"دلائل الإعجاز" من أبرز مؤلفاته وأشهرها في هذا المجال، فمن خلالهما أرسى دعائم " نظرية النظم"، وتمثل هذه النظرية ذروة ما وصل إليه البحث البلاغي خلال القرن الخامس، فبعدما كانت البلاغة قبله عبارة عن كلام غامض في أوصاف الشعر وبلاغة الكلام الذي جرى على لسان الكتاب وحذاق الشعراء والعلماء والبلغاء من طبقة الجاحظ، جاءت مرحلة عبد القاهر الجرجاني الذي مثل وحده جيلا وعصرا ومرحلة، و استطاع أن يجمع بحذق بين كلام البلغاء الذي يمثل الجاحظ قمته وعلم معاني النحو الذي يمثل سيبويه قمته أيضا، فكان بذلك أن جمع بين علمين شامخين استخرج منهما مادته التي أسس عليها علم البلاغة.
وقد اكتست نظرية النظم أهمية كبرى في تاريخ البحث البلاغي على مر العصور، واكتسبت كتب عبد القاهر الجرجاني شهرة واسعة في هذا المجال لاسيما كتابا " أسرار البلاغة " و"دلائل الإعجاز" اللذان أودعهما جل مجهوده الفكري والعلمي، " ويترجح أن هذا الكتاب [أي الأسرار] بمثابة المقدمة لكتاب دلائل الإعجاز الذي عقده للبحث عن الشيء الذي تجدد بالقرآن فبان به وبهر وقهر وقطع الأطماع، وهذا لا يمكن أن يعرفَ إلا إذا أحكمنا الأصل الذي قام عليه كتاب أسرار البلاغة، وهو معرفة الأصل الذي به يفضل كلام كلاما ووازنا ذلك بالقسطاس كما قال الشيخ، ولا يستطيع أحد أن يدرك شيئا من إعجاز القرآن ما دام قد فَقَدَ القدرة على تمييز الكلام ومعرفة فاضله وأفضله".
وقد شَكَّلَ هذان الكتابان المصدر أو الأصل الذي انبثقت منه الشروح والحواشي في محاولة لتذليل الصعوبات وحل الإشكالات التي تواجه الدارسين أثناء قراءة هذين الكتابين والتي تقف عائقا أمام الكشف عن جوهر نظرية عبد القاهر والاستفادة منها في علوم البلاغة العربية، ومن أبرز الكتب التي تطرقت لهذه المسألة كتاب " المدخل إلى كتابي عبد القاهر" للدكتور محمد محمد أبي موسى، ويعتبر هذا الكتاب من الكتب النافعة في هذا الميدان، فقد أخذ المؤلف على عاتقه مهمة الكشف عن المؤاخذات والانتقادات حول الكتابين ورد الفاسد منها وتأييد الصالح منها، كما عَمل على شرح بعض المسائل البلاغية الغامضة في الكتابين في محاولة لتقريبها من القارئ، فضلا عن بيان منهج عبد القاهر ومصادره التي استخرج منها علمه، وكذلك الكشفُ عن جوهر فكرته البلاغية التي استنبط منها نظرية النظم والتي كان الهدف منها بيان وجه الإعجاز في القرآن والشيء الذي يُرَدُّ إليه هذا الإعجاز.
وصف أبواب الكتاب:
أدار المؤلف موضوع هذه الدراسة، التي كان هدفها البحث في جوهر الدراسة البلاغية عند عبد القاهر من خلال كتابيه " أسرار البلاغة " و "دلائل الإعجاز" حول عشرة مباحث متفاوتة الحجم. وعند النظر والتأمل يمكن تقسيم هذه المباحث أو الفصول إلى ثلاثة أقسام كبرى ، أولها القسم المخصص للمسائل المنهجية ويشمل المبحث الأول المعنون بـ "عبد القاهر و الشيخان الجاحظ و سيبويه " ، والقسم الثاني المخصص للمسائل الشكلية ويشمل المبحث الثالث المعنون ب " الترتيب والنظام في الكتابين " ويدرس في هذا المبحث مدى مراعاة عبد القاهر للترتيب والنظام في الفصول والأبواب ، أما القسم الثالث فهو المخصص للمسائل المعرفية وهو الأوفر حظا من بين الأقسام الأخرى، ويشمل جميع الأقسام الأخرى المتبقية.
وقد صدَّر المؤلف كتابه بمقدمة هادفة اشتملت كغيرها من مقدمات الدكتور محمد محمد أبي موسى على أهداف معرفية كالكشف عن غرضه من الكتاب المدروس حيث قال :" إنني أردت أن أكتب في هذا الكتاب شرحا لمسائل لم يدخلها المتأخرون في فنون البلاغة "، كما كَشَفَ عن الطريق المؤدي إلى تجديد الدرس البلاغي والذي ربطه بكشف أصول منهج عبد القاهر، بالإضافة إلى تحديده لتاريخ البلاغة ومؤسسها وما دار في هذا التاريخ، إلى جانب أهداف فكرية وإنسانية حيث نبه إلى إشكالية جهل المسلمين لمناهجهم المؤسَّسَة على الاجتهاد والاستنباط والمؤسِّسة للمعرفة الحقة، هذا الجهل الذي يترتب عليه دخول العقل العربي في سرداب ضيق وعفن ناتج عن تتبع مناهج الغربيين وطرقهم، وتغييب علوم الإسلام و آداب العرب ومناهجهم، لكنه في المقابل يحيلنا على الطريق الذي منه الخلاص وهو الصبر وطول المراجعة وشدة اليقظة وتكرار النظر مما ينتج عنه توسيع آفاق المعرفة في محاولة لتوعية هذا الجيل الجديد.
وقد خَصَّ المؤلف المبحث الأول من مباحث الكتاب بتحديد المصادر التي كونت البناء العلمي لعبد القاهر، بالإضافة إلى تحديد القناعات التي انطلق منها في تحديده لهذه المصادر والمسلك الذي سلكه الشيخ في طريق الكشف عن الغموض وتفسير المبهمات التي واجهته وهو يتلمس طريقه في خدمة العلم مع بيان فضله وعلمه وعطائه بأن نَقَلَ علم البلاغة من حيز الإبهام والرمز والغموض إلى حيز المعرفة المضبوطة والقواعد المحكمة.
وفي المبحث الثاني شرح المؤلف أهمية مقدمات الكتب وما تنطوي عليه من مقاصد، وكذلك شرح منهج عبد القاهر في تحليل لغة المعرفة وأصل هذا المنهج، كما قام بتحديد حقيقة الإبانة عن المعاني وكذلك حقيقة البيان الذي كان عبد القاهر كَلفاً بمعرفة حقيقته وكنهه وأسراره ودقائقه والشيء الذي يرجع إليه جوهر البيان، وقد بسط المؤلف حديثه في هذا الفصل أيضا عن الألفاظ وما يراد بها ومعناها وترتيبها.
أما في المبحث الثالث فقد قام المؤلف بإبطال الفكرة القائلة بعدم مراعاة عبد القاهر للترتيب والنظام في الكتابين مستعرضا النصوص القاطعة بحرصه على ذلك، كما أشار إلى الباب الذي فتحه عبد القاهر وهو باب السرقات الشعرية حيثُ أولاه الشيخ عناية مميزة عن سابقيه.
وفي المبحث الرابع يعود المؤلف من جديد ليثير مسألة اللفظ في أسرار البلاغة والذي قام فيه الشيخ بنقض وبيان فساد القول بمرجع المزية في بلاغة الكلام إلى مجرد اللفظ، كما قام المؤلف بتحديد جذور النغم إلى ما قبل الجناس الاصطلاحي وعمل على استخلاص القيمة البلاغية للسجع وشروط استحسانه، وختم هذا المبحث بحديثه عن الحرية باعتبارها جزءا من فطرة الأشياء والتي تنعكس على أدب الإنسان وعلمه وفكره.
وبعدما فرغ المؤلف من ذلك انتقل في المبحث الخامس إلى الحديث عن مسائل أسرار البلاغة؛ كالحديث مثلا عن وجه ترتيب هذه المسائل ودفع شبهات التعارض عن كلام الشيخ كما أشار إلى القضية الأساسية والموحدة في الكتابين الشيء الذي يفسر التشابه الكبير بينهما من ناحية البناء، وهي قضية إسقاط القول برجوع المزية إلى اللفظ . كما عمل المؤلف على تحديد منهج الشيخ في تحليل النصوص وعنايته الشديدة بضبطه وفي هذا السياق نَبَّهَ على ضرورة إحكام هذا المنهج. مع عَرْض الغرض الأساس للشيخ من الكتاب والذي من أجله وضعه، وفي هذا المبحث أكثر المؤلف من الحديث عن التشبيه باعتباره بابا من أبواب دراسة المعاني عند عبد القاهر، وقد أشار أيضا إلى عنايته بدراسة باب السرقات، ويختم هذا المبحث بمراجعته لتقسيم عبد القاهر للمعاني إلى عقلية وتخييلية وانتقاده لهذا التقسيم.
ينتقل المؤلف بعد ذلك إلى المبحث السادس المعنون بـ" عبد القاهر يستكشف جوهر البلاغة" حيث عمل على تحليل بعض الآيات القرآنية التي أكدت على أن الإعجاز في القرآن إنما هو قائم بالمعاني وأن تصفية لغة النقد الأدبي من الغموض كان من أهداف الشيخ - رحمه الله -، كما حدد مرادَ الشيخ بخالص علم الإعراب ومراده أيضا بفقه المطابقة الذي اعتبره الشيخ أصل الكلام كله وعموده، كما سعى إلى تحليل كلام الشيخ في جوهر البلاغة ومحاولته فهم الجهة التي هي أصح لتأدية المعنى.
أما المبحث السابع الذي خصه المؤلف بوشائج الكلام وصنعة الشعر فقد بَيَّنَ فيه المؤلف عناية عبد القاهر ببيان أصل الكلام وروابطه وعلاقاته ووشائج كلماته وطريقة عبد القاهر في معالجة مسائل علم البلاغة، وكذلك وجوبُ معرفة المادة التي يقوم عليها الدرس والدراسة البلاغية التي تحْدُثُ فيها صنعة الشعر والبيان، وقد عَمل المؤلف أيضا على تحديد أبكار المعاني أي صورها وهيآتها وأشكالها.
وقد انصَبَّ حديث المؤلف في الفصل التاسع على المعنى؛ من تحقيق القول في هذه الكلمة والزيادات التي تحصل في أصول المعاني وهيآتها وصورها وخصوصياتها مع بيان ذلك في نماذج من شعر الشعراء كزهير وأبي تمام.
وقد أفرد المؤلف للتمثيل مبحثا خاصا به وهو المبحث العاشر من مباحث الكتاب؛ بَيَّنَ فيه أساس التمثيل ووجه الشبه فيه، مع تحديده أيضا لتقسيمات عبد القاهر في التمثيل وبيان أثره في النفس وفي المعنى نفسه، أي بيان قيمته البلاغية وقيمته في الأداء الأدبي وكذلك بيان أسباب هذا التأثير.
مضمون الكتاب:
يبدأُ المؤلف كتابَه ببيان أهمية معرفة مصادر المادة العلمية، إذْ تضيف إلى متعة الفهم ومتابعة حركة عقل المؤلف شيئا جديدا هو كيفية تعامل هذا العقل مع المادة العلمية أو البناء الفكري الذي عاش فيه، كما أن معرفة هذه المصادر تمنح القارئ فهما آخر للكتاب وتذوقا آخر لمادته، وهو أمر يهدي إلى التعرف على طريقة فهم المؤلف للكتب التي كان يطلع عليها، والتي أمدته بالأفكار والخواطر.
وقد ذكر المؤلف أن الشيخين الجاحظ وسيبويه كانا من أصحاب البيان الذي يُعتَدُّ به، ولم ينتفع عبد القاهر بالجاحظ وسيبويه في الجزئيات فحسب، وإنما دخلا عنده في صلب مادته العلمية، هذه المادة القائمة على النحو والشعر، وهما العلمان اللذان استخرج منهما علم البيان، لأن الشعر - كما قال - هو معدن البلاغة، والنحوَ هو الناسب لها الذي ينميها إلى أصولها ، وقد أشار عبد القاهر إلى هذه الرابطة التي تجمع الشعر بالنحو وأن البلاغة نتاج ما بينهما.
ومما أعان عبد القاهر على تفجير هذا العلم – حسب المؤلف – التأمل والصبر والمراجعة لأوصاف أهل البيان للشعر، وأبرزهم الجاحظ الذي كان له أثر واضح في تنوير طريق عبد القاهر الذي سلكه وفتح به باب علم شريف. وقد عانى عبد القاهر وهو يتلمس طريقه في هذا العلم مشكلة غموض المصطلح، غير أنه سلك طريقه في كشف هذا الغموض مسلكا دقيقا، مع العلم بأن الذي شرحه الشيخ لم يكن قائما في نفوس العلماء والبلغاء الذين صاغوا هذه اللغة الرمزية الخاصة بهم.
وقد انتقل المؤلف بعد ذلك إلى بيان أهمية مقدمات الكتب؛ لأنها تشرح قضية الكتاب والقصد الذي يقصد إليه صاحب الكتاب، ثمّ أشارَ إلى المنهج الذي وضعه عبد القاهر لتحليل المعرفة وأصل هذا المنهج الذي يقوم على تحليل لغة هذه المعرفة، كما حدد الغاية من البلاغة، وهي البحث عن المعاني وأسرارها وصورها وسبر أغوارها. وقد جعل الإبانة عن المعاني مقياس الكلام وميزانه الذي يوزن به، لأنها ما دامت غاية وجود البيان فيجب أن تكون قياس فضله، وهي جوهر الشعر والأدب وقياس الشعر وعيار تقديره كما قال. ويرى المؤلف أن دراسة عبد القاهر في كتابيه ليست إلا تحليلا للإبانة، وإذا كانت هذه الأخيرة هي جوهر الشعر فإن العلاقات والروابط بين الكلمات هي التي يرجع إليها جوهر البيان وليس الألفاظ؛ لأن هذه الأخيرة حسب المؤلف مشتركة بين أهل اللغة جميعا، ويحيلنا المؤلف إلى أهمية معرفة الأفكار التي صاحبت الشيخ منذ بدأ في خدمة العلم كوجوب الانتقال من نظم اللفظ إلى نظم المعنى، أو بصيغة أخرى الانتقال من الألفاظ المرتبة في النطق إلى جذورها وأصولها وهو ترتيب المعاني في النفس على قضية العقل.
كما نَبَّهَ إلى أن عبد القاهر أنكر تكلف الأحوال الإيقاعية ولم ينكرها أساسا، لأن الكلام المطبوع الذي تجري فيه هذه العناصر الصوتية على طبيعتها فهو حَسَنٌ عنده ولم ينكره، وأشار المؤلف أيضا إلى مراد الشيخ بجوهر العمل البلاغي وهو التركيب والصياغة والنظم، وهذه التراكيب هي التي تتأسس منها صور المعاني وهيآتها وأشكالها، وهذه الأخيرة هي الأصل الذي يرجع إليه هذا الإعجاز في كلام الله سبحانه، واللفظ عند عبد القاهر يراد به صور المعاني وسُمّي بذلك لكي لا يختلط بالمعنى الأم، كما أن وصف اللفظ بالفصاحة مصروف إلى الحالة التي إذا كان اللفظ عليها دل على المزية وهذه الحالة هي علاقته وروابطه بالكلام حوله.
وقد تناولَ المؤلف بالبحث أيضا الصورة التي قام عليها الكتابان والتي كانت عند بعض النقاد صورة غير مرتبة وغير منظمة، ومن أجل رد هذه الانتقادات عَرَضَ الدكتور محمد محمد أبو موسى بعض النصوص القاطعة في مراعاة الشيخ للترتيب والنظام والدالة على شدة حرصه على ضبط منهجه وترتيب مسائله وعقد فصوله على وجه من التنظيم والترتيب، كما قام بتحديد عدد صفحات الكتاب وإلى ما أضافه الشيخ محمود محمد شاكر من رسائل وتعقيبات، وفي هذا السياق أشار إلى الباب الذي فتحه عبد القاهر وهو باب السرقات الشعرية، وهو باب علم شريف في نظر المؤلف من صميم صنعة الشعر.
وقد وضح المؤلف كيف شُغلَ عبد القاهر في "دلائل الإعجاز" بالرد على القائلين بأن بلاغة الكلام ترجع إلى لفظه، وقد جعل الشيخ تفكيك الروابط اللغوية وإعادة تركيبها سبيلا إلى الكشف عن المخبآت البيانية والشعرية التي تكمن وراء حجب هذا التركيب ووراء هذا البناء، ووضح أن عبد القاهر بنى كتابه "أسرار البلاغة" على بيان فساد القول بأن التباين في الفضيلة والتباعد عنها إلى ما ينافيها من الرذيلة راجع إلى مجرد اللفظ، وهذا قاطع في أن كتاب الأسرار إنما كُتب لتصحيح الخطأ الدائر زمن الشيخ في الحياة الفكرية، وهو القول بأن فضيلة الكلام راجعة إلى مجرد اللفظ.
وكان هدف الشيخ من الكتابين أيضا الكشف عن غموض المصطلحات كالجرس والرنين مثلا، وهي مصطلحات غامضة أشد الغموض، لأنها ليست من العناصر ذات الدلالات العقلية؛ وإنما هي أصوات منتزعة من الكلمات، كما قام بتحديد جذور النغم فيما قبل الجناس الاصطلاحي والكشف عن غزارته إلى جانب السجع، وهو إيقاع صرف ونغم بحت وموسيقى خالصة، وقد جعل المؤلف العبارة عن العلم الشريف جزءا من جوهر العلم.
كما عَمل المؤلف على بيان وجه ترتيب مسائل أسرار البلاغة، وأشار أيضا إلى القضية الأساسية والموحدة في الكتابين وهي إسقاط القول برجوع المزية إلى اللفظ، مما يفسر التشابه الكبير في خط سَير الكتابين، وكذلك بَيَّنَ منهج الشيخ في تحليل النصوص والذي يَنْصَبُّ أولا على المعنى، وقد نص عبد القاهر على أن التشبيه باب من أبواب دراسة المعاني لا يجب تركه إلا بعد استنباط المعاني والدلالات من صوره. وكلام عبد القاهر في التشبيه هو تحليل للمعاني وبيان صورها ودرجاتها في القرب والبعد. وتدور دراسة عبد القاهر للمعاني حول أمرين : المعاني العقلية والتخييلية، فالأولى الإبداع فيها صعب أما الاتساع فإنما يكون في المعاني التخييلية وهي معدن من معادن صنعة الشعر، وقد انتقد المؤلف تقسيم عبد القاهر المعاني إلى عقلية وتخييلية، لأنه يشق على القارئ في نظره أن يدخل كل الشعر في واحد من هذين الصنفين.
وقد حاول عبد القاهر الوقوف عند البناء البياني لمعاني القرآن ووصفِ مزاياه وصفا حسنا ليدرك أن الإعجاز فيه قائم بالمعاني، وكان لا بد من تفسير هذه المزايا المنوطة بالنظم وهذه الخصائص المتعلقة بسياق اللفظ أمام هذا الغموض والإبهام في كشف حقائق هذه المعرفة، فرجَعَ بالقضية إلى أصلها ومنبتها في أشعار العرب، وتتبع كلامَها واستقرَى بيانها ونظر فيها حتى ينكشف له معنى مزايا النظم وخصائص سياق اللفظ، وكتاب "دلائل الإعجاز" يدور كله حول هذه المسألة.
ويرى المؤلف أن انتقاء خالص علم الإعراب وأخذ أَنَاسي علومه هو مادة علم المعاني وهذا الأخير هو رأس البلاغة وأصل علمي البيان والبديع، كما أن فقه المطابقة أصل وعمود البلاغة والبيان و الشعر والكلام كله، وحسب عبد القاهر يجب أن تكون القسمة عادلة بين شقَّي البلاغة وهما المطابقة والمعنى إذ يجب أن ندرس المعاني كما نشغل بأحوال اللفظ وهذه الأحوال ليس لها قيمة إلا من حيث هي مستوعبة للمعاني، وقد قام تعريف البلاغة عند الشيخ على حُسْن الدلالة ووفائها وعلى اتساع المعاني وغزارتها في النفوس الحية التي تتخلق فيها الأفكار وتتزاحم فيها الخواطر.
ينتقل حديث المؤلف بعد ذلك إلى بيان عناية الشيخ عبد القاهر الشديدة ببيان أصل الكلام وروابطه وعلاقاته ووشائج كلماته، هذه الوشائج التي تتخفى بين عناصر القصيدة وهي من أهم مظاهر الإحكام والتثقيف، وأن جوهر النص ليس هو الألفاظ وإن كانت منه، وإنما هو الروابط التي يصير بها الكلام شكلا لغويا وهي البلاغة والبيان. ويحيلنا الشيخ على أن معرفة حقيقة النظم تكون داخل النفس التي علمها خالقها البيان وليس في الكتب، والنظم عنده هو رأس البلاغة وعمودها الذي عليه الاستقرار وقطبها الذي عليه المدار، والمعاني عنده هي التي تقع فيها ضروب الصنعة من غير عمل في الألفاظ، وعبد القاهر يقول إذا كان النظم الذي هو جذر الدراسة البلاغية، إنما هو عمل في المعاني فلا يجوز أن نخرج عن هذه الدائرة ونحن ندرس النظم الذي هو البلاغة وما يدخل فيه من أبكار المعاني وهي صورها وهيآتها وأشكالها وكذلك الأفكار والخواطر الجزئية.