تفسير آية الحج والعمرة
من كتاب التفسير المنير للدكتور وهبة الزحيلي
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197)
الإعراب:
... وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ متعلق بأتموا، وهو مفعول لأجله، ويجوز أن يكون في موضع الحال، وعامله محذوف تقديره: كائنين لله.
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ: ما: مبتدأ، وخبره مقدر، وتقديره: فعليكم ما استيسر.
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ مبتدأ وخبر، ولا بد فيه من محذوف مقدر، وفي تقديره وجهان:
أحدهما- أشهر الحج أشهر معلومات، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، والثاني: الحج حج أشهر معلومات.
فَلا رَفَثَ.... فِي الْحَجِّ لا: نافية للجنس، كما في قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ واسمها وهو رفث: مبني على الفتح، وبني مع «لا» لأنه معه بمنزلة «خمسة عشر» . و «لا» مع النكرة المبنية في موضع مبتدأ، وقوله فِي الْحَجِّ خبر.
وَما تَفْعَلُوا ما: شرطية منصوب بتفعلوا، وتفعلوا مجزوم بما، ويعلمه: مجزوم لأنه جواب شرط.
البلاغة:
حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ: كناية عن ذبحه في مكان الإحصار. فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً فيه إيجاز بالحذف، أي كان مريضا فحلق وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ فيه التفات من الغائب إلى المخاطب.
تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ فيه إجمال بعد التفصيل، لزيادة التأكيد، ويسمى «الإطناب» .
وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ إظهار اسم الجلالة في موضع الإضمار لتربية الهيبة والجلال.
لِمَنْ اللام بمعنى على، أي وجوب الدم على من لم يكن من أهل مكة.
فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ نفي بمعنى النهي، أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا أي لا تماروا مع الرفقاء والخدم والمكارين، والنفي أبلغ من النهي الصريح، أي لا ينبغي أن يقع أصلا، والأمر بالاجتناب في الحج مع أن وجوبه في كل حال، لأنه مع الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة، والتطريب في قراءة القرآن.
المفردات اللغوية:
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ أدوهما بحقوقهما فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ منعتم عن إتمامهما بعدو أو مرض اسْتَيْسَرَ تيسر الْهَدْيِ أي سهل عليكم وهو شاة، أو كل ما يهديه الحاج والمعتمر إلى البيت الحرام من النّعم، ليذبح ويفرق على الفقراء وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ أي لا تتحللوا حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ مكان الحلول والنزول، حيث يحل ذبحه، وهو مكان الإحصار عند الشافعي ومالك، فيذبح فيه بنية التحلل، ويفرق على مساكينه، ويحلق به، وبه يحصل التحلل. وفي رأي الحنفية:
هو الحرم. أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ كقمل وصداع، فحلق في الإحرام فَفِدْيَةٌ عليه مِنْ صِيامٍ ثلاثة أيام أَوْ صَدَقَةٍ ثلاثة أصوع من غالب قوت البلد، على ستة مساكين أَوْ نُسُكٍ أي ذبح شاة، وأصل النسك: العبادة، والمراد هنا الذبيحة، وسميت نسكا لأنها من أشرف العبادات التي يتقرب بها المؤمن إلى الله تعالى. وأو: للتخيير. وألحق به: من حلق لغير عذر، ومن استمتع بغير الحلق كالطيب واللبس والدهن لعذر أو غيره. فَإِذا أَمِنْتُمْ قيل: برأتم من المرض، وقيل: من خوفكم من العدو.
فَمَنْ تَمَتَّعَ استمتع بِالْعُمْرَةِ أي بسبب فراغه منها، أي تمتع بمحظورات الإحرام إِلَى الْحَجِّ أي الإحرام به، بأن يكون أحرم بها في أشهره.
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ تيسر عليه من الهدي وهو شاة يذبحها بعد الإحرام بالحج بمكة، والأفضل يوم النحر. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدي، لفقده أو فقد ثمنه، فعليه صيام ثلاثة أيام في حال الإحرام بالحج، فيجب حينئذ أن يحرم قبل السابع من ذي الحجة، والأفضل قبل السادس، لكراهة صوم يوم عرفة، ولا يجوز صومها أيام التشريق في الأصح عند الشافعي. وسبعة أيام بعد الرجوع إلى الوطن: مكة أو غيرها.
وحاضرو المسجد الحرام: هم أهل مكة وما دونها إلى المواقيت في رأي الحنفية، وإلى ما دون مرحلتين من الحرم عند الشافعي.
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ وقته شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، في رأي الشافعي، وقال الجمهور: يجوز الإحرام بالحج فيما عدا هذه الأشهر مع الكراهة. فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ أي ألزمه نفسه بالشروع فيه بالنية قصدا باطنا، وبالإحرام فعلا ظاهرا، وبالتلبية نطقا مسموعا. وليست التلبية عند الشافعي من أركان الحج، وأوجبها الظاهرية.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما أمر تعالى بإتمام الحج والعمرة، وكانت العمرة لا وقت لها معلوما، بيّن أن الحج له وقت معلوم.
فَلا رَفَثَ جماع فيه، وَلا فُسُوقَ عصيان وَلا جِدالَ خصام ومجادلة والمراد بالنفي في الثلاثة: النهي عنها. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ كصدقة يَعْلَمْهُ اللَّهُ فيجازيكم به، ونزل في أهل اليمن، وكانوا يحجون بلا زاد، فيكونون كلّا على الناس. وَتَزَوَّدُوا ما يبلغكم لسفركم فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى ما يتقى به سؤال الناس وغيره، واتقوا الله يا أولي العقول.
والألباب: جمع لبّ، ولبّ كل شيء: خالصة، ولذلك قيل للعقل: لبّ.
سبب النزول:
سبب نزول قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ:
أخرج ابن أبي حاتم عن صفوان بن أمية قال: جاء رجل إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم متضمخ بالزعفران، عليه جبة، فقال: كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي؟ فأنزل الله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فقال: أين السائل عن العمرة، قال: ها أنا ذا، فقال له: ألق عنك ثيابك، ثم اغتسل واستنشق ما استطعت، ثم ما كنت صانعا في حجك، فاصنعه في عمرتك.
وقوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً:
روى البخاري عن كعب بن عجرة أنه سئل عن قوله: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ قال: حملت إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا، أما تجد شاة؟ قال: قلت: لا، قال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك، فنزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة.
وروى مسلم عن كعب بن عجرة قال: «فيّ أنزلت هذه الآية، أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أدنه، فدنوت مرتين أو ثلاثا، فقال: أيؤذيك هوامك؟
قال ابن عون، وأحسبه قال: نعم، فأمرني بصيام، أو صدقة، أو نسك ما تيسر» .
وروى أحمد عن كعب قال: كنا مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية، ونحن محرمون، وقد حصر المشركون، وكانت لي وفرة، فجعلت الهوام تسّاقط على وجهي، فمرّ بي النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ فأمره أن يحلق، قال: ونزلت هذه الآية: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ، فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ نُسُكٍ.
وقوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا: روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون، ولا يتزودون، ويقولون: نحن متوكلون، فأنزل الله:
وَتَزَوَّدُوا، فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى.
المناسبة:
ذكرت أحكام الصيام، ثم ذكرت أحكام الأشهر الحرم والمسجد الحرام والقتال فيها وفيه، ثم ذكرت هنا أحكام الحج، لأن شهوره بعد شهر الصيام، فأوضح تعالى فيها حكم المحصر الذي منعه العدو من إتمام الحج، وحكم المتمتع إلى زمن الحج من غير أهل الحرم، ووقت الحج في أشهر معلومات.
التفسير والبيان والأحكام:
كان الحج معروفا بين عرب الجاهلية، من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وأقره الإسلام بعد أن أبطل ما فيه من أنواع الشرك والمنكرات، وزاد فيه بعض المناسك.
وقد فرضه الله تعالى على المسلمين سنة ست من الهجرة بقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران 3/ 97] وكانت أول حجة حجها المسلمون سنة تسع بإمرة أبي بكر رضي الله عنه، ثم حج النّبي صلّى الله عليه وسلّم سنة عشر، وفيها أذّن أبو بكر بالمشركين الذين حجوا: ألا يطوف بعد هذا العام مشرك، ونزلت الآية إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة 9/ 28] .
واستمر المسلمون منذ ذلك التاريخ يهرعون بقلوب ملؤها الشوق والحنين والتعظيم إلى بيت الله الحرام كل عام، من مختلف الأقطار في المشارق والمغارب، تظللهم راية الإيمان بالله تعالى، وترتفع أصواتهم بتلبية أوامر الله، وتخشع نفوسهم لتلك المواقف المهيبة، قاصدين تطهير أنفسهم من شوائب العصيان ومخالفة الأوامر الإلهية، وهم في صفوفهم وتحركاتهم الجماعية منصهرون ماديا وفعليا بمعنى المساواة، دون تفرقة بين سيد ومسود وحاكم ومحكوم وغني وفقير، ومتجردون من مظاهر الدنيا وزينتها، فلا تكاد تجد في أنحاء العالم تجمعا كثيفا ومؤتمرا عالميا، مثل مؤتمر الحج كل عام، حيث تجد فيه مختلف الجنسيات والألوان والألسنة من كل أنحاء العالم.