فن الكتابة العربية (3/5)
مصطفى بن أحمد بن إسماعيل
المبحث الثالث
مشكلة درس الإملاء وواقعه الحالي
توطئة:
عملتُ في التربية والتعليم معلِّمًا فترةً لا تتجاوز الأعوام الثلاثة، فُوجئت وفجعت أيَّما فجعة من مستقبل اللُّغة العربية على يدِ أبنائها المستعجمين، كنت أظنُّ أنَّ النحو والعلوم اللغوية التي تَعَبَّأنا بها في دُور العِلم بالجامعة العريقة ستسعفني في تدريس المناهِج الدِّراسيَّة، بَيْد أنها كانتْ سببَ إعاقتي! إنَّها إعاقة أداء وليستْ إعاقة فِكر!
ووجدت واقعًا (لا يسرُّ الناظرين).
لقد عملتُ في هذه الفترة في ثلاثِ مدارسَ مختلفة - مختلفة المجتمع، ومختلفة الكثافة - ووجدت أنَّ هذين العاملين مِن أهمِّ ما يؤثِّر على عملية التعلُّم، إنهما عامِلاَ (البيئة والكثافة)، ففي حين كنتُ أدرس بمدرسة معقولة الكثافة العدديَّة داخلَ الفصل الواحد إذَا بالبيئة تؤثِّر على التعلم والأداء، وبينما أعلم في مدرسة بِيئتها معقولة إلى حدٍّ بعيد، فُوجئت بأنَّ الكثافة العددية تؤثِّر على الأداء التعليمي.
ولكن عندما كنتُ معلِّمًا في المدرسة التجريبيَّة وجدتُ كثافةً وبيئةً مناسبتين للقيام بمهمَّتي على الوجه المرجوِّ.
شعرتُ بالفشل حينًا وبالضعف العِلمي حينًا آخر عندما عجزتُ عن القيام بمهامي في المدرستين الأوليين، ووجدتُ نفسي معلمًا مؤديًا لعلومي اللغوية نطقًا وكتابةً في الثالثة، هذه التجرِبة التي مررتُ بها جعلتني أحزن حزنَ مالك عندما رأيتُ الواقع الذي لا نرجوه مُحَقَّقًا في أمَّة ترجو النهوض لأبنائها، وندمتُ ندمَ الكُسَعي عندما سلكتُ مسلكَ التعليم كمهنة شريفة أُؤَدِّي بها ما تعلمته من جانب، وأقتات بها من جانب آخر، وليتَ من الجانبين جانبًا أنصفني!!
وجدتُ في هذه الفترة تلاميذَ أذكياء لا تسعفهم بيئتهم، ووجدتُ تلاميذ أذكياء لا يستطيع المعلِّم انتشالهم من هوَّة الزحام داخلَ الحُجرة الدراسية، (حيث نرى في فصولنا اليوم السبعين والثمانين تلميذًا)، فأَنَّى لهم أن يتعلَّموا؟!
هذا الواقع البئيس الذي نجده في مدارسنا لا يساوي شيئًا إطلاقًا أمامَ واقع المعلِّم المصري الذي رأيت.
شاهدتُ مَن هم أقدم مني عهدًا بالتعليم للمرحلة الابتدائية - وهي من أهمِّ مراحل التأسيس اللُّغوي - لا يستطيعون نُطقَ اللفظ العربي نطقًا صحيحًا مِن مخرجه السليم، فأنَّى لهم إخراجُ جيل يعرِف لغته ويُقدِّر همَّها؟! رأيتُهم لا يألون جهدًا في تعليم التلاميذ، ولكنَّهم يُعلِّمونهم اللا لُغة أو لغةً غير لغتنا التي تعلمْناها نطقا على أيدي مشايخنا قبلَ أن نتعلمها نصوصًا وقواعدَ على أيدي أساتذتنا في الجامعة، إنه حال لا يسرُّ الناظرين!
أتساءَل: كيف يمكن لنا أن نُعَلِّمَ جيلاً ونحن جيل لم يُتقِن عِلمه؟! كيف لنا أن نُخرِج جيلاً منهم أئمة في العِلم، ونحن نُكَدِّسُهم أكوامًا في حجرة واحدة؟! كيف لنا أن نعدَّ جيلاً للتقدُّم وبيئاتهم لا تعرِف معنى التقدُّم؟!
" هيهات هيهات لما توعدون، حقا إنها أضحت لُغة بلا أمَّة[1]!
واقع فن الكتابة العربية
في منهج الصف الخامس الابتدائي
أولاً: من حيث الأهداف:
وضَع واضِعو المنهج للصف الخامس معاييرَ ستَّة للكتابة، وهي:
1. كتابة الحروف والكلمات والجُمل العربية كتابةً صحيحةً واضحة.
2. كتابة الكلمات والجُمل كتابةً صحيحةً إملائية.
3. اختيار الأفكار وترتيبها بصورةٍ صحيحة.
4. استخدام القواعد اللُّغوية وتوظيفها في الكتابة.
5. تنظيم وتنسيق الكتابة.
6. الكتابة في موضوعات إبداعيَّة ووظيفيَّة تعبيرًا عن النفس والمجتمع.
هذه المعايير ينبغي أن يُحقِّقها الطالب بعدَ دراسته لهذا المنهج، وينبغي أن يتحقَّق ذلك في نهاية العام الدراسي.
فالسؤال الآن: هل استطاع التلاميذُ - ونحن على مشارفِ الانتهاء من الفصل الدراسي الثاني - أن يُحقِّقوا - أو تُحَقَّق لهم - هذه المعايير؟
الإجابة عن هذا التساؤل سأؤخِّرها إلى أمدٍ قريب، بعد أن أرصد واقعَ أمور أربعة:
(المنهج - المعلم - البيئة - التلميذ)
فهذه الأمور هي عمادُ هذه المعايير، إذا كانتْ ناجحةً تحقَّقت المعايير، وإلا فلا.
أولاً: واقع المنهج العلمي المقرَّر على تلاميذ الصف الخامس الابتدائي:
بعد إعادة تغيير المنهج لهذا الصفِّ أمَّل المعلِّمون أن يَخْرُجَ لهم منهجٌ يفي بأغراض التلاميذ المعرفية، بَيْد أنه خرج كسابقه، اللهمَّ إلا في بعض التنسيقات، مراعيًا طرق التعليم (وإستراتيجيات) التعلُّم الجديدة، هذا الأمر هام إلى حدٍّ بعيد، ولكن الأهم منه هو وضْع الدروس والموضوعات التي تفِي بالمعايير الموضوعة لهذه المرحلة.
كل الدروس الموضوعة في المنهج الجديد تدور حولَ أمرين لا ثالثَ لهما:
الأول: المعلومات المعرفيَّة في موضوعات القِراءة، وهذا لا يُقلِّل من شأنها.
الثاني: القواعد النحويَّة، وهي في ثوبها الجديد في ظلِّ طرائق التدريس الجديدة.
وهذان أمران لا يعقل وجود منهج لُغوي بغيرهما.
أما الجانب الخاص بتعليم قواعدِ الكتابة والخطِّ والإملاء، فليس له وجودٌ يُذكَر في المقرَّر الذي يحمله الطالب على عاتقه ذهابًا وإيابًا مِن وإلى المدرسة كلَّ يوم، اللهم إلا في خُطَّة العمل الخاصَّة بالمدرِّس.
وهذا أمر جِدُّ خطير؛ إذ إنَّ فنًّا من فنون اللغة ليس له حظٌّ في منهج للغة، أمر يُثير السخرية!
ليس عن جهْل مني أنَّ فنون اللغة متَّصلة العلاقة بقوَّة؛ لذا جعلوا تعليم الكتابة والإملاء من واقِع الدروس والموضوعات المقرَّرة، ولكن ينبغي أن يجعلوا - كما جعلوا للقواعد النحوية - للكتابة مساحةً خلف كلِّ موضوع يوضِّحون فيها للتلاميذ قواعدَها وأصولها.
وللهِ الأمرُ من قبلُ ومِن بعدُ.
إنَّ قيمة أيِّ نظام تعليمي تحدِّدها النتائج العملية التي يَنتهي هذا النظام إليها في خاتمة مطافه ونهاية مراحله، ومِن البديهيات المعلومة أنَّ نظام التعليم اللغوي لا هدفَ له إلا أن يُخرِج الطلاب عارفين باللُّغة التي يتعلَّمونها معرفةً طيبة شاملةً، أو شبه شاملة، فإذا لم يحقِّق النظامُ التعليمي هذه الغايةَ، فهو نظام فاشل، أو ينبغي أن يُراجَع فيقوَّم بالتصحيح أو التغيير.
إنَّ الأهداف المحدَّدة والغايات المرسومة لهذا النِّظام تجعل منه نظامًا مثاليًّا فريدًا لتعليم اللغة، ولكن يبدو أنَّ واضعي المنهج ومحدِّدي أصوله، قد اقتصروا على الغايات النظريَّة فقط، ولم يعبأ بالوسائل العمليَّة التي تحقِّق هذه الأهداف.
تبيَّن لنا مما سبق أنَّ مناهج اللغة العربية تسعى - نظريًّا - إلى غايات كبيرة وأهداف جميلة حقًّا، ولكن هذا وحْده لا يكفي؛ أي: إنَّ النظَر إلى الأهداف أو الغايات دون عمل على تهيئةِ الأسباب الموصلة إلى الهدَف - مثل هذا يكون حرثًا في بحر، لا يُنبت زرعًا، ولا يؤتي ثمارًا.