نشأة البيان العربي
من مقدمة كتاب الإيضاح في علوم البلاغة للخطيب القزويني
1- كان للعرب في حياتهم الأولى ذوق وفيهم طبق، كانوا بهما في غنى عن الشرح والتحليل والتوجيه والتعليل لأحكام النقد ولأصول البيان العربي ومذاهبه، وكذلك كانت أصول البيان بعيدة عن البحث والدراسة والتقرير.
وفي ظلال الحياة الإسلامية اختلطت العناصر، وتمازجت الثقافات، فلقحت العقول، وأصابت الألسنة آثار من اللكنة واللحن، وأخذ أئمة العربية يعملون في صبر وعزيمة في وضع أصول النحو العربي، وجمع مواد اللغة العزيزة.. وصحب ذلك وتلاه دراسات أخرى تتناول البيان العربي وأصوله ومذاهبه بالبحث والتحليل، وأخذت تتكون من تلك الدراسات النواة الأولى للبيان العربي، وظل التقدم الفكري والنضوج الأدبي والعلمي يسير بهذه البحوث والدراسات نحو الكمال المنشود بخطوات كبيرة.. وكانت الثقافة البيانية تنمو حين ذاك بجهود ثلاث طبقات:
1- الأولي طبقة رواة وعلماء الأدب من البصريين والكوفيين والبغداديين، من أمثال: خلف والأصمعي وأبي زيد وأبي عبيدة ويحيى بن نجيم وعمرو بن كركرة، وأستاذهم أبو عمر بن العلاء أعلم الناس بالعرب والعربية، ومن عامة الرواة الذين لا يقفون إلا على البليغ الساحر من الأساليب كما يقول الجاحظ دون النحويين واللغويين والإخباريين الذين لم يتجهوا هذا الاتجاه.. وبجوار هؤلاء أئمة الشعراء وغيرهم من الخطباء ورجال الأدب الذين تثقفوا بالثقافة العربية.
ب- والثانية طبقة الكتاب الذين لم ير الجاحظ قومًا أمثل طريقة في البلاغة منهم والذين التمسوا من الألفاظ ما لم يكن وحشيًّا ولا سوقيًّا، ورأى الجاحظ البصر بهذا الجوهر من الكلام فيهم أعم، وحكم مذهبهم في النقد، ومثلهم المعتزلة وفرق المتكلمين الذين رآهم الجاحظ فوق أكثر الخطباء وأبلغ من كثير من البلغاء وكان بعضهم من عناصر عربية وتثقفوا بثقافة أجنبية، والآخرون من عناصر أجنبية تثقفت بالثقافة العربية، مما كان له أثره في فهم أصول البيان وفي توجيه دراسته وبحوثه وفي الدعوة إلى آراء في الأدب توائم ثقافتهم وعقليتهم، وكان بعضهم يلقن مذاهبه الأدبية العامة للتلاميذ وشداة الأدب، كما ترى في محاضرة بشر بن المعتمر المعتزلي م 210هـ في أصول البلاغة، والتي يقول الجاحظ عنها أن بشرًا مر بإبراهيم بن جبلة بن مخرمة وهو يعلم الفتيان الخطابة فوقف بشر فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد فقال بشر: اضربوا عما قال صفحًا ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه في أصول البلاغة وعناصر البيان، ومن رجال هذه الطبقة: أبو العلاء سالم مولى هشام وعبد الحميد الكاتب أو الأكبر كما يقول الجاحظ وابن المقفع وسهل ابن هرون والحسن والفضل ابنا سهل ويحيى البرمكي وأخوه جعفر1 وأيوب بن جعفر وأحمد بن يوسف وعمر بن مسعدة وابن الزيات وسواهم.
وكان لهذه الطبقة أثرها في بحث عناصر البيان وبلاغة الكلام. ونستطيع أن نعرف آثار هاتين الطبقتين في دراسات البيان بالرجوع إلى آرائهم المبثوثة في شتى أصول الأدب، والتي يمكننا أن نذكر لك هنا طرفًا منها، وإن شئت فاقرأ جواب صحار لمعاوية حين سأله عن البلاغة، ويروى قبل هذا بكثير أن عامر بن الظرب سأل حممة بن رافع من أبلغ الناس؟. فقال، من حلى المعنى المزيز باللفظ الوجيز وطبق المفصل قبل التحزيز واقرأ تحديد المفضل الضبي للإيجاز، وتفسير ابن المقفع للبلاغة، وحوار الشمري لعمرو بن عبيد في البلاغة، وتعريف الأصمعي للبليغ، ورأي إبراهيم بن محمد في البلاغة، وتعريف جعفر البرمكي للبيان، وتعريف العتابي للبلاغة ، وتفضيل الجاحظ لرأيه ، ووصف الرشيد للبلاغة ، ورأي شبيب بن شيبة في تفضيل بلاغة جودة القطع أو القافية على جودة الابتداء، ووصف ابن المقفع كلام الأعراب ، الذين أعجب الجاحظ ببلاغتهم ووصف الحسن بن وهب بلاغة أبي تمام، وتعريف المأمون للبليغ بأنه من كان كلامه في مقدار حاجته ولا يجيل الفكرة في اختلاس ما صعب عليه من الألفاظ ولا يتعمد الغريب الوحشي ولا الساقط السوقي، وقول خالد بن صفوان: أبلغ الكلام ما لا يحتاج إلى الكلام إلخ، وتعريفه للبلاغة بأنها التقريب من المعنى البعيد أو التباعد عن خسيس الكلام والدلالة بالكبير على الكثير، وتعريف ابن عتبة لها: بأنها دنو المأخذ وقرع الحجة والاستغناء بالقليل عن الكثير، وعرفها الخليل: بأنها ما قرب طرفاه وبعد منتهاه، وعرفها إبراهيم الإمام: بأنها الجزالة والإصابة وعرفها ابن المقفع: بأنها قلة الحصر والجراءة على البشر، إلى غير ذلك من شتى هذه التحديدات، ويقول أبو داود الإيادي: رأس الخطابة الطبع وعمودها الدربة وجناحاها رواية الكلام وحليها الإعراب إلخ، ويقول الخليل: كل ما أدى إلى قضاء الحاجة فهو بلاغة فإن استطعت أن يكون لفظ لمعناك طبقًا ولتلك الحال وفقًا وآخر كلامك لأوله مشابهًا وموارده لمصادره موازنة فافعل واحرص أن تكون لكلامك متهمًا وإن ظرف، ووصية أبي تمام للبحتري تدخل في هذا الباب، ويقول عبد الملك بن صالح 199هـ: البلاغة معرفة رتق الكلام وفتقه، وقال ابن الرومي: البلاغة حسن الاقتضاب عند البداهة والغزارة عند الأصالة، ويقول البحتري: خير الكلام ما قل وجل ودل ولم يمل،ويقول الثعالبي بعد: خير الكلام ما قل وجل ولم يمل، ويقول ابن الأعرابي: البلاغة التقرب من البغية ودلالة قليل على كثير.
جـ- وأما الطبقة الثالثة فهي طبقة المفكرين والمثقفين الذين تثقفوا بثقافة أجنبية واسعة، وتأثروا كل التأثر بآداب الأمم الأخرى، وترجموا آراءهم في البيان ومناهجه إلى اللغة العربية، أو ألفوا كتبًا تبحث في هذه الاتجاهات، وهؤلاء قد عاشوا في البيئة الإسلامية وأثروا في النقد والأدب والبيان ودراساته وتطوره تأثيرًا واضحًا كبيرًا، يمكننا أن نذكر شيئًا عن مجهود هذه الطبقة في خدمة البيان.
أهم عمل علمي قامت به هذه الطبقة: هو ترجمة كتابي الخطابة والشعر لأرسطو إلى العربية، فأما الخطابة فهو أصل البلاغة ودراساتها، وقد "أصيب بنقل قديم ونقله إسحاق بن حنين م 298هـ وكذلك نقله إبراهيم بن عبد الله وفسره الفارابي 339هـ" ، وأما كتاب الشعر فقد اختصره الكندي م 253هـ، ونقله يحيى بن عدي ومتى في القرن الرابع من السريانية إلى العربية... وقد ألفوا في صناعة الشعر وللكندي رسالة في صناعة الشعر، ولأبي زيد البلخي كتاب بعنوان "صناعة الشعر" أيضًا، وكذلك لأبي هفان.
وهناك آراء كثيرة مأثورة عن هذه الطريقة في البلاغة وعناصرها وهي متفرقة في شتى كتب الأدب ومصادره، وتجد في البيان والعمدة وسواهما أن صاحب اليونانيين عرف البلاغة بأنها تصحيح الأقسام واختيار الكلام، وعرفها الرومي بأنها وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الإشارة، وعرفها الفارسي بأنها معرفة الوصل من الفصل، وعرفها الهندي بأنها البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة إلخ، وعرفها أرسطو بأنها حسن الاستعارة، ويعرفها جالينوس بأنها إيضاح المفصل وفك المشكل، واقرأ البلاغة كما يراها حكيم الهند1، ويقول حكيم: البلاغة معرفة السليم من المعتل وفرق ما بين المضمن والمطلق وفصل ما بين المشترك والمفرد، ويعرفها سقراط بأنها استشكاف الحقائق، ويقسمها الكندي ثلاثة أنواع: فنوع لا تعرفه العامة ولا تتكلم به، ونوع بالعكس، ونوع تعرفه ولا تتكلم به وهو أحمدها، ويقول: يجب للبليغ أن يكون قليل اللفظ كثير المعاني، وذكر بزرجمهر فضائل الكلام ورذائله فقال: فضائله أن يكون صدقًا وأن يقع موقع الانتفاع به وأن يتكلم به في حينه وأن يحسن تأليفه وأن يستعمل منه مقدار الحاجة، ورذائله بالضد إلخ، وقال أبرويز لكاتبه: الكلام أربعة: سؤالك الشيء وسؤالك عن الشيء وأمرك بالشيء وخبرك عنه، فإذا طلبت فأسجع وإذا سألت فأوضح وإذا أمرت فأحكم وإذا أخبرت فحقق، وقال أيضًا: واجمع الكثر مما تريد في القليل، ولعل ثعلبًا حين ذكر في صدر كتابه "قواعد الشعر" أقسام الشعر وأنها أمر ونهي وخبر واستخبار قد تأثر بذلك الرأي.
وبعد فقد تعاونت هذه الطبقات في خدمة البيان، ولها جميعًا أثرها في نشأته وتطوره.
2- ومن الكتب الأولى التي ألفت في دراسات البيان وموضوعاته: مجاز القرآن لأبي عبيدة، وكتاب البيان لابن السكيت وكتاب الفصاحة للدينوري، وكتاب التشبيه والتمثيل
للفضل بن نوبخت، وصناعة الكلام للجاحظ4، وكتاب التمثيل له، ونظم القرآن أيضًا وقواعد الشعر وكتاب البلاغة للمبرد، وللحراني كتاب في البلاغة، ولثعلب قوا عد الشعر، ولابن مقسم تلميذه كتاب المدخل إلى صناعة الشعر، وللمروزي كتاب البلاغة والخطابة ولابن الحرون كتاب المطابق والمجانس، ولأبي سعيد الأصفهاني كتاب تهذيب الفصاحة، وللباحث كتاب صنعة البلاغة ولمحمد بن يزيد الواسطي المعتزلي م 306هـ كتاب إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه ولابن الأخشيد كتاب نظم القرآن وكذلك لابن أبي داود 316هـ وللحسن بن جعفر كتاب في الرد على من نفى المجاز في القرآن.
3- وبعد فقد كان البيان العربي في القرن الثالث مزيجًا من ثقافات وآراء مختلفة عربية وغير عربية مؤلفة ومترجمة، ومن حيث كاد في القرن الثاني أن يكون عربيًّا خالصًا. وهنا سؤالان لابد من الجواب عليهما وهما: متى نشأ البيان العربي، وهل تأثر بثقافة أجنبية؟
أما نشأة البلاغة والبيان فالآراء فيها كثير ة. فالدكتور طه حسين يرى أن البلاغة نشأت في عهد متأخر والجاحظ في رأيه أول من اهتم بها وهو مؤسس البيان العربي حقًّا، ويرى آخر أن نشأة البلاغة قديمة قد سبقت القرآن وتطورت بعده وأكثر الفنون الأدبية أخذت شواهدها من القرآن وينقد باحث هذا الرأي.. ومن الضروري أن نفرق بين أمرين، نطق العرب في آثارهم الأدبية بأساليب لغتهم المختلفة من استعارة وتشبيه وكناية ومجاز وقصر وفصل ووصل وطباق وتجنيس إلخ، ومعرفتهم العلمية بأوضاع هذه الأساليب ونواحيها البلاغية، فالأول كان موجودًا عند العرب قبل القرآن وفي عصر القرآن وبعده، والثاني لم يوجد إلا في القرن الثالث الهجري كما ذهب إليه أكثر الباحثين، فقواعد البلاغة قد سنها الفكر أولًا ليجري عليها الأدب بل إن طبيعة الأدب موجودة من قبل سواء بحثت أو لم تبحث، فالأدب وخواصه الأدبية موجودان من قديم وأما معرفة هذه الخصائص ودراستها وبحثها على أنها علم وأصول وقواعد فلم يوجد إلا بعد القرن الثاني الهجري، "فعلم البلاغة إسلامي لا عهد للجاهليين به"، والبلاغة باعتبارها فنًّا مدروسًا أي التحليل العلمي للأساليب البلاغية ليست من علوم العصر الجاهلي إنما هي دراسة متأخرة في نشأتها على أنه لا شك كان هناك في العصر.
الجاهلي وصدر الإسلام بعض الخصائص والأساليب البلاغية المتعارف عليها، وهذا كله مما لا سبيل إلى الشك فيه.
وأما الأمر الثاني وهو هل تأثرت البلاغة العربية في نشأتها الأولى ببلاغة الأمم الأخرى؟ فيمكننا بسط الحديث فيه:
يذكر ابن الأثير أن الشعر والخطابة في الأدب العربي لم يتأثرا بثقافة اليونانية البيانية "فهذا شيء لم يكن ولا علم أبو نواس شيئًا منه ولا مسلم ولا أبو تمام ولا البحتري ولا المتنبي ولا غيرهم وكذلك جرى الحكم في أهل الكتابة كعبد الحميد وابن العميد"، ثم ينفي أن يكون هو قد تأثر في رسائله ومكاتباته بما ذكره علماء اليونان في حصر المعاني ويذكر أنه اطلع على ما كتبه ابن سينا في الخطابة والشعر فلم يوافق ذوقه واستجهله ورأى أن ما ذكره لغو لا يستفيد به صاحب الكلام العربي شيئًا، ويرى باحث محدث أنه كان للبلاغة اليونانية أثر في علم البلاغة العربي، ويرى باحث آخر أن أرسطو المعلم الأول للمسلمين في علم البيان، وأن الكتاب والمتكلمين الذين عاشوا في القرن الثاني وأثروا في البيان وتطوره جلهم من الأعاجم وأن متكلمي المعتزلة كانوا بتضلعهم في الفلسفة اليونانية من مؤسسي البيان العربي وأنه حتى منتصف القرن الثالث لم يوجد إلا بيان عربي واحد كان لا يزال في دور الطفولة وكان خصبًا جامعًا للروح العربي والفارسي واليوناني ثم وجد من ذلك الوقت بيانان: عربي بحت، ويوناني يجهر بالأخذ عن أرسطو، على أن البيان العربي الصرف قد تأثر باليونان. وترجم كتاب الخطابة في النصف الثاني من القرن الثالث، وجاء قدامة فاستفاد من كتاب الخطابة وفهم منه كل ما يمكن أن ينتفع به وطبقة على الشعر العربي وكان يجهل كتاب الشعر وقد درس قدامة الفلسفة وخاصة المنطق، على أن تشريع الفلسفة للأدب في رأي الدكتور يظهر أول مرة في "نقد الشعر" ثم في "نقد النثر" الذي هو مستمد من آراء أرسطو في الجدل والقياس والخطابة.
على أننا قد بسطنا القول في ذلك فيما سبق ورأينا أن المشتغلين بالفلسفة قد اشتركوا مع الجماعات الأخرى في خدمة البيان العربي وإنشائه والتأليف فيه وكان اتجاههم الأول إلى البيان اليوناني فأخذوا يدأبون على الإفادة منه في بحوث البيان العربي ودراساته وتلقيحه بما يمكن أن يلقح به من عناصر ومناهج علمية سلكها ومهد سبيلها اليونان، فهم قد استعانوا بطرقهم في دراسة البيان على فهم وتحليل أصول البيان العربي والتأليف فيه.