فصل فيما يحتاج مؤلف الكلام إلى معرفته
من كتاب سر الفصاحة لابن سنان الخفاجي
الذي يحتاج مؤلف الكلام إليه من معرفة اللغة التي هي لغة العرب قدر ما يعرف كل شيء باسمه الذي وضعته له. ويجب أن يكون ذلك الاسم أفصح أسمائه إن كانت له عدة أسماء؛ وقد بينا الطريق إلى معرفة الفصيح فيما مضى من كتابنا هذا فإذا عرف ما ذكرته من اللغة احتاج إلى معرفة ما يتصرف ذلك الاسم عليه من جمع وتثنية وتذكير وتأنيث وتصغير وترخيم ليورده على جميع ما يتصرف فيه صحيحا غير فاسد، ولهذا افتقر إلى علم النحو وسأذكر قدر ما يحتاج منه فإذا علم ما أشرت إليه افتقر إلى معرفة عدة أسماء لما يقع استعماله في النظم والنثر كثيراً ليجد إذا ضاق به موضع أو حظر عليه وزن إيراد اسم العدول إلى غيره.
ويحتاج في علم النحو إلى معرفة إعراب ما يقع له في التأليف حتى لا يذكر لفظة إلا موضوعة حيث وضعتها العرب من إعراب أو بناء على حسب ما وردت عنهم، وليس لأحد أن يظن أن هذا هو معرفة النحو كله والإشتمال على جميع علمه لأن الكثير من النحو علم تقدير مسائل لا تقع اتفاقا في النظم ولا في النثر، وكذلك التصرف من علم النحو لا يكاد مؤلف الكلام يحتاج إلا إلى الشيء اليسير منه، فأما أن يكثر منه حتى يسوغ له أن يبنى من الدال في قد مثل عصفور وغير ذلك من مسائل قد وضعت في هذا الجبس فما لا أرى النحوى يفتقر إلى معرفته فضلا عن غيره.
ويحتاج الشاعر خاصة إلى معرفة الخمسة عشر بحرا التي ذكرها الخليل بن أحمد وما يجوز فيها من الزحاف ولست أوجب عليه المعرفة بها ولينظم بعلمه فإن النظم مبنى على الذوق ولو نظم بتقطيع الأفاعيل جاء شعره متكلفاً غير مرضى، وإنما أريد له معرفة ما ذكرته من العروض، لأن الذوق ينبو عن بعض الزحافات وهو جائز في العروض وقد ورد للعرب مثله فلولا علم العروض لم يفرق بين ما يجوز من ذلك وبين ما لا يجوز.
ويفتقر أيضاً من العلم بالقوافي إلى معرفة الحروف والحركات التي يلزم اعادتها وما يصلح أن يكون روياً أو ردفاً مما لا يصح.
ويحتاج أيضاً إلى معرفة المشهور من أخبار العرب وأحاديثها وأنسابها وأمثالها ومنازلها وسيرها، وصفة الحروب التي كانت لها وما له قصة مشهورة وحديث مأثور؛ فإنه قد يفتقر في النظم إلى ذكر شيء منه، ويكون للمعنى به تعلق شديد وإذا ورد استحسن.
ويحتاج الكاتب إلى جميع هذا أيضاً ويختص بما يفتقر إليه من معرفة المخاطبات وفنون المكاتبات والتوقيعات، ورسوم التقليدات مع الاطلاع على كتاب الله تعالى وشريعته وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، فإنه مدفوع إلى تقليد الولاة وعهود القضاة والتوقيعات في المظالم والمكاتبة في ضروب الحوادث.
وبالجملة أن مؤلف الكلام لو عرف حقيقة كل علم واطلع على كل صناعة، لأثر ذلك في تأليفه ومعانيه وألفاظه، لإنه يدفع إلى أشياء يصفها فإذا خبر كل شيء وتحققه كان وصفه له أسهل ونعته أمكن، إلا أن المقصود في هذا الموضع بيان ما لا يسعه جهله دون ما إذا علمه أثر عنده علمه، فإن ذلك لا يقف على غاية. والوصية لهما لهما ترك التكلف والاسترسال مع الطبع وفرط التحرز وسوء الظن بالنفس ومشاورة أهل المعرفة، وبغض الإكثار والإطالة وتجنب الإسهاب في فن واحد من فنون الصناعة، فإن كلام الإنسان ترجمان عقله ومعيار فهمه وعنوان حسه والدليل على كل أمر لولاه لخفي منه وبحسب ذلك يحتاج إلى فضل التثقيف واجتماع اللب عند النظم والتأليف.
وإذ قد انتهى بنا القول إلى هذا الموضع فالواجب أن نختم الكتاب لأنا قد وفينا بجميع ما شرطناه في أوله وقد كنا عزمنا على أن نصله بقطعة مختارة من النظم والنثر يتدرب بالوقوف عليها في فهم ما ذكرناه من أحكام البلاغة، وكشفناه من أسرار الفصاحة، لكنا فرقنا من الإطالة والتثقيل على الناظر فيه بالملل والسآمة فعد لنا إلى وضع ذلك في كتاب مفرد. ونحن تستغفر الله من خطل القول كما تستغفر من خطأ العمل، ونسأله أن يمن علينا بالهداية والعصمة والسلامة في الدنيا والآخرة أنه سميع مجيب.