III تعليم اللغة العربية ومناهجه:
وفيما يخص تعليم اللغة العربية، فالتجديد فيه يخص منهجية التعليم وطرائقه والمحتوى اللغوي لما يعلم، ومنه القواعد النحوية والصرفية.
أ- فأما المنهجية والطرائق الحديثة، فالذي ينبغي أن نلاحظه هو تدنّي مستوى التكوين للمعلمين والأساتذة، وعدم ظهور الأسس التي تقوم بهذا التكوين إلا القليل منهم على ما جدّ من جديد في ميدان تعليم اللغات في العالم (كسائر الميادين العلمية الأخرى). وهذا نقص كبير لا بد من تلافيه وسدّ الثغرات فيه.
فالتجديد ههنا يكمن قبل كل شيء في:
1- إعادة النظر في محتوى تكوين معلمي العربية وأساتذتها وكيفية تدريبهم بحسب ما طرأ من جديد في علم تعليم اللغات وتكوين معلميها.
2- وتنظيم دورات لتجديد المعلومات بكيفية دورية وإجبارية مع التعاون الوثيق بأقسام اللغات الأجنبية.
3- تنظيم بحوث علمية في تعليم العربية وذلك باختبار طرائق تدريسية جديدة بعد تمحيصها النظري وتكييفها بخصائص العربية. وإجراء تعليم تجريبي في مدة سنة دراسية بحسب المستويات بعدة طرائق في عين المكان بقصد الموازنة بينها فيما يخص النتائج التي يتوصل إليها بكل واحدة منها.
ب- وأما المحتوى لتعليم العربية فهناك جانبان: جانب القواعد النحوية وجانب المفردات.
فالأول قد حاول فيه بعض المجمعيين والباحثين تجديده بدون طائل، وكان في الأول مجرد تقليد لما يُعلَّم باللغات الغربية (وخاصة الفرنسية!).
فطلبوا أن تختصر الوظائف النحوية من فعل وفاعل ومبتدأ وخبر إلى مسند ومسند إليه وسموا جميع المفاعيل "التكملة"! (Complément)، ثم ألفوا الكتب في تيسير النحو (وكنا قد نبهنا بعضهم أن الذي يُيسَّر في النحو (أو اللغة عامة) هو الطريقة التعليمة وكيفية تقديمه للمتعلم، لا النحو في ذاته؛ لأن مثل ظاهرتي التنازع والاشتغال تأتي كل واحدة منهما على ألسنة الناس وفي أفصح الكلام الذي هو القرآن: فالجديد ههنا هو في إحصاء هذه الأساليب وتقديمها على أصناف في أيسر صورها وفي محاورات طبيعية وحكايات شائقة تساعد الذاكرة على ترسيخها. فعلى الرغم من ظهور الطرائق الجديدة المفيدة في تعليم اللغات، فإن معلمي العربية قد يجهلون غالبا حتى وجود مثل هذه الطرائق.
وما يزالون يعلمون القواعد النحوية على الطريقة التقليدية. مع أن الاكتساب للغة هو اكتساب مهارة ولا تكتسب أية مهارة بمجرد الاطلاع على القواعد وبحفظها، بل باستعمال اللغة في حالات خطابية طبيعية، وتعلُّم اللغة هو قبل كل شيء تمرّس على الكلام المنطوق والمكتوب وتمرّس على إدراكه، وقد وضعت لذلك مبادئ علمية بعد إجراء البحوث، وقد حررت على مقياسها طرائق لتعلم اللغات الأجنبية، وقد اشتهرت بالنسبة لمن يتعلم هذه اللغات، فلا بد من الاعتداد بما هو ناجع من ذلك. ولهذا لا يمكن أن نجدد التعليم للغة العربية إلا بتكوين جدّ متطور لمعلم العربية بكل ما تقتضيه هذه الصفة من الاطلاع الواسع على كل ما يجدّ من جديد على هذا الصعيد.
هذا ويحتاج الواضع لطريقة التعليم والمعلم نفسه إلى تصوّر جديد للبُنى النحوية العربية، والتجديد في ذلك هو أن يتخلى عن التصنيف والمفاهيم التي ورثناها من النحاة المتأخرين؛ لأنه غير ناجع في إكساب المهارة اللغوية (إلا بعض ما أخذوه عن الأوائل). ويستحسن أن يعتمد في ذلك على ما نتج من البحوث في النحو العربي الأصيل، وهو ما يسمى الآن بالنظرية الخليلية الحديثة. وهي عبارة عن قراءة جديدة لما تركه الخليل وسيبويه وأتباعهما (وكمثال لهذا النجوع نذكر المفهوم الخليلي للاسم والفعل: فالاسم هو مجموعة من الوحدات تتكون من نواة وهي الاسم المسمى بالمفرد وزوائد "تدخل عليها وتخرج" بحسب غرض المتكلم ومقام الخطاب، وكذلك هو الفعل).
وفيما يخص تعليم المفردات، فقد حاولنا فيما مضى أن نجعل تحت تصرف التلميذ في الابتدائي المفردات التي يحتاج إليها لإثراء معلوماته من جهة، وما لا يستغني عنه في الحياة اليومية من جهة أخرى (وفي تعليم المفردات نقص كبير جدا من هذه الناحية). وقد تم إنجاز هذا المشروع المسمى بالرصيد اللغوي في السبعينيات، وأدخل في بعض الكتب، وأهملته بعض الدول ولم تطبقه. وينبغي أن لا يُهمل؛ لأنه مفيد جدا؛ إذ يستجيب لكل ما يجب أن يعرفه الطفل من المفاهيم العلمية والحضارية، ويتعلّم ذلك بالتدريج حسب مداركه العقلية في سنّ معيّنة. وقد قُرّر تحديثه على مستوى مشروع الذخيرة العربية.
أما فيما يخص تعليم البلاغة فينبغي في نظري أن نميّز بين البلاغة الفنية التي تخص الكُتَّاب والشعراء، وبين بلاغة الخطاب التي تخضع لمقتضى الحال والمقام عامة. فهذه البلاغة تكاد تنحصر في علم المعاني وهي من قواعد التخاطب (وما البلاغة في الحقيقة إلا صفة التبليغ الفعّال). فكما أن النحو هو قواعد الكلام السليم لفظا ومعنى، فإن البلاغة هي قواعد الخطاب الناجع النافذ. ولا ينبغي أن تعلم هذه البلاغة على حدة، بل تخطط مفاهيمها وأساليبها وتدمج في حصّة التمرس اللغوي كمكون له. وهذا لأن المهارة اللغوية هي أيضا مهارة في التصرف في البنى ومهارة في مراعاة مبدأ "لكل مقام مقال".
أما ميدان الترجمة فهو من أخطر الميادين الثقافية، ومن المؤسف أن نقول إنه الآن ميدان مهمل تماما في الدول العربية على الرغم من وجود بعض المؤسسات المخصصة للترجمة. فإن أصغر البلدان –مثل اليونان وغيرها- تترجم في كل سنة أضعاف ما يترجم في البلدان العربية جمعاء. والجديد الذي نقترحه هو أن تنشأ في كل جامعة عربية وفي كل دولة عربية مؤسسة أو خلية على الأقل تكلف بترجمة عدد من الكتب العلمية بالاعتماد على فريق من 4 إلى 6 أساتذة لكل كتاب. وتنشأ لجنة من العلماء تتفرع إلى لجان فرعية تخصص كل واحدة منها لمادة علمية، وتكلف أيضا هذه اللجنة العليا بتخطيط أعمال الترجمة في الجامعات وما يقتضي ذلك من اختيار في كل سنة للكتب العلمية القيمة وفي كل شهر للبحوث المنشورة في المجلات العالمية المتخصصة. ويمكن أن يشرف على هذه اللجنة ثلاث مؤسسات: اتحاد الجامعات، والمعهد العالي للترجمة ومركز التعريب والترجمة التابع للألسكو.
ولكي لا تبقى هذه الأعمال في رفوف المكتبات فلا بد من حوسبتها في الذخيرة العربية.
هذا ولا بد أن لا ننسى أن التجديد ليس هو التغيير من أجل التغيير ولا التغيير الذي يخضع للموضة - وكم من مفكر وباحث ينخدع بكل ما هو جديد من النظريات فلا يريد بها بديلاً - فالتجديد لا ينبغي أن يمس كل ما يشهد عليه العلماء وأهل الاختصاص بالإجماع بأنه نظرية صحيحة ناجعة أو طريقة تحليل جدّ مفيدة وغير ذلك مما هو صحيح ومفيد.
ونمثل لهذا التجديد الخاطئ بالترتيب لمداخل المعجم العربي: اقترح بعضهم أن يرتب المعجم ترتيبًا ألفبائيًا. وقد وضعت بعض المعاجم بهذا الترتيب. وهذا غير جيد إذ كان ينتج منه تخليط المواد الأصلية، بل اختفاؤها، والعربية لغة سامية ذات مواد أصلية شفّافة. فلا بد من الترتيب الذي يراعي هذه البنية الأساسية. وهذا لا يمنع أن يعتمد على الترتيب الألفبائي بالنسبة لكل كلمة يصعب على من لا يتقن العربية معرفة مادتها الأصلية.
وفيما يخص قواعد الإملاء، فإن الإملاء العربي هو أسهل نظام إملائي بالنسبة إلى سائر اللغات.
VI- البحوث العلمية في اللسانيات الحاسوبية العربية:
تجرى الآن بحوث في مختلف البلدان العربية وغيرها في ميدان اللسانيات الحاسوبية بالتطبيق على اللغة العربية وخاصة الصياغة لنظامها النحوي الصرفي. وقد وُفّق بعض الباحثين في هذا العمل بلجوئهم إلى النظرية الخليلية الحديثة. ومن المعروف أن مثل هذه البحوث تحتاج إلى التعاون الوثيق (في الفريق الواحد) بين المهندسين الذين لهم علم بالنظريات اللسانية، وبين اللسانيين الذين لهم خبرة بكل ما يرجع إلى الحاسوبيات (ما لا بد منه). ولا يمكن أن يتم التعاون بينهم إلا بهذا الشرط.
وتحتاج هذه البحوث أيضا إلى نظرية لسانية عامة، وأخرى تخص العربية، فالنظرية هي التي تكون موضوع الصياغة المنطقية الرياضية وليست اللغة في ذاتها. وقد حصل هذا بالفعل عند بعض الباحثين، وعند أكثر الباحثين العرب؛ فإنهم يكتفون الآن -مع الأسف- بتطبيق الأنحاء المسماة بالتوحيدية التي يلجأ إليها بعض الباحثين الغربيين في علاجهم للغاتهم. ويبدو لنا أن هذا الميدان هو من أخطر ميادين التجديد اللغوي العلمي؛ لأنه يعالج اللغة باللجوء إلى أحدث الوسائل العلمية والتقانية، ويضطر فيه أصحابه –وهو المفروض- إلى الاختبار المتواصل لكل النظريات اللسانية.
دراسات لصاحب المقال تحتوي على أهم ما جاء فيه بالتفصيل:
- المصطلحات والمعاجم:
. مساهمة المجامع اللغوية العربية في ترقية اللغة العربية وتجديد محتواها وتوسيع آفاقها. بحث ألقي في مؤتمر مجمع اللغة العربية بالقاهرة في 2006.
. المعجم العربي والاستعمال الحقيقي للغة. نشر في كتاب "بحوث ودراسات في اللسانيات العربية" الجزائر، 2008 ص 1/136-147.
. المعجم العلمي وشروط وضعه. نفس المصدر. 158-171.
. أدوات البحث في علم المصطلحات. مجلة المجمع الجزائري للغة العربية. العدد 7 (2008) ص9-29.
. المعجم التاريخي للغة العربية. بحث ألقي في ندوة المعجم التاريخي التي نظمها اتحاد المجامع اللغوية في الشارقة عام 2006.
- مشروع الذخيرة العربية:
. حوسبة التراث العربي والإنتاج الفكري في ذخيرة واحدة كمشروع قومي. بحوث ودراسات، السابق الذكر. ص 2/148-157.
. من أخبار مشروع الذخيرة العربية. مجلة المجمع الجزائري، العدد 2 ص 261- 298.
- تعليم اللغة العربية عامة:
. الأسس العلمية لتطوير تدريس اللغة العربية. بحوث ودراسات. 1/158-173.
. الأسس العلمية لبناء مناهج اللغة العربية. نفسه. 1/190-204.
- النحو العربي الأصيل وتحديثه:
. المدرسة الخليلية الحديثة والدراسات اللسانية في الوطن العربي. نفسه 1/207-224.
. سلسلة من البحوث في النظرية الخليلية صدرت في هذا الكتاب زيادة على السابق الذكر، وذلك في الجزء الأول: من ص 230 إلى 264 ومن 304 إلى 314 ومن 315 إلى 335 وفي الجزء الثاني: من ص 9 إلى 80 (خمس بحوث).
- الترجمة:
. الترجمة والمصطلح العربي ومشاكلهما. نفسه. 1/371-380.
ودراسة تشمل كل هذه المسائل: اللغة العربية والبحث العلمي المعاصر أمام تحديات العصر نفسه. 2 /125- 134.