نظرية المحاكاة الصوتية ومناسبة اللفظ للمعنى
من كتاب بحوث ومقالات في اللغة للدكتور رمضان عبد التواب
يحاول بعض العلماء أن يفسر لنا نشأة اللغة الإنسانية، بما يسمى بنظرية "المحاكاة الصوتية" Onomatopoeia، وقد عرض لهذا الرأي من علماء المسلمين، العلامة ابن جني في كتابه "الخصائص" فقال: "وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغة كلها، إنما هو الأصوات المسموعات، كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيح الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس ... ونحو ذلك. ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد".
وقد ارتضى "ابن جني" هذا الرأي، فقال معقبًا عليه: "وهذا عندي وجه صالح، ومذهب متقبل".
ومما قد يؤيد هذه النظرية، ما قد نجده في بعض الأحيان، من اشتراك بعض الأصوات في الكلمات التي تحاكي الطبيعة في عدة لغات، فإن الكلمة التي تدل على الهمس، هي في العربية كما نعرف: "همس"، وفي الإنجليزية: whisper وفي الألمانية Flustern وفي العبرية Safsaf صفصف، وفي الحبشية: Fasaya فاصي، وفي التركية Susmak، فالعامل المشترك بين هذه اللغات جميعها في تلك الكلمة، هو: صوت الصفير السين أو الصاد، وهو الصوت المميز لعملية الهمس في الطبيعة.
غير أن اشتراك اللغات في الكلمات المحاكية للطبيعة، على هذا النحو، أمر نادر. ولو كانت هذه النظرية صحيحة، للاحظنا اشتراكا بين اللغات في الكلمات التي تحاكي الطبيعة، مثل: الشق، والدق، والقطع، والصهيل، والعواء، والمواء، وما إلى ذلك. ولقد سمعت الديك العربي في بلاد العرب، والديك الألماني في بلاد الألمان، يصيحان بطريقة واحدة دون أدنى فرق، غير أننا نحاكي صوت الديك فنقول: كوكوكو! ويقول الألمان: kikeriki كيكيركي!
ويرى بعض العلماء، بناء على هذه النظرية، أن مناسبة اللفظ للمعنى، مناسبة حتمية، بمعنى أن اللفظ يدل على معناه دلالة وجوب، لا انفكاك فيها. وممن نادى بهذا الرأي "عباد بن سليمان الصيمري من المعتزلة، فقد ذهب إلى أن بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية، حاملة للواضع على أن يضع هذه اللفظة أو تلك، بإزاء هذا المعنى أو ذاك. ويروون عن بعض من تابعه على رأيه هذا، أنه كان يقول: إنه يعرف مناسبة الألفاظ لمعانيها، فسئل عن معنى كلمة: "إذغاغ"، وهي بالفارسية: الحجر، كما يقولون. فقال: أجد فيه يبسا شديدا، وأراه الحجر!
وإننا نشك كثيرا في صحة هذه الراوية، وصدق نظرية الصيمري، فإنه لو صح ما قاله، لاهتدى كل إنسان إلى كل لغة على وجه الأرض. نعم، قد يحدس الإنسان معنى كلمة من الكلمات في لغة من اللغات، بخبراته في هذه اللغة، فإن مجرد النطق باللفظ، يستدعي إلى الذهن أمثاله من الألفاظ، ويستدعي معها دلالاتها، ويستوحي المرء من كل هذا دلالة لذلك اللفظ المجهول، على أساس ما اختزنه في حافظته، وقد يوفق في هذا الاستيحاء، غير أنه كثيرا ما يخيب، وهنا يؤدي اختلاف الخبرات السابقة إلى اختلاف الحدسات الناتجة.
وخذ مثلا كلمة: "عتيد" فإنك إذا ذكرتها أمام من لا يعرف معناها الأصلي، وهو: "حاضر، معد، مهيأ"، فهو لا شك سيقيسها على كلمة: "عنيد" إن كانت من حصيلته اللغوية، فيعطيها نفس معناها، وهو: "جبار" أو "قوي مثلا"، أو يقيسها على كلمة: "عتيق" إن برزت له وقتئذ من بين خبراته اللغوية السابقة، فيعطيها نفس معناها، وهو: "قديم" أو "موغل في القدم".
ومن أنصار المناسبة بين اللفظ والمعني، من علماء العربية، العلامة اللغوي أبو الفتح عثمان بن جني، الذي عقد في كتابه "الخصائص" بابا طويلا، جعل عنوانه: "باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني"، ذكر فيه ألفاظا كثيرة من اللغة العربية، تؤكد كلها نظريته في مناسبة الصوت للمعنى الدال عليه.
وأغلب الظن أن بذرة هذه الفكرة، قد وجدت عند قدامى النحويين واللغويين، قبل ابن جني؛ لأنه يرجع في هذا الباب إلى بعض آراء الخليل وسيبويه، فهو يروي عن الخليل أن العرب قالوا في الدلالة على صوت الجندب: "صَرَّ"؛ لأن في صوته امتدادا واستطالة، أما البازي فدلت العرب على صوته بالفعل: "صرصر"؛ لأن فيه تقطيعا وعدم استمرار. كما يذكر عن سيبويه تفسيره لوجود الحركات الكثيرة، في المصادر التي جاءت على وزن: "فعلان" بمناسبتها لدلالة هذا النوع من المصادر، على الاضطراب والحركة، مثل: الغليان" و"الهيجان" و"الطيران" و"الفوران"، وما أشبه ذلك.
وأخذ ابن جني بعد ذلك، يذكر نظائر لهذا الذي أتى به الخليل وسيبويه، من مناسبة الصوت للمعنى، فعنده أن المصادر الرباعية المضعفة، إنما تأتي لتكرير الفعل، كالزعزعة، والقلقلة، والجرجرة، والصلصلة، وما إلى ذلك، فإن تكرير المقاطع هنا مناسب لتكرير الفعل، وحدوثه مرات متعددة.
أما توالي الحركات في المصادر والصفات، التي تأتي على وزن: "فعلى" مثل: "الجمزَى" لحمار الوحش، و"البشكَى"، و"الحيدَى" من صفات المشي السريع، فإن ابن جني يرى أن هذه الحركات المتوالية في هذا الوزن من أوزان الكلمات العربية، إنما تناسب سرعة الحركة في الحمار الوحشي وصفات المشي المذكورة.
كما يرى ابن جني أن تكرير عين الفعل، وهي وسطه، وقلبه، ومركزه، وأهم جزء فيه، يدل على تكرير الفعل والشدة فيه، مثل: "كسَّر" و"قطَّع" و"فتَّح" و"غلَّق" وغير ذلك.
وهذا الذي ذكره ابن جني، يصح في بعض نصوص اللغة، دون غيرها، فلو أننا نظرنا مثلا إلى الآية القرآنية التي تقول: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَك} ، لأحسسنا بصوت المزاليج وهي تحكم رتاج الأبواب، وينعدم هذا الإحساس مع الفعل: "أغلق"، الذي يدل على مجرد الإغلاق.
غير أن هذا -كما قلنا- لا يطرد في كل نصوص اللغة. ولو راجعنا المعاجم العربية، لعرفنا أن هناك كلمات كثيرة، يستوي في معناها الصيغ المشددة وغيرها، والمجرد منها وغير المجرد، فمن ذلك مثلا: "بدأ يبدأ" و"أبدأ يُبدئ". والقرآن الكريم خير شاهد على أن معناهما واحد، يقول الله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْق} . ومثله كذلك. برقت السماء وأبرقت، وجنه الليل وأجنه، إذا أظلم عليه وستره، وحَدَّت المرأة على زوجها وأحدَّت بمعنى: تركت الزينة، وخسرت الميزان وأخسرته، أي: نقصته. وغير ذلك كثير.
وقد نزع كثير من نقاد الأدب العربي القديم، منزع بعض اللغويين، في محاولة عقد الصلة بين اللفظ ومعناه، فهذا هو "ابن الأثير"، يكمل ما بدأه "ابن جني" وأسلافه من علماء اللغة، حول مناسبة الألفاظ للمعاني، فيقول: "اعلم أن اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان، ثم نقل إلى وزن آخر أكثر منه، فلا بد من أن يتضمن من المعنى أكثر مما تضمنه أولا".
ومن هنا نشأت الفكرة التي تقول إن "زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى".
وقد ضرب "ابن الأثير" من الأمثلة على ذلك قولهم مثلا: "خَشُن" و"اخشوشن"، فمعنى: خشن، دون معنى: اخشوشن، لما فيه من تكرير العين وزيادة الواو.
كما يرى "ابن الأثير" أن "اقتدر" أقوى في الدلالة على القدرة من: "قدر" المجردة، وأن الإنسان يحس في قوله تعالى مثلا: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} بالدلالة على تفخيم الأمر، وشدة الأخذ، الذي لا يصدر إلا عن قوة الغضب.
وإذا صدق هذا على بعض الأمثلة في اللغة، فإنه لا يصح أن يغيب عن بالنا، أنه ليس ثمة بين الاصطلاح اللغوي، والشيء الذي وضع له هذا الاصطلاح أية علاقة طبيعية، وإنما هي علاقة تقاليد، كما يقول: "أنطوان مييه". وهذا معناه عدم الارتباط الطبيعي بين الاسم والمسمى، فالضمائر: أنا وأنت وهو مثلا، ليس فيها شيء يدل بذاته على أحد الأشخاص، وإنما يستعمل لأنه في جماعة بشرية معينة، جرت التقاليد بأن تستعمل تلك الصيغ، ومن ثم نرى أكثر علماء اللغة دربة، عاجزا كغيره من الناس، أمام خطبة أو نص مكتوب في لغة مجهولة جهلا تاما.
ولذلك يجب ألا ننساق وراء الفكرة التي تقول بأن "زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى"، ونعممها على كل مثال وجدت فيه هذه الظاهرة، فقد تكون هناك مثلا كلمتان تدلان على معنى معين، غير أن إحداهما مقتطعة في الأصل من الأخرى، وليست الثانية مزيدة منها، كما توهم علماء البصرة ذلك في "السين" و"سوف"، فقالوا إن "سوف" تدل على الاستقبال البعيد، و"السين" تدل على الاستقبال القريب. وليس في نصوص اللغة ما يشهد لتكلفهم هذا، فقوله تعالى مثلا: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} ليس معناه تحقق هذه الكفاية في الغد، كما أن قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ
رَبُّكَ فَتَرْضَى} ليس معناه تأخر الإعطاء عاما أو عامين، بل إن الحقيقة أن "سوف" أقدم من "السين" وأن "السين" جزء مقتطع منها، فمن الحقائق المقررة عند المحدثين من علماء اللغة أن كثرة الاستعمال تبلي الألفاظ، وتجعلها عرضة لقص أطرافها، تماما كما تبلى العملات المعدنية والورقية، التي تتبادلها أيدي البشر. وهذا هو ما حدث لسوف، التي توجد في صورتها القديمة في الآرامية، وقد روى لنا اللغويون العرب صورا عدة من صور البلي اللفظي في هذه الكلمة، فقد ذكروا أن العرب يقولون: "سَوْ يكون، وسَفْ يكون، وسَايكون، وسَيَكون". وعندما جاء القرآن الكريم، سجل لنا إحدى صور التطور في "سوف"، مع الأصل الذي كان لا يزال يعيش معه جنبا إلى جنب، وروى لنا اللغويون العرب، صور التطور الأخرى، التي لم يكتب لها ما كتب لغيرها من الخلود، حين تبنتها الفصحى، ولغة القرآن الكريم.