سلسلة (عالم ورأي)
تهدف هذه السلسلة إلى استجلاء رأي عالم من علمائنا حول قضية من القضايا، أو عقبة من العقبات التي تواجه أبناء العربية، أو طرح رؤية لاستنهاض الهمم وتحفيز العزائم. فإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر.

94-الأستاذ الدكتور عبد العزيز التويجري– المدير العام للإيسيسكو، ورأيه في: أهمية اللغة العربية في وسائل الاتصال الإلكتروني:
إن حيـاة اللغـة وحفاظها الذاتي على مقـوّمات البقـاء، يعكسان صحة كيانها وسلامة بنيانها وصلابة مناعتها، فبهذه المقومات تغلبت لغة الضاد على المؤثرات السلبية وعوامل التهميش والاختراق والغـزو، واجتازت الموانع التي كانت تعترض سبيلها نحو الذيوع والانتشار، حتى وجدنا اللغة العربية في هذا العصر، تعرف توسعـًا لا ينتهي عند حـد، يصل إلى أصقاع الأرض جميعـًا بدون حدود.
ولم تعرف اللغة العربية انتشارًا في العالم وامتدادًا في الأرض كما تعرفهما في عصرنا هذا. وهذا الانتشار الذي تحققه اللغة العربية، سببه الأول كونها لغة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والتراث الفكري الإسلامي الضخم؛ ولهذا يقبل المسلمون في جميع أنحاء العالم على تعلـمها كلّ حسب قدرته وفي ضوء الظروف المتاحة له، رغم ضعف أهل اللغة أنفسهم وذهاب ريحهم.
وبينما تنتشر اللغة العربية في أقطار الأرض، وتـُعتمد لغـة ً عالميةً، وتصدر اليونسكو قرارها بتحديد اليوم الثامن عشر من شهر ديسمبر كل سنة، يومـًا عالميـًّا للغة العربية، تعيش أمتنا العربية مراحل حرجة، وتواجه تحديات عنيفة من كل صوب، وتشهد صراعاتٍ محتدمة، وأزماتٍ تكاد أن تكون مزمنة، وتعاني أشدّ المعاناة، من قلاقل وفتن ومشكلات تضعف من قدراتها وتنهك قواها. فيتراجع- من جـراء ذلك كله- دورها في ميادين السياسة الدولية.
وعلى تعدّد المجالات الحيوية التي يتعزز فيها الحضورُ المؤثر والفاعل للغة العربية في هذا العصر، فإن المجال الإعلامي على تنوع فضاءاته، يشهد تدفقـًا واسعـًا وامتدادًا متصاعدًا للغة الضاد. ولما كانت تقانات الإعلام تعرف تطورًا مطردًا، جعل الإعلام الإلكتروني يـَتـَجـَاوَزُ الإعلام التقليدي بمسافات شديدة البعد، بحيث يمكن القول، حسب ما تكشفه الدراسات المتخصصة للخبراء الإعلاميين من حقائق مذهلة، إن مجال الإعلام الإلكتروني أصبح أكثر اتساعـًا وأعمق توفقـًا وأجمل رشاقـة، بسبب ما أصبح بين أيدينا من وسائل التبليغ والعرض، وبصفة عامة تقديم خدمات متنوعة، وفي الوقت نفسه، مخاطبة جماهير متعددة بلغات متعددة، كل جمهور يتلقى الرسالة بلغته، مع القدرة على إغناء تلك الخدمات بمعطيات وشروح مستمدة من أمهات المصادر الغنية، والمحمَّلة بأهم ما أنتجته المعرفة الإنسانية على مر العصور، من خلال معلومات مرقمة.
إن الطفرة الإعلامية الهائلة في وسائل الاتصال الإلكتروني جعلت من العالم قرية صغيرة، بحيث تبدَّل الافتراضُ إلى الحقيقة من وجوه كثيرة، وأصبحت الأبواب مفتوحة أمام مَن يريد التزوّد بالمعرفة في شتى الحقول وبدون استثناء، فصارت المعرفة متاحةً للجميع وبين يدي من يدخل إلى الفضاء الافتراضي. وهذا تطور عظيم القيمة، له بالغ التأثير في الحياة الإنسانية، ولربما سيكون له انعكاسات أقوى وأشـدّ تأثيرًا في المستقبل القريب على البشرية.
وفي هـذا المجال أصبح للغـة العربية حضور ملحوظ في الفضاء الافتراضي. ولكن إنْ كان له امتدادٌ من حيث الكم، فهو ليس له الامتداد نفسُه من حيث الكيف. فالارتفاع في عدد الزائرين للمواقع العربية على الشبكة العالمية، وفي كـثرة هذه المواقع وتنوع اتجاهاتها وأهـدافها ومستوياتها، وفي حجم المكتـنزات الثـقافية والفكرية والأدبية والعلمية والتـراثـية من المراجع المخزنة في الفضاء الافتراضي القابلة للتحميل، أي متاحة لمن يشاء وفي متناوله للنقل والتخزين والتسجيل والاسترجاع. كل ذلك لا يدل على أن لغة الضاد التي يمتلئ بها هذا الفضاء اللامحدود، هي في حال من القوة والمتانة والصحة. فالعربية معروضة ٌفي الفضاء بقدر محدود، في واقع الأمر، بالمقارنة مع الوضع الذي عليه لغات أخرى، خصوصًا اللغات الثلاث الرئيسة التي تتصدَّر قائمة اللغات الرائجة في وسائل الاتصال الإلكتروني، وهي الإنجليزية، والصينية، والإسبانية.
إنه لا يمكن أن ننكر المستوى غير اللائق باللغة العربية الذي تتبوأه في العالم الواقعي وفي الفضاء الافتراضي. ولابد من أن يكون في هذا الاعتراف ما يحفزنا لبذل الجهد وإفراغ الوسع للارتقاء بالمستوى العام للغـة الضاد من جميع الوجوه.
وبالنظر إلى ترتيب اللغات في العالم على شبكة الإنترنت، نجد أن اللغة الإنجليزية تحتل المرتبة الأولى على الصعيد العالمي. وفي ذلك دليل على أهمية هذه اللغة التي أصبحت تفرض نفسها بشكل كبير في ميادين عدة. إلاًّ أن ما يثيـر الانتباه ويتوجب الوقوف عنده، هو موقع اللغة العربية التي احتلت المرتبة الرابعة من بين اللغات المستخدمة على شبكة الإنترنت.
وحرصًا على مزيد من التوضيح، نشير إلى أن الإحصاءات العامة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (اللذين يتشكل منهما العالم العربي)، تؤكد على ما يلي:
يجري يوميـًّا أكثر من 100 مليون بحث باللغة العربية على محرك جوجل (النسخة العربية) مقابل 4 مليارات بحث في جميع أنحاء العالم بمختلف اللغات.
يتم إنشاء أكثر من 36,000 حساب جديد "للفيسبوك" كل يوم.
يتم عرض أكثـر من 100 مليون مقطع فيديو على يوتيوب كل يوم.
يتمّ 13% من عمليات البحث باللغة العربية من خلال الأجهزة النقالة، مع توقعات تشير إلى أن هذه النسبة قد تصل إلى 30% في عام 2017م.
يقوم 45,9 مليون من مستخدمي الإنترنت في الدول العربية بأبحاث على محرك البحث جوجل باللغة العربية، إضافة إلى 9 ملايين من خارج منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والتي هي غالبـًا من الجاليات العربية.
إنه يمكن القول إجمالًا وفي ظل هذه البيانات، إن بناء المحتوى الرقمي العربي بات ضرورة ملحة وأهمية قصوى من أجل مجاراة لغات العالم وتعزيز مفهوم المنافسة الثـقافية والمرجعيات الفكرية واللسانية، انطلاقًـًا من عالم الإنترنت؛ مما يدفعنا إلى طرح سؤال حول الأساس الذي يقوم عليه المحتوى العربي الرقمي وحول مدى حضور اللغة العربية على شبكة الإنترنت.
وليس من شك في أن التفوق العددي للغة العربية قد يدفع إلى مزيد من الاستثمار في المحتوى العربي على الشبكة العالمية، خاصة من قِبل الشركات العالمية مثل جوجل، وياهو، ومايكروسوفت، والتي بدأت بالاهتمام بالسوق العربية منذ سنوات قليلة. وهذا موضوع يندرج في اقتصاديات المعرفة سيخرج بنا عن موضوعنا إذا ما استفضنا في الحديث عنه. ولكن لابد من القول إن المحتوى العربي على الشبكة العالمية، لا يرقى إلى مستوى التفاعل المؤثر الذي يُتوقع في مثل هذه الحالة؛ لأنـه بعبارة جامعة، محتوى يقوم على العرض فقط دون الأخذ والعطاء، ولا يقدم خدمات مفتوحة لرواد الفضاء الافتراضي، على غرار ما هو عليه الوضع بالنسبة للغات الأخرى.
إن وعاء المعرفة هو اللغة التي أصبحنا نستقيها في حياتنا اليومية من مختلف الوسائل، وأهمها شبكة الإنترنت. وكل معلومة تتشكل بلغة ما في قالب رقمي مثل الحواسيب والهواتف الذكية، يطلق عليها الخبراء اسم (المحتوى الرقمي)، فمحتوى اللغة العربية الموجود على الإنترنت يمثل مجموع المعلومات المتوافرة على الشبكة العالمية بشكل رقمي في شتى مجالات المعرفة والحياة؛ ولذلك فإن أهمية المحتوى في أي لغة يعود بفوائد جمة على أهلها، كالفوائد الاقتصادية من المحتوى المتعلق بالتجارة الإلكترونية، وفوائد ثقافية من وجود محتوى ثقافي وتراثي، وفوائد إدارية وخدماتية من محتوى الحكومة الإلكترونية. وهكذا دواليك.
وحساب المحتوى على الإنترنت يُعرف بعدد الصفحات، كما أن إغناء المحتوى الرقمي لا يتم إلا بالإبداع والتجديد والابتكار، الذي يليه في الأهمية تزايدُ عدد زيارات الأشخاص لتلك الشبكات.
وينتشر المحتوى العربي الرقمي على الإنترنت مثل جميع اللغات، وفق مجالات مختلفة، نذكر منها تلك التي وجب تكثيف الجهود للزيادة في التعامل معها وزيادة المحتوى العربي فيها:
- التراث: كتب التراث العربي الإسلامي.
- النشر: الكتب، المجلات، الدوريات العلمية.
- الإعلام: الإذاعات، التلفزيونات، الفضائيات.
- العلم والتكنولوجيا: الجامعات، مراكز البحوث، الجامعات الافتراضية.
- المكتبات: نص، صوت، صور، فيلم، كتب إلكترونية.
- الثقافة: متاحف، بوابات الثقافة، فكر وموسيقى وأدب ورسم.
- الأعمال: مواقع الشركات، دليل الشركات، دليل المصدرين، دليل المصنع، دليل البنوك.
- الحكومة الإلكترونية: البوابة الحكومية، مواقع الوزارات والمؤسسات العامة.
- الصحة: العيادات، المستشفيات، التطبيب عن بعد.
- منشورات المنظمات: غير الحكومية، الإقليمية، الدولية.
- السياحة: المواقع السياحية والتاريخية والطبيعية، المطاعم والفنادق والنقل.
- التسلية، ألعاب أطفال، أفلام كرتونية.
- ولتنشيط زيادة هذه المحتويات العربية الكثيرة، يتطلب الأمر مبادرات فعالة تستهدف كل مجال على حدة من هذه المجالات المذكورة.
المصدر: أهمية اللغة العربية في وسائل الاتصال الإلكتروني، بحث مقدم لمؤتمر مجمع اللغة العربية بالقاهرة في دورته الثمانين.
إعداد: د.مصطفى يوسف