التغير الدلالي في الحديث النبوي الشريف
شفاء محمد خير يوسف
المقدمة
الحمد لله، وبعد:
إنَّ هذا البحث محاولةٌ لخدمة معجم السنَّة النبويَّة، من الناحية اللغوية اللفظيَّة فقط؛ لأنَّني هنا لم أبحثْ في التَّراكيب بل في الألفاظ، وإن كان متاحًا لي البحثُ في التراكيب لكنتُ بحثتُ فيها؛ لأنَّ الأحاديث النبويَّة تعجُّ بكثير من التَّراكيب المستجدَّة الخاصَّة بالإسلام، مثل: (أهل الذّمَّة، يوم القيامة، أطولهنَّ يدًا، ..) وغيرها من التَّراكيب البديعة، ووجدتُ من خلال بحثي - في ستَّة عشر حديثًا صحيحًا - أنَّ بعض المصطلحات في طَور تغيرها الدلالي إلى الإسلام لَم تقتصِر على تغيُّر واحد أو اثنَين، ولكن الأغلب كان التغيُّر الارتقائي أو التغير بالتَّخصيص، ورجعت إلى مرجِعَي "المعجم الوسيط" و "لسان العرب" الشَّهيرين عندما كنت أبحث عن المعنى الأصلي للكلمة قبل الإسلام، وإلى بعض المواقع الإسلاميَّة المتخصِّصة، وثقافتي الإسلاميَّة المتواضِعة في بعض الأحيان، عند البحْث عن المعنى المتطوِّر الإسلامي للكلمات؛ لأنَّني لم أعثُرْ على معجم إسلامي يُعطي معانيَ الكلِمات المستجدَّة في الإسلام.
وكم نَحتاج للوقوف على خصوصيَّة الفصاحة والبيان الَّتي أُوتيَها النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما كان في لغته وبيانه من الفصاحة والقوَّة والسلاسة والدّقَّة، مع الغاية في إيجاز اللَّفظ ووضوح المعنى، كما حدَّث بذلك وتمدَّح بقوله في الحديث الصَّحيح: ((وأوتيت جوامع الكلم))[1].
ومن المهمّ كذلك معرفة أثَر الحديث النَّبويّ في الحياة العربيَّة والإنسانيَّة من جوانبها كلِّها، وذلك بالنَّظر في طبيعة المرْحلة التي ظهر فيها الحديث النَّبوي، وهي مرحلة كانت على غاية القوَّة في البيان العربي في العصْر الجاهلي، وإن كانت من ناحية أُخرى مرحلة ظلام وبدائيَّة في العقيدة والفكر والحياة؛ ممَّا يجعل دراسة الحديث على غايةٍ من الأهمّيَّة لكشْف فوائد جليلة في تاريخ الأدب العربي، حيث نعرف أثر الحديث في جوانب الحياة كلِّها: اللغويَّة، والأدبيَّة، والثَّقافيَّة، والحضاريَّة، والاجتِماعيَّة، وغير ذلك، ونعرف الأسلوب الَّذي امتاز به الحديث النَّبويّ، حتَّى كانت له تلك النَّتائج الَّتي هي بالأصل نابعةٌ من القُرآن، لكنْ للحديث النبوي أثرُه وحضوره الواضح، مادام موقعُه من القرآن كما هو معلوم موقع التَّفسير والتَّفصيل[2].
التمهيد:
إنَّ التغيُّر الدلالي ظاهرة طبيعيَّة، يمكن رصْدها بوعْي لغوي لحركيَّة النظام اللغوي المرِن، ففي حركيَّة اللغة الدَّائبة، قد تتخلَّف الدلالة الأساسيَّة للكلمة، فاسحةً مكانها للدّلالة السياقيَّة أو لقيمةٍ تعْبيريَّة أو أسلوبيَّة، وبذلك تغدو الكلِمة ذاتَ مفهوم أساسي جديد، وقد يحدث أن يَنزاح هذا المفهوم بدوْرِه ليحلَّ مكانه مفهوم آخَر، وهكذا يستمرُّ التَّطوُّر الدلالي في حركة لا متناهية تتميَّز بالبطْء والخفاء[3].
ويقول توشيهيكو إيزوتسو في كتابه "بين الله والإنسان في القرآن: دراسة دلاليَّة لنظرة القرآن إلى العالم":
"الكلماتُ نفسُها كانت متداولةً في القرن السَّابع [الميلاديّ]، إن لم يكن ضمن الحدود الضيِّقة لمجتمع مكَّة التجاري، فعلى الأقلِّ في واحدة من الدَّوائر الدِّينيَّة في جزيرة العرب، ما جدَّ هو فقط أنَّه دخلت أنظمةٌ مفهوميَّة مختلفة، والإسلامُ جمعَها، دمجَها جميعًا في شبكةٍ مفهوميَّة جديدة تمامًا ومجهولة حتَّى الآن"[4].
سأسرد هنا طرُق التَّغيُّر الدلالي لما له من أهمّيَّة في تبْيين نوع التغيُّر الَّذي حصل للكلِمات في الإسلام:
للتغيُّر الدلالي طرق مختلفة تسْلُكها الكلمات متى وُجدت الأسباب اللغويَّة والتَّاريخيَّة والاجتماعيَّة والنَّفسيَّة المناسبة، الَّتي تؤدِّي إلى تغير الدلالة، وأهمُّ هذه الطُّرق هي:
(أ) تخصيص الدلالة:
وهو أن تتغيَّر دلالة الكلِمة الَّتي كانت تدلُّ على معانٍ كلّيَّة عامَّة، لتصبح تدلُّ على معنى خاص، مثل:
اليَقْطِين: كلُّ شجر ينبسط على الأرض، كالقثَّاء والخيار والبطّيخ. القرع.
(ب) تعميم الدلالة:
وهو أن تتغيَّر دلالة الكلمة الَّتي كانت تُطلق على فردٍ أو نوع معيَّن، لتصبح تُطْلَق على أفراد كثيرين أو على الجنْس كله، مثل:
رجُل: أحد المحاربين الَّذين يسيرون على أرجلهم؛ أي: من غير الفرسان. الذَّكر البالغ من بني الإنسان.
(جـ) نقل الألفاظ لتشابه المعاني:
وهو نوع من تغيُّر مجال الدّلالة بسبب نقل لفظ من معنى أو من شيءٍ إلى معنى آخر أو شيء آخر، بسبب مشابهة بينهما، وهذا ما يُطلق عليه "الاستِعارة".
والمشابهة قد تكون:
1- مشابهة حسّيَّة شكليَّة، مثل:
رِجْل: عضو من أعضاء البدَن، والرِّجل من القوس: طرفها الأسفل أو الأطول والأغلظ، ورِجْلا السهم: حرفاه، ورِجْل البحر: خليجه.
2- مشابهة معنوية، مثل:
العين: عضو الإبصار، والعين: السيِّد، والذهب؛ تشبيهًا بالعضو بجامع النفاسة والأفضليَّة.
تبادل الحواس: وهي الحالة التي يُستعار فيها لفظ أو وصف لشيءٍ يُدرك بحاسَّة معيَّنة؛ ليُطلق على شيءٍ آخَر يُدرك بحاسَّة أخرى، كما في:
صوت دافئ (ملموس- مسموع).
(د) نقل الألفاظ لعلاقة المعاني:
وهو ما يسمَّى في الاصطِلاحات البلاغيَّة بالمجاز المرسل، وهو تغيُّر في مجال الدّلالة يحدث عند نقْل لفظ من معنى أو مِن شيءٍ إلى آخَر له به علاقة غير المشابَهة، مثل:
خرطوم: الأنف، ويُطلقه أهل صقلية على الفم.
(هـ) نقل المعاني لتشابه الألفاظ:
وهو نقل معنًى من لفظ إلى آخَر لتوهُّم أنَّ بينهما علاقة دلاليَّة، كما في:
ذميم "مذموم"، ولكن بعض النَّاس يستخدم هذا اللفظ في معنى "قبيح" في مثل قولهم: "كان ذميم الخِلقة"، قياسًا على معنى دميم (بالدَّال غير المعجمة) "قبيح الصورة".
(و) نقل المعاني لتجاور الألفاظ:
وهو نقْل معنًى من لفظٍ إلى آخَر لتجاوُرِهما في التَّراكيب كثيرًا، فيُحذف أحدُهُما ويبقى الآخر يحمل معناه، مثل:
مَلَّة: الملَّة الرَّماد الحار، ولكنَّها في قول العامَّة: أكلنا ملّةً، تعني خبزًا؛ وهذا ناتج عن حذف كلِمة خبز ونقل معناها إلى ملَّة.
(ز) رُقيّ الدلالة:
وهو التَّغيير المتسامي بتغْيير معانٍ كانت عاديَّة أو ضعيفة أو وضيعة، إلى معانٍ قويَّة أو شريفة، مثل:
رسول، كانت تعني المرسَل، ثم شرُف معناها لتدلَّ على الواحد من رسُل الله.
(ح) انحطاط الدلالة:
وهي تغيُّر دلالي معاكس لرقيّ الدلالة، بحيث يتغيَّر معنى اللَّفظ من قوَّة وسموٍّ وتأثير في الأسماع إلى معنًى ضعيف مبتَذَل، كما في:
الجارية: الفتاة الصَّغيرة، ثمَّ أصبحت تطلق على الأمة الممْلوكة[5].
الأحاديث:
الحديث الأول:
عن أبي عبدالرحمن عبدالله بن عمر بن الخطَّاب - رضِي الله عنْهُما - قال: سمعتُ النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يقول: ((بُني الإسلام على خمسٍ: شهادةِ أن لا إلهَ إلاَّ الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله، وإقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، وحجّ البيْت، وصوم رمضان))[6].
الإسلام:
الانقياد التَّامّ لأمر الآمر ونهيِه بلا اعتراض، وقيل: هو الإذعان والانقياد وترْك التمرُّد والإباء والعناد[7]، وتخصَّصَ هذا المعْنى وترقَّى بعد سطوع نور الإسلام، (تغيَّرَ دلاليًّا بطريقة التخصيص والرقيّ) إلى: الدّين الَّذي جاء به محمَّد - صلَّى الله عليْه وسلَّم - والشَّريعة الَّتي ختم الله تعالى بها الرّسالات السماويَّة، والإسلام هو التَّسليم للخالق والخضوع له، وتسْليم العقل والقلب لعظمة الله وكماله، ثمَّ الانقياد له بالطَّاعة وتوْحيده بالعبادة، والبراءة من الشِّرك به سبحانه[8].
الصلاة:
الدُّعاء والاستغفار، قال الأعشى:
وَصَهْباءَ طَافَ يَهُودِيُّهَا وَأَبْرَزَهَا وَعَلَيْهَا خَتَمْ
وَقَابَلَهَا الرِّيحُ فِي دَنِّهَا وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمْ ثمَّ خُصِّصَ هذا المعنى وترقَّى إلى: عِبادة تتضمَّن أقوالاً وأفعَالا مخصوصةً، مُفْتتَحة بِالتَّكبيرِ مُختَتَمة بالتَّسليمِ[9].
الزكاة:
الزَّكاء، النَّماء والرَّيْعُ، ثم تخصَّص معناها وترقَّى إلى: حقٍّ يجب في المال البالغ نصابًا للأصناف الثَّمانية المنصوص عليها في كتاب الله تعالى[10].