الفتوى (1841) :
ثَمَّ قاعدةٌ عامةٌ تنصُّ على أنّ ما صح الابتداء به والوقف عليه فُصِلَ عن غيره، و(ما) الاسمية أو الحرفية اتصلت بما قبلها في مواضع مع أن حقَّها الفصلُ على وفق القاعدة العامة، غير أن وصلها بما قبلها من باب عَدِّ الكلمتين المتلازمتينِ في مقام الكلمة الواحدة، وذلك مثل وصل ما الاستفهامية أو الموصولة ببعض حروف الجر، ووصل ما المصدرية الحرفية ببعض الكلمات مثل وصلها بالكاف في نحو: اجلسْ كما جلس زيدٌ، وغيرها من المواضع المنصوص عليها في كتب الإملاء. والمراد بوصلها اتصالُها رسمًا بما قبلها نحو إنما وليتما وكلّما. وأما دخول (بَعْد) على (ما) فليس من قاعدة الفصل والوصل رسمًا، والأصل في هذا الاستعمال فَصْلُ (ما) عن (بعد) رسمًا؛ لأن الدال في (بعد) حرف انفصال وليس بحرف اتصال، غير أن وصل (ما) بـ(بعد) يسوغ إذا كانت (ما) كافةً، فيقال (بعدما) لصيرورتهما كلمةً واحدةً؛ لأن ما الكافة تُوصَل مع ما تكفُّه عن العمل نحو: إنما وليتما وقلّما وطالما. جاء في كتاب سيبويه: "ونظيرُ إنما قول الشاعر، وهو المرار الفَقْعَسي:
أعَلاقةً أمَّ الوُلَيِّدِ بَعْدَما ... أفنانُ رأسكَ كالثَّغَام المُخْلِسِ
جعل بعد مع ما بمنزلة حرفٍ واحد، وابتدأ ما بعده". 2/ 138- 139.
تنبيه: ورد في النص القرآني المكتوب بحسب ما وجدتُه في مصحف المدينة النبوية اتصال الكلمتينِ بعضهما ببعض (بعدما) وكأنهما كلمة واحدة في ثلاثين موضعًا، في الآتي: سورة البقرة 75، 109، 145، 159، 209، 211، 213، 253، وآل عمران 19، 61، 105، 152، 172، والنساء 115، 153، والأعراف 129، والتوبة 113، 117، ويوسف 35، والنحل 41، 110، والشعراء 227، والقصص 43، والشورى 14، 16، 28، والجاثية 17، ومحمد 25، 32، والبينة 4، ووجدتُ انفصالهما (بعد ما) في ثلاثة مواضع، هي : سورة البقرة 181، والأنفال 6، والرعد 37. وتبيَّن لي في مواضع الوصل كُلِّها أن (بعد) وقعت مجرورة بحرف الجر (مِن) في الثلاثين موضعًا، ومنه قوله سبحانه: {مِن بَعدِما جاءَكَ مِنَ العِلْم}ِ، وفي مواضع الفصل كُلِّها وقعت (بعد) منصوبة على الظرفية غير مسبوقة بأيِّ حرفٍ من حروف الجر، نحو قوله تعالى: ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعتَ أَهواءَهُم بَعدَ ما جاءَكَ مِنَ العِلمِ﴾؛ ولعله يُستنبَط من ذلك أن الوصل جاء لِتَتابُعِ التلازم بين حرف الجر (من) ومجرورها (بعد)، وبين (بعد) المضاف و(ما) المضاف إليه مع صلته سواءً أَحرفًا مصدريًّا كانت (ما) أم اسمًا موصولًا، وهذا التلازم بين حرف الجر ومجروره من جهةٍ، وبين بعد وما أُضِيفت إليه من جهة أخرى، يُستنبَط منه تسويغُ الوصل عند مَنْ وَصَلَهما، غير أن هذا الاستنباط ليس بلازمٍ أن يكون قاعدةً في وصل (بعدما) وفصل (بعد ما)، والأَوْلى - فيما يبدو - الفصلُ دائما في مثل هذه المواضع منعًا من التداخل واللبس، والوصلُ إذا اتصلت ما الكافة بالظرف (بعد) قياسًا على وصلها بغيره، وأما ما ورد في النص القرآني المكتوب فيبقى محفوظًا بالوصل أو الفصل من غير قياسٍ عليه؛ لأن خط المصحف له خصوصيته.
والله أعلم!
اللجنة المعنية بالفتوى:
المجيب:
أ.د. أحمد البحبح
أستاذ اللغويات المشارك بقسم اللغة
العربية وآدابها بكلية الآداب جامعة عدن
راجعه:
أ.د. بهاء الدين عبدالرحمن
(عضو المجمع)
رئيس اللجنة:
أ.د. عبد العزيز بن علي الحربي
(رئيس المجمع)