الردُّ على الحيثية الثالثة: أن مناهج تعليم العربية لم يتم تطويرها، وما هي إلا استنساخ.
أما هذا فلا نماري فيه، فإن مناهج تدريس العربية للناطقين بها ولغير الناطقين بها تحمل ما تحمل ويعلمه الجميع من مواطن الضَّعف وأسباب تنفير المتعلمين والمعلمين على حدٍّ سواء،,ولكن...!!!!!
هل ذلك بسببٍ من العربية نفسها وهل هو نابعٌ من إشكالية في جدار تكوينها وبنيان خصائصها؟!
هل ذلك ناشئ عن صفة ذاتية في العربية وبالتالي انطبعت مناهجها بتلك الصفات المنفِّرة التي تؤدي إلى تراجع مستويات الطلاب التعليمية، وكفاءتهم الفكرية، ومقدرتهم الثقافية؟!
إن تلك السِّهام الحادة كان ينبغي للأستاذة أن تصوِّبها شطر الغرض الصحيح والمرمى السديد، فما الجُرمُ الذي اقترفته اللغة العربية حتى تنال كلَّ هذا الظُّلم والإجحاف؟! وما هي الجَرِيرَةُ التي جرَّتها العربية على مناهجها حتى تُطعن في كل خاصِرَةٍ بكل هذه القسوة؟!
لا ينبغي أبدًا أن نعلق عيوب المناهج الدراسية والخُطط التعليمية على عاتق العربية كلما عزَّ علينا معرفة بيت الدَّاء رميناها به، من باب (رَمَتْنِي بِدَائِهَا وانْسَلَّتْ)...فإن العربية تحمل في ذاتيتها سبيل الإبداع والابتكار والخيال إذا رام المُمَنْهِجون أن ينهجوا بأبنائهم سبيل ذلك، وأرادوا أن يسلكوا بهم دربه.
لا نُجادل في أن مناهج العربية تحتاج إلى نهضة حقيقية، وتكاتف حقيقي، وتكامل شامل بين مؤسسات النهوض بالعربية الحكومية والخاصة لتقديم رؤًى علمية واقعية نابعة من مصادر العربية الأصيلة التي كانت سببًا لنهضة أسلافنا.
يقول العلامة ابن خلدون عن المناهج الدراسية التي كانت سائدة في الأندلس:
(وأما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتابة، وجعلوه أصلًا في التعليم، فلا يقتصرون لذلك عليه فقط، بل يخلطون في تعليمهم الولدان رواية الشعر، والترسل، وأخذهم بقوانين العربية وحفظها، وتجربة الخط والكتابة... إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة وقد شد بعض الشيء في العربية والشعر وأبصر بهما، وبرز في الخط والكتاب، وتعلق بأذيال العلم على الجملة"
ويقول الأستاذ الطاهر أحمد مكي في تفصيل رائع عن منهجية التعليم في الأندلس زمن النهضة:
"ويتلقى الأطفال العلم منذ صغرهم؛ إذ كان ميسورًا، يؤتى لهم بالمدرس إلى البيت، وإلا أرسل بهم إلى الكتاب الأقرب إلى مسكنه، وتخضع هذه المدارس الابتدائية نظريًّا لإشراف "المحتسب"، ويجمع المعلم أو المؤدب عددًا محدودًا من الأطفال في مكان صغير مفتوح على الشارع، يطلق عليه اسم "المصرية"، يدرس لهم بأجر برنامجًا معروفًا غير مكتوب، تحدده التقاليد، وبعقد محترم منه ومن ولي الطفل، وفي هذه المرحلة يحفظ الطفل جانبًا من القرآن الكريم، ويحفظ قصائد من الشعر، ومقتطفات من النثر، ويدرس شيئًا من النحو وقليلًا من الحساب، والكتابة والقراءة على الطريقة "الجملية"، ويبدو أنها لم تكن مقبولة من الكافة، ويدفع الأجر للمعلم في كتابه، أو جاء إلى البيت، طبقًا للعقد، ويكون سنويًّا، ويتضمن المادة أو المواد المطلوب تعليمها، وشكل التعليم، والزمن المخصص لها، وشروط دفع النفقات من مال يدفع آخر العام، أو مواد غذائية من دقيق وزيت تدفع شهريًّا، ومن العادات المتأصلة أن تقدم الهدايا للمعلم في عيدي الأضحى والفطر، وأخرى أجل وأكبر حين يختم الطفل القرآن.
ويتردد على بيوت القادرين، غالبًا، أكثر من معلم لتربية أطفالهم، وأحيانًا يقع الاتفاق على إكمال العمل، يقوم المعلم بتعليم الصبي، مقابل أجر معلوم، مادة معينة، أو مواد متعددة، وفي هذه الحالة يلزم ولي الأمر أن يقدم تقريرًا وافيًا عن عقلية الصبي وقدراته الذهنية.
ورغم أن التعليم أهلي، كانت المدارس المجانية كثيرة، ينفق عليها من ريع الحوانيت والعقارات والأراضي التي أوقفها الحكم الثاني، وآخرون غيره، وأسهم الشعب بدوره، يجمع الهبات، ويدعم المدارس، بعيدًا عن رقابة الدولة وتدخلها في النظم أو المناهج، ما دامت لا تستهدف نشر أفكار ضارة بأمن المجتمع وهدوئه، وقد تحقق في قرطبة المثل الأعلى الذي نطمح إليه: أن يكون التعليم الابتدائي مجانًا وإجباريًّا؛ مجانًا: لأن العاجزين لم يكونوا يحرمون منه لعجزهم، وإجباريًّا: بضغط من المجتمع نفسه، دون حاجة إلى أمر يصدر أو قانون يشرع؛ لأن التجار أصحاب الحرف والمصانع يرفضون أن يقبلوا في حوانيتهم عمالًا لا يعرفون القراءة والكتابة، حتى ولو كنت مهنهم لا تحتاج إليها، فإذا بلغ الطفل سن الحلم انتقل إلى مصنع أو متجر ليعمل، أو يواصل تعليمه إذا سمحت له ظروفه بذلك، وفيها يحضر الطالب المواد التي تعجبه، على الأستاذ الذي يطمئن إليه، ويقرأ في الكتاب الذي يراه نافعًا ومفيدًا، ويتعمق في درسه بالقدر الذي يسمح له به ذكاؤه ورغبته وإمكاناته، ومن الصعوبة تحديد متى يبدأ التعليم في المرحلة الأعلى ومتى ينتهي، وليس من الممكن كذلك تحديد المادة، أو المواد، التي يبدأ طلاب التعليم بدراستها: القرآن، أو الرياضيات، أو الطب، أو اللغة، أو الأدب؛ فقد كان الطلاب أحيانًا يجمعون بين أكثر من مادة في الوقت نفسه، ولكن يمكن القول: إن الطلاب كانوا يبدؤون دراسة النحو والتعمق فيه؛ ليعينهم على فهم بقية المواد الأخرى، وتليه دراسة المواد الدينية؛ من فقه وحديت وتفسير وأصول.
وكان هناك الطلاب المنتسبون، وهم الذين لا تمكنهم ظروفهم من حضور الدرس، فيعتمدون على الكتاب، وإذا وثقوا من أنفسهم تقدموا للأستاذ ليجيزهم، ويعتمد الطلاب على ذواكرهم كثيرًا، وكان فيهم من يحفظ آلاف القصائد من الشعر، ومن يحفظ كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني كاملًا، وفيه تتعدد الروايات وتتشابه ولا رابط بينها، ويتنوع محتواه من شعر ونثر وحكايات، ومن يحفظ القرآن لا يغيب عن ذاكرته حرف واحد منه، ومن يحفظ موطأ مالك، أو مدونة سحنون، أو ديوان المتنبي، أو كتاب الكامل للمبرد، نعم، وكان في الأندلس من يحفظ هذا دون حاجة إلى أن يكون عالمًا أو متخصصًا، ويقص علينا ابن بشكوال أنه كان في سوق قرطبة باعة عنب وتين يستطيع الواحد منهم أن يقرأ من الذاكرة أمامك كتاب "معاني القرآن" لأبي جعفر النحاس، أما أولئكم الذين لا تواتيهم ذواكرهم فيشعرون بخيبة أمل مريرة، ويحاولون ما استطاعوا أن يزيدوها حدة بالأدوية، وأشهر هذه شراب "البلاذر"، ويتخذ من ثمار شجرة هندية، يصفه الأطباء، ويتناوله القادرون، ليجعل ذواكرهم أشد حدة، وأصفى صفحة، وفيما بعد أسرفوا في الحفظ، وأقلوا من التفكير، وكان ذلك، فيما لحظ ابن خلدون، وراء تدهور الثقافة والعلم في أخريات أيام الأندلس؛ لأن المعرفة لا تتقدم بالحفاظ عليها، وإنما بتعهدها إنماءً وتجديدًا، وكان العمل بالتعليم العالي مناط تقدير المجتمع واحترامه، ويرفع العاملين فيه إلى مستوى كبار القوم، ممن جاءهم الجاه وراثة، وأساتذته في مستوى بقية الوظائف الكبرى عسكرية أو مدنية؛ كالولاة، والقضاة والقادة، ولكنها مهنة تميزت بأنها مفتوحة الأبواب أمام كل ذكي، وكان يعمل فيها من ينتسبون إلى طبقة الخاصة حبًّا في العلم، وطلبًا للمزيد من الجاه، والقادمون من تحت يجدون فيها الأمن والحماية والطريق إلى الشهرة، وعادة تلتقط الدولة خيرة الأساتذة وترشحهم للمناصب العالية، جلبًا لرضا العامة، وكسبًا لثقـتها، فلم تكن هناك أحزاب ولا صحافة ولا مجامع علمية ولا برلمان يلمع فيها الناس، وتظهر الكفاءات".
ويقول مكي أيضًا في معرض حديثه عن اللغة الرسمية للدولة الأندلسية زمن النهضة وكيف كانت لغة هوية وقومية وحضارة:
"وكانت اللغة العربية الفصحى اللغة القومية، ولأنها لغة ثقافة ووعاء حضارة لم توجد على بطحاء شبه الجزيرة الأيبيرية لغة أخرى تدخل معها في صراع، أو تقاوم زحفها، ولأنها لغة القرآن فرضت نفسها لغة للإدارة أيضًا، وأصبحت لغة الحديث في اجتماعات الأصدقاء المثقفين، وفي "الصالونات الأدبية"، وتحرير الرسائل والوثائق الرسمية، وفي الإبداع الأدبي شعرًا ونثرًا، ولغة التعليم بنوعيه، المبتدئ والعالي على السواء، وفي العلاقات الدولية، ومع المشرق بخاصة، أفرادًا أو على مستوى الدول، وكان التمكن منها شرطًا لتولي أي من المناصب العامة، والتفوق فيها الطريق الوحيد إلى النبل المكتسب والوظائف العليا، ومن ثم كان على الأندلسيين من غير المسلمين، يهودًا أو مستعربين، أن ينبغوا فيها إذا أرادوا أن يجدوا لهم مكانًا مرموقًا تحت شمس الخلافة، ونعرف من بينهم أدباء وشعراء كانوا يكتبون فيها شعرًا جميلًا ونثرًا راقيًا، ويعبر عن هذا الواقع زفرة أرسلها ألفارو مطران قرطبة، عام 854 م؛ أي: قبل الفترة التي نعرض لها بنحو قرن كامل، ولما يمضِ على الفتح الإسلامي غير مائة وأربعين عامًا، يقول: "من الذي يعكف اليوم بين أتباعنا من المؤمنين على دراسة الكتب المقدسة، أو يرجع إلى كتاب أي عالم من علمائها، ممن كتبوا في اللغة اللاتينية؟ من منهم يدرس الإنجيل أو الأنبياء أو الرسل؟ إننا لا نرى غير شبان مسيحيين هاموا حبًّا للغة العربية، يبحثون عن كتبها ويقتنونها، يدرسونها في شغف، ويعلقون عليها، ويتحدثون بها في طلاقة، ويكتبون بها في جمال وبلاغة، ويقولون فيها الشعر في رقة وأناقة، يا للحزن! مسيحيون يجهلون كتابهم وقانونهم ولاتينيَّتهم، وينسَون لغتهم نفسها، ولا يكاد الواحد منهم يستطيع أن يكتب رسالة معقولة لأخيه مسلِّمًا عليه، وتستطيع أن تجد جميعًا لا يحصى يظهر تفوقه وقدرته وتمكنه من اللغة العربية".
فهل كانت اللغة عاجزة آنئذٍ عن تربية جيل من العلماء الذين أضاؤوا الدنيا بعلومهم ومعارفهم؟! وهل كانت المشكلة في اللغة حينئذٍ، أم أن القضية قضيةُ إرادة وعزمٍ صادق وإيمان بأن اللغة ينبوع النهوض بالأمة ومفتاح انطلاقها وسرُّ سُؤْددها؟!
يا سيدتي إن المشكلة لا تكمن في العربية بَتَّةً، ولا في خصائصها، ومفرداتها، وذاتيتها، إن المشكلة الحقيقة تكمن فينا نحن أبناءها، نحن شعوبَها الناطقين بها، وفي إيماننا بعظمة هذه اللغة وجلالها وبهائها، إن مبدأ العلاج يكون منَّا نحن، علينا أن نؤمن إيمانًا يقينيًّا لا ريب فيه أن الله أقام الدين رِدْءًا لتلك اللغة وأقام اللغة لسانًا لهذا الدين، وجعل مصيرهما مستمسكًا بعروة وثقى لا انفصام لها هي القرآن العظيم، وهنا يكون المنطلق والمبدأ...أمة تستمسك بحبل لا ينقطع،،،أمة تُحبُّ لغتها وتوصل هذا الحب لأبنائها وأجيالها، فإن مَنْ لا يُحبُّ الشيء لنْ يدعو إليه، ومن لا يعرف قيمة الشيء لنْ يدُلَّ عليه ولن يأبَه به،،،،أمة تُمْضى بلغتها صَوَارِمَ عزائِمِهَا، وتكون لها جُنَّة تخِرُّ أعداؤها على أنْصَابِها، وتعود لها أزِمَّةُ الحضارة بعدما توارتْ بِحِجَابِها.
أُمَّةٌ تعرفُ لغتها تعرفُ أين ستكون!!!!!
وما توفيقي إلا بالله