الاقتباس اللغوي من القرآن الكريم في الحديث النبوي الشريف
د. خليل محمد أيوب
أوّلاً- تَوْطِئةٌ:
كانَ نزولُ القرآنِ حادثةً فريدةً فذّةً في تاريخ البشر؛ إذ جاءَ الناسَ كلامٌ لا يشبهُ الكلامَ، وكان الغايةَ في الحسن والجمال، حتى إنَّه من فرطِ حسنه ورائعِ نظمه غلَبَ من كفرَ به على نفسِه، فإذا الوليدُ بنُ المغيرة ذوّاقَةُ الشعرِ والبيان، يقول فيه قولتَه المعروفةَ التي سارتْ معَ الزمانِ: (والله لقد سمعتُ كلاماً ما هو بالشّعر، ولا بالسّحرِ، ولا بالكهانة، وإنّ له لحلاوةً، وإن عليه لطَلاوةً، وإنّ أعلاه لمثمِرٌ، وإنّ أسفلَه لمغدقٌ، وما هو بقول بشرٍ، وإنّه ليعلو، ولا يُعْلَى)[1] وإذا الذين أشركوا بالله لا يملكون إلّا أن يسجدوا[2] لسلطانه خاضعين مستسلمِين لِما رَأَوا فيه من عجائبَ وبدائعَ، لا يحيط بها كلامٌ، ولا يوفّيها حقَّها أيُّ بيانٍ. وآيةٌ كتلك الآيةِ في الحَلاوة والطَّلاوة لا غرابةَ أن تكونَ مَهْوَى الأفئدةِ، ومَطمَحَ النفوسِ، وقبلةَ أهل البيان، يقبِسُون من معانيها، ويحومون حولَ لغتِها، لا يبغون منها غيرَ بضعِ كلماتٍ يُحلُّون بها كلامَهم، (فيكتسبُ حَلاوةً وطُلَاوةً ... ويستفيدُ فخامةً وجَلالةً)[3] وكان السبّاقَ إلى ذلك المعِين الثّرِّ يَعُلُّ منه وينْهَلُ مَنْ نزل عليه القرآنُ محمدٌ صلّى الله عليه وسلّمَ، (فاقتبسَ من معانيه وألفاظِه في الكثير من كلامه، والجمّ الغفير من مقاله.)[4] ولو أنّا أردنا استقصاء ما اقتبسه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من القرآن الكريم لاستلزم ذلك منّا الصفحاتِ ذواتِ العدد[5]، وما ذلك بممكنٍ في دراسةٍ محدّدة الصفحات. فلذا قرّ الرأيّ على الاكتفاء بما يدلّ على الموضوع، وأن يكون الدّرس مقصوراً على الاقتباس اللفظيّ دون المعنوي، مكتَفِين من اللفظيّ ببضعة نماذجَ؛ فالنّظير يغني عن نظيره، والشبيه يدلّ على شبيهه.
والزاويةُ التي ستنظر الدراسةُ من خلالها إلى الموضوع هي ما يكُوْن بين المقتَبس والمقتبَس منه من أوجه التقاءٍ وافتراقٍ في الأسلوب تنشأ عمّا يحدثُه المقتَبِس من تغييرٍ لفظيّ يجعل لمقتبَسه صورةً تتميّز عن أصلها، من غير أن تنبتّ عنه وتنقطع؛ فالنّبي صلّى الله عليه وسلّم كان في كثيرٍ من الأحايين يتصرّف في مقتبَسه اللغويّ على نحوٍ يناغم المرادَ من كلامه، ولكنْ من غير أن يقطعَ وشيجةَ مقتبَسِه بأصله، فكان أن ترتّب على ذلك وجودُ الكثير من أوجهِ الالتقاء والافتراق في الأسلوب بينَ المقتبَس والمقتبَس منه.
وعلى شديد أهمّيّة هذا الوجهِ، وعظَمِ قدْرِه فإنّ عملَ البلاغيين كان دائماً مقتصِراً على مجردِ الإشارة إلى المقتبَسِ والمقتبَسِ منه، من غير تعرُّضٍ لِمَا بينَهما من اعتلاقٍ لُغَويُّ، واشتباكٍ معنويّ، وذلكم تقصيرٌ غيرُ حميدٍ؛ لأنّه يَبْعُد بنا عن درْسِ أهمّ ما يجبُ درسُه، وهو ما أحدثَه المقتبِسُ من تغييرٍ في الأسلوب، وذلك ما سأعملُ على تناولِه في عملي هذا من خلال درس مظهرَين من مظاهرِ الاقتباس النّبويّ من القرآن، وسأمثل لهذين المظهرين بثلاثةِ مقتبَسَاتٍ أدرسُها درساً بلاغيّاً أُبْرِزُ من خلالها ما بين المقتبَس النّبويّ وأصلِه القرآنيّ من أوجه التقاءٍ وافتراقٍ في الأسلوب، ولِمَ كان الالتقاءُ؟ ولِمَ كان الافتراقُ؟ ولكنْ قبل أن ألجَ إلى هذه المقتبَسَات سأُبِيْن ابتداءً عن المراد من الاقتباس لغةً واصطلاحاً.
ثانياً- الاقتباسُ لغةً:
القبسُ في أصل اللغة جذوةٌ من النّار صغيرةٌ تؤخذ من مُعْظَم النّار، جاء في العين في الكلام على مادّة القبَس أنّ (القبسَ: شعلةٌ من نارٍ تقْبِسُها، وتقْتَبِسُها، أي: تأخذُها من معظم النّار.)[6] وبمثل ذلك قال الأزهريّ[7] والفيروزآباديّ[8]، وذهب أبو عبيدةَ في مجاز القرآن إلى أنّ القبّس بمعنى النّار يقول: (بشهابٍ قبَسٍ) أي: بشعلةِ نارٍ)[9] وجاء في اللسان: (القَبَسُ: النارُ، والقَبَسُ: الشُّعْلةُ من النّار... وقوله تعالى: (بشهاب قَبَس) القَبَس: الجَذْوَة، وهي النار التي تأْخذُها في طَرَف عُودٍ. والقابِسُ طالِبُ النّار وهو فاعِلٌ من قَبَس ... والجمع أَقْباسٌ... ويقال: قَبَسْت منه ناراً أَقْبِس قَبْساً، فأَقْبَسَني أَي: أَعطاني منه قَبَساً، وكذلك اقْتَبَسْت منه ناراً، واقْتَبَسْت منه عِلْماً أَيضاً، أَي: استفدته...)[10] وأورد الزّبيدي في التاج هذا الذي ذكره ابن منظور بنصّه، ولكنّه كأنّه استَضعفَ أن يكون القبَس بمعنى الشّعلة من النّار؛ إذ صدّره بصيغة تمرّض هذا المعنى، يقول: (وقيل الشّعلةُ من النّار...)[11] وهذا تضعيف من الزّبيدي غير صحيح، ومثلُه في عدم الصّحة إطلاق النّار على القبَس من غير قيدٍ؛ ذلك أنّ في القبَس معنيين لا يفارقانِه أبداً، أوّلُهما: معنى الأخذِ. وثانيهما: الصِغَرُ في جَنْب الكِبَرِ. وهذا الكِبَرُ ملحوظٌ فيه معنى صِغَرِ الشّعلة المقبوسة. يقول الزمخشري رحمه الله في سياقة كلامه على آية النمل: ﴿ ... أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ [النمل: 7]: (الشهابُ: الشعلةُ. والقبسُ: النارُ المقبوسةُ، وأضاف الشهابَ إلى القبسِ؛ لأنّه يكون قبَسَاً، وغيرَ قَبَسٍ. ومن قرأ بالتّنوين جعل القبَسَ بدَلاً، أو صفَةً[12] لِمَا فيه من معنى القَبَسِ.)[13].
ثالثاً- الاقتباسُ اصطلاحاً:
الاقتباسُ مصطلحٌ بلاغيٌّ يعرّفُه الخطيبُ القزوينيّ بقوله: (هو أن يُضَمَّنَ الكلامُ شيئاً من القرآن أو الحديث، لا على أنّه منه)[14] وعرّفه السيوطيّ في الإتقان، فقصرَه على القرآن دونَ الحديثِ بقوله: (هو تضمينُ الشعر أو النثر بعضَ القرآن، لا على أنّه منه، بألّا يقال فيه: قال الله تعالى.)[15] وذكر ابن حجَّة في الخِزانة أنّ تسميةَ الأخذِ من القرآن بالاقتباس (هو الإجماعُ.)[16] وذهب السّيوطيّ في "الحاوي للفتاوى" في رسالته "رفع الباس" إلى أنّ الاقتباس كان (يُسمّى عند الصّدر الأوّل من الصّحابة والتّابعين، فمن بعدَهم من الأئمّةِ والعلماء ضربَ مثلٍ وتمثُّلاً واستشهاداً إذا كان في النثر، وقد يُسمّى اقتباساً بحسب اختلافِ المورد، فإذا كان في الشعر سُمّيَ اقتباساً لا غير.)[17] ولأجل القول في التّعريف: (لا على أنّه منه) كما رأينا عند القزويني والسّيوطي وغيره[18] (ساغ سوقُ اللفظ مع تغيير فيه، أو في معناه)[19] فالتغيير في المقتبَس إذن إمّا يصيب اللفظَ من غير أن (يَخْرُجَ به المقْتَبِسُ عن معناه) [20]، وإمّا اقتباسٌ (يخرجُ به عن معناه.)[21]، وهو كذلك إمّا اقتباسُ لفظٍ، وإمّا اقتباسُ معنى، وقد عقد الثعالبيّ في كتابه "الاقتباسُ من القرآن" فصلاً لِمَا اقتبس النّبيُّ معناه من القرآن، فعنونَ له بعنوان: (فصلٌ في بعض ما جاء عنه عليه السلامُ من الكلام المقتبَس معناه من القرآن)[22]، ثمّ أتبعه بفصلٍ لِما اقتبس لفظه من القرآن تحت عنوان: (فصلٌ في بعض ما جاء عنه عليه السلامُ من الكلام المقتبَس من ألفاظ القرآن.)[23] ولعلّه يكون صار واضحاً في نور ما قدّمتُ من تعريفٍ للاقتباس ما بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي من علاقاتِ مشابهةٍ قويةٍ؛ إذ نلقى في المعنيين، الحقيقةِ والمجازِ، معانيَ الأخذِ والصِغَرِ والانتفاعِ؛ إذ طالبُ النّار يأخذ شعلةً صغيرةً من معظم النّار، وطالبُ الكلام يأخذ من كلام غيره جملةً أو أقلَّ أو أكثر، وطالبُ النّار تأْنَسُ نفسُه بالنّار، فيستضيءُ بها، ويصطلي، وطالبُ الكلام يأْنَسُ بالمقتبَس، فيقْبِسُه، فيزيّنُ به كلامَه على نحوٍ حسنٍ جميلٍ.
رابعاً- المقتبَسُ النّبويّ من القرآن:
ذكرتُ في التّوطئةِ أنّي سأدرسُ المقتبَس النّبويّ وعلاقتِه بأصلِه القرآني، وما بينهما من أوجهِ التقاءٍ وافتراقٍ في الأسلوب من خلال مظهرين من مظاهر الاقتباس، وهذان المظهران هما: أولاً- اقتباسُ أحد طرفي التّشبيه. ثانياً- اقتباسُ الهيئةِ العامّة للمعنى دونَ تفاصيلِ الأسلوبِ.
أولاً- اقتباسُ أحدِ طرفي التّشبيه:
واقتباسُ أحدِ طرفي التّشبيه يكون عندما يدور التشبيهُ في المقتبَس والمقتبَس منه حول معنى واحدٍ أو غرضٍ واحدٍ، وسأمثل لهذا الضّرب من الاقتباس بمثالين:
أولهما: الاقتباسُ اللفظيّ للمشبّه، والمعنويّ للمشبّه به.
وثانيهما: الاقتباس اللفظيّ لأداة التشبيه والمشبّه به.
1- الاقتباسُ اللفظيّ للمشبّه، والمعنويّ للمشبّه به:
وسأمثّل لهذا المقتبَس بقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم من حديث مُسْتَوْرِدٍ أخي بني فِهْرٍ:(وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخرةِ إلا مِثْلُ مَا يَجْعَل أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ - وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ - فِي اليَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟)[24] فالنّبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا التّمثيل يريد القولَ لنا: إنّ متاع الدّنيا في مقابل الآخرة ليس بشيءٍ؛ إذ متاع الدّنيا هو متاعُ اللحظة، ومتاعُ الآخرة هو الحقّ الذي لا يفنى، ولا يُقَارَنُ به متاعُ الدّنيا مهما كَبُرَ وعَظُم، وهذه المقارنةُ بين متاعِ اللحظة ومتاعِ الأبد مقتبسةٌ من كتابِ الله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [التوبة: 38]. ﴿ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ﴾ [الرعد: 26]. والاقتباسُ النّبويّ في هذا التّمثيلِ ذو شكلين: شكلٌ لفظيّ، وشكلٌ معنويّ، فاللفظيّ كائنٌ في قولِ النّبي صلّى الله عليه وسلّم: (ما الدّنيا في الآخرةِ إلّا) اقتبسَه بلفظِه من قولِ الله تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا) ومن قوله: (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا) وترّتب على هذا الاقتباس تشابهُ القولين القرآنيّ والنّبويّ في التّصوير اللغويّ، فكلا القولين قام على أسلوب القصْرِ (ما ... إلّا...) لتقرير معنى القلّةِ في نفس السامع، وكلاهما قام على أسلوب المقارنةِ بذكرِ الدّنيا أوّلاً ثمّ مقارنتِها بالآخرة بوَسَاطة حرف الجرّ (في) (الدّاخل بين مفضولٍ سابقٍ وفاضلٍ لاحقٍ)[25] مفيداً معنى (المقايسةِ)[26]، وذهب الطّاهر رحمه الله في التّحرير إلى (أنّ المقايسة معنى حاصلٌ لاستعمال حرف الظّرفيّة، وليس معنى موضوعاً له حرفُ في.)[27] والمعنى أنّ (متاعَ الحياة الدّنيا إذا أُقحِمَ في خيرات الآخرة كان قليلاً بالنّسبة إلى كثرة خيرات الآخرة، فلزم أنّه ما ظهرت قلّتُه إلاّ عندما قيس بخيراتٍ عظيمةٍ، ونسب إليها.)[28] ولم يفترقِ القولان القرآنيّ والنّبويّ في الشطرِ المقتبَسِ إلّا في أنّ الدّنيا جاءت في التّعبير القرآنيّ وصفاً للحياة، وفي التّعبير النّبويّ وقعت مبتدأً. ولعلّ الباعثَ على وصفِ الحياةِ بالدّنيا في آيتي القرآنِ مناسبةُ حالِ المتكلَّمِ عليه؛ ففي آية التّوبة دارَ الكلام حولَ من تخلّفَ من المؤمنين عن غزوة تبوك، فصارَ أولئك بهذا التخلّفِ كأنّهم بمنزلة من قصَرَ الحياةَ على الدّنيا، فناسب هذه الحالَ أن يُذكر لفظُ الحياةِ، لا أن يُحْذَفَ، وفي آية الرّعد دار الكلام القرآني حول رِضا النّاسِ بالدّنيا وفرحِهم الشّديد بها، وتلك حال يناغيها ذكرُ لفظِ الحياة؛ لأنّه ما من شيءٍ يفْرَحُ له الإنسانُ الضالُّ فرحَه بالحياة، وأمّا الحديث النّبويّ فجاء عدمُ ذكرِ لفظ الحياة متّسقاً مع الغرض منه؛ وهو التهوينُ من أمر الدّنيا، وكأنّ عدمَ الذكرِ يعني أنّ ما يستحقّ أن يوصفَ بالحياة هو الدّار الآخرةُ لا الدّنيا، وفي ذلك مزيدُ تقليلٍ وتهوينٍ من قيمة نعيم الدنيا وما فيها.
وأما الشّكل المعنويّ للاقتباس في هذا الحديثِ فكائنٌ في التّعبير عن الخبر القرآنيّ بالمعنى؛ إذ يخبرُنا القرآنُ الكريمُ عمّا تفضي إليه المقارنةُ بين الدّنيا والآخرةِ من خلال اللفظ المباشرِ: (قليلٌ، متاعٌ) مُنْكِّراً إيّاه لتقرير معنى (التّقليل والتّحقير)[29] وأمّا الحديث فيخبرُنا عن هذه النّتيجةِ من طريق التّمثيل: (مِثْلُ مَا يَجْعَل أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ - وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ - فِي اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟) وما قلناه في توجيهِ ذكر لفظ الحياة في آيتي التّوبة والرّعد يصْلُحُ كلّ الصلاحِ للأخذ به في تفسيرِ سبب الاختلاف بين طريقِ المقتبَسِ والمقتبسِ منه في الإخبار عن نتيجة المقارنة؛ فالإخبارُ في آية التّوبة بالخبر (قليلٌ) مرجعُه إلى أنّ الآية جاءت في سياقِ الحثّ على النّفور في سبيل الله، ومعاتبةِ من تخلّفَ من المؤمنين في غزوة تبوك، فهؤلاءِ المتخلّفون كأنّهم أخلدوا إلى متاع الدّنيا، فرَأَوا فيه متاعاً كثيراً عظيماً، ولذلك دخلت همزةُ الإنكارِ والمعاتبةِ على فعل الرِضوان، والإنسان لا يرضى إلا بالكثير، يؤيّد ذلك قول الله تعالى: ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ [الضحى: 5]. فناسب هذه الحالَ أن يُنَبّه المؤمنون على أنّ ما رَضُوا به ليس إلّا شيئاً قليلاً حقيراً في جَنْب نعيم الآخرة، ولا يرضى به أهلُ العقولِ وذَوو الألبابِ، وأمّا آيةُ الرعد فالإخبارُ بلفظ (متاع) راجعٌ إلى أنّ الآية تتكلّم على فرحِ النّاس بالحياة الدّنيا، فناسب هذه الحالَ أن يُؤتى بلفظٍ يناسبُ حالَ الفرح، ويناغي لفظَه، ولا لفظَ في هذا الموضع كمثل لفظ (المتاع)؛ إذ (المتاع في كلام العرب: كلّ ما اسْتُمْتِعَ به من شيءٍ، من معاشٍ استُمتع به أو رِياشٍ أو زينةٍ أو لذّةٍ أو غير ذلك.)[30] وكلّ هذا ممّا يبعث الفرح والسّرور في نفس المتمتّع، والجملتان -كما ترى- بنيانٌ واحدٌ؛ إذ جملةُ: (وما الحياة الدّنيا في ) حالٌ من الحياة في جملة: (فرحوا)، وأمّا التّمثيل النّبويّ فسياقُه مختلفٌ؛ إذ النّبي صلّى الله عليه وسلّم يوجّه فيه كلامَه لكلّ سامعٍ استغرقته الدّنيا حتّى كأنّه نسيَ الآخرةَ في كلّ زمانٍ وكلّ مكانٍ، لذلك ينبّهه على أنّ الدّنيا ليست بشيءٍ، وأنّ الآخرة هي كلّ شيءٍ، وحتّى يقرّر في نفسه هذه الحقيقةَ أخرجَ كلامَه من طريق التمثيل، ودفعَ السامعَ إلى أن يبحث في المسألة، ويصلَ بنفسه إلى النّتيجة، فجعله يغْمِسُ إِصبعَه في البحر الكبيرِ الممتدّ، ثم دعاه بعدَ إخراجِها إلى النّظر بم ترجعُ؟ وإذا هي مجرّد ذراتٍ سرعانَ ما تزول في مقابل بحرٍ زاخرٍ لا ينتهي.
وهذا الاقتباس النّبويّ من القرآن يُعدّ عاملاً مهمّاً في تحديد الدَّلالة النّبويّة تحديداً يمنعُ أن يخالطَها ما قد يُتَوَهَّمُ أنّ اللغةَ تحتملُه؛ فعدمُ ذكرِ النّبيّ وجهَ الشّبه جعَلَ بنيانَ لغتِه عامّاً مطلَقاً، وهذا البناءُ يغرِي بمدّ المقارنة بين الدّنيا والآخرة إلى العذاب في معاني القِصَر والشّدّة والدّوام، ولكنّ هذا التّصورَ ما أسرعَ ما يتهاوى صريعاً عندَ ملاحظةِ الأصلِ القرآنيّ الذي اقتبس منه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حديثه، ويقوّي هذا التصورَ الدّلالي النظرُ في مقارنات القرآنِ والحديثِ بينَ الدنيا والآخرةِ في العذاب؛ إذ يفضي بنا الاستقصاءُ اليقظُ والدقيقُ إلى نتيجتين:
أوّلُهما: اطّرادُ التّهوين من متاع الدنيا في القرآن والحديث في مقام المقارنة؛ وذلك لأنّ الإنسان بما جُبل عليه من حبّ الخير العاجل الداني، وغلبةِ المحسوس في نفسه على الغيوب يُقبِلُ في الغالب على الدّنيا حتى يصيرَ إلى حال ينسى معها الآخرةَ، فيرى في نعيمها خيرَ النعيم، وفي ملذّاتها خيرَ الملذّات، وتنقلبَ الموازينُ عنده أشدَّ الانقلاب، وفي هذه الحال فإنّ الأسلوب الأمثل هو التهوينُ الشديدُ من الدّنيا كي يرغبَ عنها، أو يُقبِلَ عليها إقبالاً منضبِطاً ليس فيه سرفٌ، ولا تضييعٌ لحقوق الله ولا لحقوق العباد. فمن ذلك التّهوينِ قول الله تعالى: ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185]. وقوله تعالى: ﴿ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [آل عمران: 197]. وأمّا الحديث النّبوي فمن أمثلة التهوين من متاع الدنيا حديث جابر رضي الله عنه أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم: (مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ العَاليَةِ، وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ، فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَال: أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟ فَقَالوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ ؟ قَال: أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟ قَالوا: وَاللَّهِ لَو كانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ؛ لأنه أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُو ميِّتٌ؟ فَقَال: فَوَ اللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ.)[31].