الاستعمار الغربي المباشر ومعاركه مع اللغة العربية
أ. د. عبدالله أحمد جاد الكريم حسن
تعرضت الأمة العربية والإسلامية للاستعمار الغربي المباشر، ورَزَحت تحت وطأته سنين عدة كثيرٌ من البُلدان العربية، من المحيط إلى الخليج، ولقد أدى هذا الزحف الاستعماري المستبِد الغاشم إلى تخلف الوطن العربي؛ لغة وشعبًا وحضارة... إلخ، وخلف آثارًا مقيتة، وما يهمنا هنا الآثار التي تهم اللغة العربية، فقد عمد الاحتلال الغربي في البلد العربي الذي وقع فريسة له إلى أن يمحو ذاكرة التاريخ والحضارة، وأن ينزع ألسنتهم، ويستبدل بها لسانه، وأن ينتزع الإيمان من صدورهم، وأن يمحو حضارتهم من أرضهم وعقولهم... إلخ.
وفي بداية الأمر خُيِّل للاستعمار وأعوانه أن العرب قد استكانوا ورضخوا وأذعنوا، ولن تقوم لهم قائمة بعد ذلك، إلا أنه مع مرور السنين، لم يحقق الاستعمار كثيرًا مما أراد - وإن حقق بعضًا منه - فقد كان التعليم في البلاد العربية المحتلة يتم كله باللغات الأجنبية؛ الإنجليزية في (مصر، والسودان، والعراق)، والفرنسية في (سورية، وتونس، والجزائر، والمغرب)، فقد كانت خطة النفوذ الأجنبي ترمي إلى:
أولاً: تحويل أبجدية اللغات الإقليمية إلى اللاتينية، وكانت تكتب أساسًا بالعربية، كما حدث في إندونيسيا وبعض بلاد إفريقية وآسيا.
ثانيًا: تقديم اللغات الأجنبية في الأقطار الإسلامية على اللغة العربية.
ثالثًا: تقديم اللهجات واللغات المحلية، وتشجيعها، والدعوة إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية.
رابعًا: ابتعاث الطلاب إلى الغرب لدراسة لغاته، وكان ذلك إيمانًا بأن اللغة هي الوجه الثاني للفكر، وأن من يجيد لغة أمَّة لا بد أن يعجب بتاريخها وفكرها، ويصير له انتماء من نوع ما إلى هذه الأمة.
وفي هذا الشأن يقول الحاكم الفرنسي في الجزائر - بمناسبة مرور مائة عام على احتلالها -:
"يجب أن نُزيل القرآن العربي من وجودهم... ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم؛ حتى ننتصر عليهم"[1]، وتجلى ذلك في ممارسات الفرنسيين الذين اقتحموا الأزهر إبَّان الحملة الفرنسية، وجعلوه إسطبلاً لخيولهم، وكذلك في إغلاق المساجد في الجزائر - بعد احتلالها - وتحويل بعضها إلى كنائس، وهم الذين قاموا بمحاولة القضاء على اللغة العربية والثقافة الإسلامية في الشمال الإفريقي، ناهيك عن المجازر الوحشية التي ارتكبها هؤلاء وغيرهم في البلدان العربية والإسلامية المستعمرة.
ولكن اللغة العربية أبت أن تندحر أو تُقهر، وذلك بفضل حفظ الله تعالى لها المتمثل في حفظ كتابه، ثم بفضل خصائصها، وفضل إيمان أبنائها ومحبيها بأهميتها ومكانتها ودورها، وفي هذا الشأن يقول مصطفى صادق الرافعي: "ما ذلَّت لغة شعب إلا ذَلَّ، ولا انحطت إلا كان أمره في ذَهاب وإدبار، ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمِر لغته فرضًا على الأمة المستعمَرة، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكامًا ثلاثةً في عمل واحد؛ أما الأول: فحبس لغتهم في لغته سجنًا مؤبدًا، وأما الثاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل محوًا ونسيانًا، وأما الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرهم من بعدها لأمره تَبَع"[2].
ويقول ريتشارد كريتفيل:
"إنه لا يعقل أن تحل اللغة الفرنسية أو الإنجليزية، محل اللغة العربية، وإن شعبًا له آداب غنية منوعة، كالآداب العربية، ولغة مرنة، ذات مادة لا تكاد تفنى - لا يخون ماضيه، ولا ينبذ إرثًا ورثه بعد قرون طويلة عن آبائه وأجداده"[3]، وقال الفرنسي جاك بيرك: "إن أقوى القُوى التي قاومت الاستعمار الفرنسي في المغرب هي اللغة العربية، بل اللغة العربية الكلاسيكية الفصحى بالذات، فهي التي حالت دون ذوبان المغرب في فرنسا، إن الكلاسيكية العربية هي التي بلورت الأصالة الجزائرية، وقد كانت هذه الكلاسيكية العربية عاملاً قويًّا في بقاء الشعوب العربية"[4].
وبعد الهجمة المغولية، والحروب الصليبية، وحملات الاستعمار الغربية، فما زالت لغتنا العربية باقية شامخة!
المصدر
-----------------
[1] العالم، جلال، قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام، أبيدوا أهله (ص 50).
[2] الرافعي، مصطفى صادق، وحي القلم (ج2، ص23)، دار المعارف، ط2، 1982م.
[3] ينظر: العلمي، إدريس بن الحسن، "اللغة العربية وآراء المفكرين الغربيين"، (مرجع سابق).
[4] ينظر: الجندي، أنور، الفصحى لغة القرآن (ص304).