شخصية الشهر
تهدف زاوية (شخصية الشهر) إلى إلقاء الضوء على أحد أعلام العربية في الوطن العربي، سواء أكان ذلك بالحوار أم بالكتابة عنه؛ وذلك بهدف إبراز الوجه التنويري والتثقيفي لهؤلاء العلماء، وتقريب مؤلفاتهم للمثقف العربي، وهذا غيض من فيض نحو حق هؤلاء العلماء علينا.
11- الأستاذ الدكتور محمد محمد داود
أستاذ علم اللغة بكلية الآداب جامعة قناة السويس
محمـَّــد محمـَّــد إمــام داود (1375-هـ = 1956-م): لغوي، محقِّق، مفكِّر وداعية إسلامي. حصل على الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى من كلية دار العلوم جامعة القاهرة عام 1997م. فاز بجائزة مجمع اللغة العربية "القاهرة" في تحقيق التراث عام 2004 م. قام بمهمة علمية إلى إنجلترا جامعة Leeds عام 2005م. التحق بجامعة UCR (كاليفورنيا بأمريكا)؛ لدراسة علم اللغة الحديث ومناهج التفكير في العلوم الإنسانية 1994/1995م. وهو الآن رئيس تحرير موسوعة بيان الإسلام الرد على الافتراءات والشبهات، والمشرف العام على موقع بيان الإسلام الرد على الافتراءات والشبهات، والمشرف العام على المركز الإسلامي بالعمرانية (جمعية المعرفة، مدارس الحسينية، مكتبة العلماء للباحثين والدعاة، معهد معلمي القرآن)، ومؤسس معهد معلمي القرآن الكريم، والمشرف عليه، وعضو الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة. شارك في العديد من المؤتمرات المحلية والدولية عن الإعجاز الصوتي في القرآن الكريم، وكذلك عن الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وقام بالتدريب اللغوي في جامعات إندونيسيا بجاكرتا وباندونج في دورة "اسمع وتكلم". حصل على وسام من وزير التربية والتعليم بصفته أحد رجال التعليم البارزين في مصر. من مؤلفاته في مجال الدراسات اللغوية: "القرآن الكريم وتفاعل المعاني"، و"الدلالة والكلام في العربية المعاصرة"، و"العربية وعلم اللغة الحديث"، و"معجم التعبير الاصطلاحي في العربية المعاصرة"، و"الدلالة والحركة في العربية المعاصرة"، و"جسد الإنسان والتعبيرات اللغوية". ومن مؤلفاته في مجال تحقيق التراث: " كشف المعاني في متشابه المثاني، لابن جماعة"، و"شرح كافية ابن الحاجب، لابن جماعة"، و"مشتبهات القرآن الكريم، للكسائي"، و"معجم الألفاظ القرآنية، للقليبي"، و"المختار من مدائح المختار صلى الله عليه وسلم للشاعر الشهيد يحيى الصرصري". ومن مؤلفاته في مجال الدعوة الإسلامية: "آلام أمة بين القدس وغدر اليهود"، و"مواقف وعبر"، و"موعظة البقاع الشريفة بمكة والمدينة"، و"القرآن وصحوة العقل"، و"موسوعة بيان الإسلام الرد على الشبهات"، وله نشاط إعلامي بإذاعة القرآن الكريم والفضائيات والتليفزيون.
• التعليم يبدأ من تطوير الأستاذ، وجعله يمثِّل القدوة والأسوة العلمية والأخلاقية.
• الكلمة تموت على لسان إنسان لا يُحسن نطقها، وتحيا نفس الكلمة على لسان إنسان آخر يُحسن نطقها ويتقن أداءَها.
• ينبغي أن تحدد: ماذا تسمع؟ وكيف تسمع؟ وكيف تتكلم؟ وأن تُراقَب من الآخرين.
• ينبغي أن نُجَوْجِلَ أنفسنا، حتى لا نتعرض إلى إهلاك المعرفة القديمة.
• فكرة التجديد والتطوير والتحديث عامةً هذه فكرة قرآنية إسلامية دائمة لا تقف عند حد.
• الإسلام لا يخشى النقد أبدًا، ولكن فرق بين النقد وبين السب والشتم والتطاول والتعالي.
• لدينا قواعد راسخة: (يَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)، (هِيَ أَقْوَمُ)، (لَيْسُوا سَوَاءً).
• اللغة تموت حينما يتنكَّر لها أهلها، ويسمحون بهذا الاحتلال اللغوي.
• العظمة لا تتأتَّى من فراغ، وكذلك السقوط لا يكون هباء بدون أسباب.
• الجامعات الحكومية في مصر كلها يمكن أن يكفيها عُشْر ما فيها من أساتذة.
• عمل المجامع له قيمته وأهميته فيما يهدف إليه، ولكن يُؤخذ عليه أنه بعيد عن المعاصرة، بعيد عما يحتاجه الناس.
• كلام + كلام+ كلام= كلام. أما كلام + فعل = وعي = حضارة = تنمية.
كل هذا وغيره كثير... فإلى تفاصيل الحوار:
• في البداية نود إلقاء الضوء على الشخصيات والمحطات المؤثرة في تكوينكم العلمي.
- بسم الله الرحمن الرحيم، التكوين العلمي والتكوين الفكري والتكوين الإيماني هذه محاور رئيسة في رحلة حياتي؛ أولا: التكوين الإيماني الشيخ عبد الحليم محمود والشيخ محمد متولي الشعراوي– رحمهما الله– لهما الفضل في هذا الجانب؛ لأن البناء الإيماني يجعل التوجه والطموح يرقى فوق المصلحة وفوق الدنيا إلى مقصد أعلى، وهو مرضاة الله عزو جل، ثم ننتقل إلى التكوين الفكري، أستاذنا الدكتور رشدي فكار، له أثر بارز في حياتي، ومن الساحة العربية والإسلامية القريبة لنا فضيلة الأستاذ الشيخ محمد الغزالي، الذي يُعتبر فكره مشروع حضارة لأمة لم يُستفد به بعد. في جانب اللغة، أستاذنا الدكتور عبد الصبور شاهين، وأستاذنا الدكتور العلامة كمال بشر، أستاذنا الدكتور طه أبو كريشة، وأستاذنا الدكتور عبد الغفار هلال، وآخرون ممن يُشهد لهم في هذا المجال. ومُعْجَب أيضًا في منهجية البحث اللغوي بأستاذنا العلامة الدكتور محمود فهمي حجازي. ومن الجانب الآخر أنا أفدت في الغرب من علماء؛ لأنني كانت لي دراسة في جامعة (U C R) بمنطقة ليفرسايد بولاية كاليفورنيا؛ فتأثرت بالمدارس اللغوية التي عندهم، مثل جيو ليونز، وديفيد كريستال.
• لا شك أن التعليم الجامعي في مصر يعيش أزمة حقيقية تتمثل في نظام الفصلين الدراسيين؛ حيث أصبح التعليم مجرد تلقين لمقررات معينة يؤدي الطلاب الامتحان فيها. برأيكم كيف يمكن تطوير التعليم الجامعي بحيث تُخصص مساحة للإبداع وإعمال العقل؟
- التعليم يبدأ من تطوير الأستاذ، وجعله يمثِّل القدوة والأسوة العلمية والأخلاقية؛ بمعنى أن أذاكر أنا والطالب، ولا أستنكف أن أستفيد من الطالب، والطالب يستفيد مني. نحن على مائدة مستديرة للبحث، وأعلِّم الطالب وأنا معه أن الفكرة الأفضل هي التي ترتفع؛ هذه هي القدوة العلمية والبحوث الجادة. القدوة الأخلاقية ألا نتاجر في الأولاد بالمذكرات ونحو ذلك، أو بمسائل الإشراف ونحو ذلك. للأسف هذا كله موجود، الأستاذ لابد أن يخاف على الطالب من الإلحاد، من المخدِّرات، من غول شديد في المجتمع يكاد يبتلعه، فيحاول أن يتجاوز المادة المعرفية فقط إلى ما هو أبعد من ذلك، لاحتضان الطالب. استيعاب الطلاب بمساحة من الحوار والتفاهم والحب والألفة والمودة شيء مهم جدًّا؛ فالأستاذ لا يعطي معلومات فقط، ولكن يعطي أسوة وقدوة، فيرى الطالب فيه والدًا، وأنه مُرَبٍّ، وأنه معلِّم، وأن الطالب إذا أخطأ لا يجد ملاذًا يحتمي به إلا الأستاذ، يذهب معه إلى البيت، يتكلم معه. ويوم انفصل التعليم سواء في الجامعة، أو المدرسة عن الخُلُق ضاع التعليم، وأصبح الأستاذ يأخذ سيجارة من الطالب، فضاعت الأسوة. ولم يعد المدرس أو الأستاذ في الجامعة يمثل قيمة يتمنى الطالب أن يكون مثلها. من هنا الجامعات الآن مصالح، الجامعات الآن لا تعبر عن القيمة المعرفية، ولا الخُلُقية؛ ولذلك العظمة لا تتأتى من فراغ، وكذلك السقوط لا يكون هباء بدون أسباب، الانهيار والسقوط له أسبابه؛ فالأستاذ – عندنا – صار مشغولاً بأمور أخرى، البحوث عندنا يندى لها الجبين، أنت لو أعددت بحثًا جيدًا تعبت فيه سنوات، وترى غيرك بالتدليس والقص واللزق...إلخ، أخذ رسالة، وساعده أستاذه لمصالح ما أو ما شابه؛ ليُعيَّن في الجامعة، ويُزاح الأفاضل ليُعيَّن مثل هؤلاء؛ هذا هو الانهيار؛ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: "إذا أُسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة"، هذا معنى ضياع الأمانة؛ فقيام ساعة أي مؤسسة أو أي إنسان عندما تضيع مثل هذه الأمور، لن يحترمه أحد، ولن يحترمنا العالم، وجامعاتنا ليست على المستوى. أقول: إن الجامعات الحكومية في مصر كلها يمكن أن يكفيها عُشْر ما فيها من أساتذة، والنفقة تُوجَّه إلى النفقة الحقيقية. يا أخي من سوء الإدارة عندنا في الجامعة أنك لا تجد دورة مياه على المستوى، أنك لا تجد أماكن على المستوى؛ البيئة التعليمية سيئة جدًّا جدًّا، ثم يلي ذلك الصراع على الجدول، والصراع على المذكرات، ثم تلفيق البحوث العلمية وعبارات مثل (خليه ياكل عيش، ومشِّي أمورك، وعلشان خاطري، وعلشان خاطر فلان... وما شابه ذلك)، مسائل التلقين في الجامعة عار، مسائل المذكرة عار على الجامعة، التعليم لا بد أن يقوم على التفكير والإبداع والحوار، للأسف لم تعد تعبر الدرجات العلمية في الجامعة عن قيمتها الحقيقية وقيمتها الأدبية الحقيقية....إلخ؛ كل هذا أفسد الجامعة.
العظمة لا تتأتى من فراغ، والانهيار له أسبابه، نحن بلا منازع استوعبنا كل أسباب الانهيار، ارتكبناها سواء في التعليم قبل الجامعي، أو في التعليم الجامعي؛ وبالتالي السوء ليس في التعليم وحده، بل السوء في مصر كلها؛ لأن كل المؤسسات القائمة هي مخرجات للتعليم. حين يكون التعليم فيه مشكلة؛ فالسياسة فيها مشكلة. حين يكون التعليم فيه مشكلة فالاقتصاد فيه مشكلة، فالطب فيه مشكلة، فالإعلام فيه مشكلة، فالهندسة فيها مشكلة. الأساس هو التعليم، إذا أردت أن تنظر إلى مستقبل أمة فانظر إلى تعليمها. الرئيس الأمريكي الأسبق عندما رأى أن خطط التعليم في الصين قد تطورت وسبقت أمريكا خرج وأعلن قائلاً: أمريكا أمة في خطر. التعليم في دولة في خطر، الدولة كلها إذن في خطر.
• يولي الدكتور محمد داود التدريب اللغوي عناية خاصة. هل أدت مراكز التدريب اللغوي في الجامعات رسالتها المنوطة بها؟ وما الذي تطمحون إليه من تطوير لهذه المراكز؟
- التدريب اللغوي ينبغي أن ينتقل من التدريب الميت إلى التدريب الحي. التدريب الميت كأنك تدرب الناس على لغة ميتة، حين تدرب بالكتابة والحفظ ونحو ذلك. يعني اللغة أصوات، كما قال القدماء والمحدثون، وحياة اللغة في أصواتها، واللغة التي لا تُنطق تموت؛ ومن هنا ينبغي أن ننظر إلى أهمية التدريب الصوتي، التدريب على اللغة المنطوقة. أقول لك (وأنا ضمن هذه الملاحظة، ولا أتحدث هنا بمنطق براءة الذمة أنني أعيب على الآخرين، وأنني بري من هذا الأمر، بل أنا جزء من هذه المنظومة التي تحتاج إلى علاج، وأرجو من الشباب أن يستدركوا ما أصابتنا الغفلة فيه، فلم نقم به): التدريب الحي والتدريب الصوتي والمهارة الصوتية حتى لا تغيب اللغة الحية المنطوقة نطقًا سليمًا صحيحًا في عُقْر دارها، عند الأستاذ، وعند المعلم... إلخ، هل تجده يتحدث في المحاضرة وفي المناقشات الجامعية وداخل المجامع بنفس الأسلوب ونفس الأداء الصوتي الذي يتحدث به في الشارع وفي المحافل الاجتماعية وفي حفلات السمر ونحو ذلك؟! اللغة فقدت هنا عنصر الصوت، وعنصر الحيوية. الكلمة تموت على لسان إنسان لا يُحسن نطقها، وتحيا نفس الكلمة على لسان إنسان آخر يُحسن نطقها ويتقن أداءَها.
مهارة الكلمة لها اليوم مدارس، تبدأ أولاً بتدريب اللسان، تدريب اللسان على النطق بكل حرف، الصور والأنماط المختلفة من التفخيم والترقيق ونحو ذلك، ثم بعد ذلك طرق الأداء التي ترتبط بالمعنى من حزن وفرح واستفهام وتنغيم...إلخ، ثم بعد ذلك المهارة على انسيابية الحديث، سهولة الحديث، أن يكون الكلام مألوفًا، وكيف يُحْدِث بروازًا صوتيًّا لهذه الكلمة؟ وكيف يحدث تعجبًا بالصوت لهذه الكلمة؟ وكيف يحدث نغمًا مشوقًا لهذه الكلمة... إلى آخر هذه الأمور.
لذا أرجو أن تنتقل مراكز التدريب من التدريب على لغة ميتة إلى لغة حية، وبدون ذلك لن يكون شيء، والتدريب يكون على اللغة المنطوقة، بداية القرآن يساعدهم في ضبط اللسان، بعد ذلك اختر من الشعر، واختر من الحياة العامة، واختر من الروايات... كل شيء؛ بل الآن نريد أن نعلم أبناءنا شيئًا جديدًا؛ لغة الفيس بوك، ولغة الشيخ جوجل... هذه اللغة من بيئة جديدة تقوم على التيسير والسهولة والاختصار والإيجاز، لم يعد موضوع الإنشاء القديم هو الذي يُجدي وينفع الآن، ينبغي أن نحدِّث أنفسنا، وأن نُجَوْجِلَ أنفسنا، حتى لا نتعرض إلى الإهلاك؛ فـ"جَوْجَلَة المعرفة" تعني أن تنظِّم نفسك بالأسلوب الذي يسمح أن تُوضع على منطقة التأثير على الشيخ جوجل، على الإنترنت، على شبكة المعلومات الدولية. مَنْ لم يصنع ذلك سيكون خارج منطقة التأثير فيتعرض لهذا المصطلح؛ فكلاهما يرتبط بالآخر وهو: إهلاك المعرفة القديمة.
• تسود حالة من تفرنج الشعوب العربية، واستخدام رطانات أعجمية سواء في الحديث، أو الإعلانات واللافتات، أو الكتابة ذاتها. كيف لنا أن نعزز الانتماء بالعربية واستخدامها لغة للحديث والكتابة والإعلان...إلخ.
- هذا يمثِّل حالة من الشعور بالدونية عند العرب، فيتبعه شعور بالدونية للغتهم عندهم؛ لأنهم يشعرون بأنهم أقل من الآخر؛ وبالتالي فكرة الغالب والمغلوب، والمنتصر والمهزوم موجودة في هذا الجانب النفسي. وما من شك إن لم تتغير هذه الحالة تغيرًا نفسيًّا وعلميًّا وثقافيًّا، يتبعه تغير لغوي فنحن ننزلق إلى مهانة أكثر، وإلى تغريب أكثر. يعني تغريب هنا وتهويد هناك في القدس. محو الشخصية العربية، ومحو الهُوِيَّة العربية يُعمل فيه بالكامل؛ ولذلك المستقبل لا يبشر بخير أبدًا. ومن مواقف الذين يعتزون بلغاتهم الرئيس الفرنسي عندما قاطع أحد رجال الأعمال عندما تكلم بالإنجليزية في مؤتمر قائلاً له: كيف تتكلم بالإنجليزية وأنت فرنسي؟! فقال: لأن المؤتمر بالإنجليزية. فقال له: ولكنك فرنسي، ثم غادر المؤتمر، فسأله الصحفيون: لماذا خرجت من المؤتمر؟ قال: أنا لا أطيق أنا أرى فرنسيًّا لا يحترم لغته.
• وعلى مَنْ تقع المسؤولية؟
- المسؤولية مشتركة بين الجانب السياسي والجانب العلمي؛ فكلاهما يكمِّل الآخر ويعاضده ويعاونه.
• هناك انتقادات لمجامع اللغة العربية في العالم العربي أنها لا تنتج، وأنها منكفئة على الماضي، ولا تلتفت إلى مسايرة ركب الحياة المعاصرة. ما تعليقكم؟
- على قدر حجمك على قدر ما يُوجَّه إليك من نقد؛ فلأن المجامع عظيمة، ولأن دورها عظيم يُوجَّه إليها الانتقاد. المجامع فيها أساتذتنا وعلماؤنا وسدنة العربية، والعلماء في كل العلوم من العرب والمستعربين وغيرهم هؤلاء الأعلام الأفاضل في كل ما يتصل بشؤون اللغة العربية ومصطلحاتها، وهو أمر ومسئولية جسيمة تؤكِّد دور هذه المجامع؛ لكن السياسة التي تعمل بها المجامع-وأمثِّل هنا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة لأنني خدمت فيه بوجه ما مدة من السنوات في لجنتي تحديث المعجم الوسيط والألفاظ والأساليب– سياسة تُجهض كل هذه الجهود، لديَّ أفكار ومقترحات ونقد ذاتي أقول "ذاتي"؛ لأني جزء من هذا المجمع شئتُ أم أبيتُ أحتفظُ به لأقوله لمسؤولي المجمع حين يُطلب مني ذلك؛ لأن قول ذلك من خلال أي منبر سيُفهم ويُؤوَّل على أنه هجوم على المجمع وتطاول، وبدلاً من الاستفادة منه سيضر، وهذا ما لا أريده؛ بل الخير للغة والمجمع والمجتمع هو ما أريد. والله من وراء القصد.
• يعاني الكثير من طلاب الجامعات من صعوبة فهم النحو العربي. هل تكمن المشكلة في ضعف الطلاب أنفسهم، أم أن النحو يحتاج أن يُقدم بصورة أخرى؟
- هل تعلم أن النحو في الزمن الأول كان يُدرس من خلال نص؟ أن تأتي إلى نص فتحلل هذا النص أين الفعل؟ أين الفاعل؟ أين كذا؟ خلال هذا النص كيف يُنطق هذا النص، وما هي المحاذير؟ أقول لك إن تدريس الفاتحة بداية وآخر سورة الفتح. جرِّب هلاّ صنعت ذلك في الجامعة. جرِّب عليهما صوتيًّا وصرفيًّا ونحويًّا ولغويًّا وحلل كل ذلك. هذا يقوم مقام مناهج كثيرة جدًّا يحفظها الطلاب ويخرجون لا يفهمون شيئًا، ويتأثر الفهم، ويتأثر الوعي، وتتأثر القواعد، يتأثر كل شيء. ولكن ليس تدريبًا مصمتًا اقرأ يا بنيّ ويحفظ ويمضي. ولكن حرفًا حرفًا، حركة حركة، جملة جملة. هذا هو الكلام. يعني مثلاً عندما يقول الولد "القرآن الكريم" هل هي (أَ) (بالتفخيم) أم (أَ) بالترقيق؟ هذا تدريب صوتي. فيعرف أن صوت الهمزة غير مفخم وأنه مرقق في كل القرآن الكريم، وكذلك الحاء...إلخ. إلى غير ذلك من التدريبات الصوتية التي يأخذها الإنسان من خلال القرآن الكريم. وقس على ذلك النحو.
• "اللغة كيف تحيا؟ وكيف تموت" عنوان أحد كتبكم مؤخرًا. ما الرسالة التي حاول الكتاب توصيلها للقارئ؟ وهل حقًّا يمكن أن تموت اللغة؟
- اللغة تموت بموت اهتمام أهلها بها، بزهد أهلها فيها، بتنكر أهلها لها، بعدم جعل هذه اللغة في أحاديثهم إذا تحدَّثوا، في إعلاناتهم إذا أعلنوا، في حياتهم العلمية. الذي دفعني إلى هذا الكتاب أننا عندنا ما يشبه بالاحتلال اللغوي في البلاد العربية لماذا؟ لأن العرب وحدهم هم الذين ارتكبوا جريمة السماح بالاحتلال اللغوي، من خلال التعليم بغير اللغة الوطنية؛ هذا كله مجرَّم في أوربا، في أمريكا، في إسرائيل، في الصين، في اليابان. والعقلية العربية وحدها هي التي أنتجت ذلك لماذا؟! لأن اللغة لا تُعزل عن شحنتها الثقافية. فالشرق فيه حرية منضبطة بالدين؛ الحرية في جانب العقيدة عند الغرب مختلفة عنا. فاللغة حين يتنكَّر لها أهلها، ويسمحون بهذا الاحتلال اللغوي، حين يكون فيها ذلك الزهد، والاحساس بالدونية...إلخ، فهذه اللغة تموت بمعنى تختفي. وهناك لغات ماتت، أكثر من ثلاثين ألف لغة ماتت في تاريخ البشرية منذ بدايتها وحتى الآن، والإحصاءات العالمية تقول ذلك. أقول ذلك: لأن أهلها ماتوا. متى تموت اللغة؟ إذا مات آخر متحدِّث باللغة فقد ماتت اللغة.
يتبع..