سلسلة (عالم ورأي)
تهدف هذه السلسلة إلى استجلاء رأي عالم من علمائنا حول قضية من القضايا، أو عقبة من العقبات التي تواجه أبناء العربية، أو طرح رؤية لاستنهاض الهمم وتحفيز العزائم. فإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر.

89-الدكتور مصطفى رجب –العميد الأسبق لكلية التربية جامعة سوهاج بمصر، ورأيه في التحديات التي تُمْتَحَن بها اللغة العربية (سيطرة العامية، وانحدار مستوى تدريس اللغة العربية، وانحدار مستوى التعبير الإعلامي بها):
1- سيطرة العامية: يمكن تلخيص مظاهر سيطرة اللهجات العامية على العربية الفصحى في مواقف حياتية متعددة هي:
أ- سيطرة اللهجات العامية على أنماط التواصل اليومي بالبيت والشارع.
ب-سيطرة اللهجات العامية على أنماط التواصل في قاعات المحاضرات بالجامعات والفصول الدراسية بالمدارس.
ج-سيطرة اللهجات العامية على أنماط التواصل في البرامج التلفزيونية والإذاعية والأفلام والأغاني.
د-سيطرة اللهجات العامية على معظم أنماط التواصل حتى في ذلك المحافل الرسمية.
هـ-شيوع استخدام اللهجات العامية في بعض الأعمال الأدبية.
2- انحدار مستوى تدريس اللغة العربية: فعلى الرغم من الجهود المتفانية التي يبذلها مدرسو اللغة العربية، فما تزال مكانتها بين المواد الدراسية مختلفة عما يليق بها من صدارة وتقدم، وقد يرجع ذلك إلى عوامل كثيرة منها: اختلاف مشارب المدرسين أنفسهم وتعدد مصادر تخريجهم، وكثرة أفرع المادة وتوزيع جهد المعلم بين تلك الأفرع من ناحية، والأنشطة المدرسية كالإذاعة والصحافة والرحلات وتدريس التربية الدينية من ناحية أخرى.
وفي هذا السياق يطيب لوسائل الإعلام من حين لآخر أن تُقحم أنفها في قضايا علمية شائكة (مثل قضية: ضعف معلمي اللغة العربية!!) فلا تبلغ منها إلا بمقدار ما تبلبل العقول، وتثير الشكوك، وتحير النفوس. فمن ذلك ما يتسرب أحيانًا من مقولات معقدة مثل ضعف إعداد المعلمين، وبخاصة معلمو اللغة العربية.
والأَنْكَى أن هذه التهويمات الإعلامية الجوفاء تسربت في وقت من الأوقات إلى دهاليز مؤسسات رسمية حكومية تبنتها بغير تمحيص، وتلقتها كحقائق، ورتبت عليها مواقف وتصريحات أساءت للمختصين.
ومنشأ الأزمة أن "ضعف المعلمين" كمصطلح يحتمل أحد وجهين فهو: إما أن يكون ضعف أداء، أي ضعفًا مهنيًّا في فنيات التعليم ومهاراته وأساليبه، أو أن يكون ضعفًا تكوينيًّا في صميم المادة العلمية التي يقوم المعلم بتدريسها كأن يعجز مثلًا عن فهم مسائل في النحو أو الرياضيات أو الفيزياء أو الجغرافية.
ولأن الكليات المنوط بها –رسميًّا– إعداد المعلمين، هي كليات التربية فإن إطلاق الاتهامات الإعلامية بضعف المعلمين سرعان ما يتناول كليات التربية ويعلقها على ما أسميه مقاصل "الردح" الإعلامي القاتلة!!. ويتجاهل الإعلام بهذا المسلك حقيقتين أساسيتين هما:
الأولى: أن الحكومة (يقصد الحكومة المصرية) دأبت منذ سنوات طويلة على عدم احترام مهنة التدريس كمهنة لها أصولها فاتخذت تعيين الخريجين المختلفين معلمين وسيلة للفكاك من كابوس البطالة الذي يقض مضاجع الحكومة ويسمِّم أوقاتها ويهدِّدها بالزوال بين الحين والآخر، فإذا دخل كل من تخرج في الجامعة إلى مهنة التدريس وشاع مصطلح "ضعف المعلمين" وتسرب في وسائل الإعلام، أُلقيت الاتهامات على كليات التربية، وتم غض الطرف عن خطأ الحكومة في إلباس عباءة (المعلم) لمن لم يُعد لارتدائها، وإقحام غير المختصين في محراب هذه المهنة فيجنون على أنفسهم وعلى قرنائهم من المختصين. وتنجو الحكومة ببأسها وقهرها من الألسنة الإعلامية الحداد، ويحمل وزرها التربويون وحدهم بلا جناية جنوها، وبغير إثم اكتسبوه.
والحقيقة الثانية: أن القائمين على إعداد المعلم تخصيصًا هم أساتذة الكليات المتخصصة كالآداب والعلوم والزراعة والتجارة والهندسة. وإن كان الكلام عن ضعف المعلمين عادة لا يتسع لمعلمي التعليم الفني؛ بل ينصب في الأغلب على التخصصات الأكاديمية لا المهنية مثل اللغات والرياضيات والعلوم.
فإذا أُونس ضعف في معلم اللغة العربية مثلًا، فالأجدر بمن يتناول شأن هذا الضعف بالحديث، أن يبدأ بالبحث عن مكمن هذا الضعف: أهو ضعف في الأداء المهني بمعنى القصور عن أساليب التعليم وفنياته؟ أم هو ضعف في التكوين العلمي بمعنى القصور عن فهم مادة التخصص ذاتها؟ فإن كان الضعف من النوع الأول فتُلام كليات التربية، وإن كان الثاني فتُلام كليات الآداب.
والواقع يشهد بأن ضعف خريجي الجامعات ليس مقصورًا على معلمي اللغة العربية، بل إن هذه الظاهرة تدخل ضمن ما يسميه الفقهاء "عموم البلوى"، ويستدلون بشيوعه لتيسير الأحكام الفقهية. ففي كل عام تُقام مسابقات لتعيين مذيعين جدد أو لتعيين دبلوماسيين جدد، وما أن ينعقد الامتحان للمتسابقين حتى تطفح الصحافة بما حدث من مهازل وتكشف عن مستوى مُخْزٍ للخريجين الجدد في ثقافتهم العامة [الثقافة التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية[، ويضرب الصحفيون أمثلة بما تفتحت عنه بعض القرائح من فضائح.
أما معلمو اللغة العربية فإن ضعفهم المقصود لا يتعدى أخطاء النطق أو الكتابة وهي، وإن كانت لا تُغتفر لهم، مسؤولية أقسام اللغة العربية التي تتولى الجانب الأكاديمي في إعداد هؤلاء المعلمين، فالإنصاف يقتضي أن تُرد الأمور إلى نصابها، وأن يُنسب الجهل لأهله، وأن يُعزى الخطأ إلى من تسبب فيه.
ومنذ أعوام استقرت لوائح كليات التربية على أن يكون توزيع ساعات الدراسة فيها بنسب معينة هي: 75% للإعداد الأكاديمي (مقررات التخصص)، و20% للإعداد المهني (المقررات التربوية)، و5% للإعداد الثقافي (كالحاسوب واللغات الأجنبية وغيرها)؛ فإذا تأملنا في تفصيل الــــــ75% فسنجدها في حالة معلمي اللغة العربية مقسَّمة بين دروس النحو والصرف واللغة والبلاغة والنقد والعروض والأدب وتاريخه، والدراسات الإسلامية، والتاريخ الإسلامي.
فالطالب يتخرج في كليات التربية، وقد درس اثنتي عشرة ساعة على الأقل أو ست عشرة ساعة على الأكثر في النحو الصرف –دون علوم اللغة- وهذا الوقت يساوي أو يقارب كثيرًا ما يدرسه نظيره خريج الآداب أو دار العلوم. فلا يكون للمقررات التربوية أثر في ضعف الخريج إلا بمقدار ما يكون للمقررات الإضافية التي يدرسها خريجو الآداب أو دار العلوم من أثر. أما ما للنحو هنا، فهو ما للنحو هناك أو مع تفاوت يسير جدًّا، هذه واحدة.
والثانية، أن بعض الكليات التي تعاني من فقدان التقاليد الجامعية الأصيلة قد تكل أمر تدريس مقرر أو أكثر إلى غير متخصص فتكون النتيجة ضعفًا حقيقيًّا لدى الخريج أيًّا ما كان اسم الكلية التي تخرج فيها.
والثالثة: أن بعض الكليات لا تتوافر لها الإدارة الواعية القادرة على متابعة ما يدرس الطلاب، وتدع العلاقة بين الطلاب وأساتذتهم تسير دون رقابة حقيقية، فتتكرر المأساة، يُباع الكتاب أولًا ثم تُلغى المحاضرات أو تُؤجَّل أو يُعتذر عنها، أو يُحذف ربع الكتاب أو نصفه أو ثلاثة أرباعه– حسب نتائج المبيعات– ويُخفف المنهج، ثم تُخفف الأسئلة، ثم يُخفف التصحيح، ثم "تلعلع" النتائج شاهدة بعبقرية هذه الدفعة أو تلك!!
والرابعة: أن بعض من يُوكل إليهم تدريس النحو والصرف لا يهتمون بسؤال الطلاب عما سبق لهم درسه في الأعوام الماضية، وقد يحدث – وحدث فعلًا – أن يكرر الأساتذة تدريس ما طاب لهم من الدروس مع أن الطلاب سبق لهم دراستها. والطلاب في هذه الحالات يسكتون سكوتًا مريبًا لأنهم سعداء بأنهم لن يبذلوا جهدًا جديدًا في استيعاب دروس جديدة.
وعلاج هذا الضعف إنما يكون بعدد من الوسائل منها:
1- عقد مؤتمر قومي تحت رعاية المجمع اللغوي أو المجمع العلمي المصري يُدعى إليه المهتمون وذوو الصلة بالقضية وتُكفل له الحرية والتمويل وتُصاغ توصياته بمشاركة الحاضرين بحيث لا تكون مسيَّسة أو مُعَدَّة سلفًا أو مصوغة وفق أهواء طرف أو أكثر من الأطراف.
2- افتتاح أقسام للغة العربية في كليات التربية أسوة بما هو متبع في جامعة عين شمس تُناط بها مسؤولية إعداد المعلمين أكاديميًّا.
3- إجراء اختبارات للمرشحين للعمل بمهنة التدريس قبل تعيينهم يقوم على إجرائها خبراء وزارة التربية والتعليم المتخصصون في المادة لا المرتزقة الذين في كل وادٍ يهيمون ويقولون فيما لا يعلمون ما يشاؤون.
4- وقف تعيين غير التربويين بحيث لا يُلجأ إلى تعيينهم إلا بعد نفاد أعداد التربويين الذي لا مهنة لهم إلا هذه المهنة.
المصدر: تحديات تربوية تواجهها لغتنا ومقترحات للعلاج، بحث مقدم إلى مؤتمر: اللغة العربية وتحديات البقاء، ص 224-229. (بتصرف).
إعداد: د.مصطفى يوسف