تكامل الفنون والعلوم والمهارات اللغوية وغير اللغوية=1
للدكتور محمد جمال صقر
الأستاذ بجامعتي القاهرة والسلطان قابوس
www.mogasaqr.com
mogasaqr@gmail.com
منذ سبع سنوات (2007)، حضرت ندوة اتحاد مدرسي اللغة العربية بمدينة باندونج الإندونيسية، ثم لم ألبث بعدما أُبْتُ أن كتبت فيها كُتيِّبًا من أدب الرحلة (مؤتمر باندونج بلا جمال عبد الناصر)، وكان أهمَّ ما فيه نصُّ كلمة فضيلة أستاذنا هداية نور وحيد رئيس مجلس الشورى الإندونيسي عندئذ، التي ارتجلها في مفتتح الندوة.
ومن أهم ما ورد في كلمته هذه، قوله:
"نحن كلنا أمة إنسانية أمة إسلامية، كُرِّمْنا بهذه اللغة العربية، كُرِّمْنا كذلك بهذا الوحي القرآني المحمدي، وإذا ظهر ذلك فإن الله -عز وجل!- قد سهل لنا طريق العقيدة، من أجل تفهم القرآن، واللغة العربية، من أجل تطبيقها في مجالات الحياة المتعددة؛ وعلى ذلك أنا أرى أننا إذا أردنا أن نحيا بالفكر الإسلامي الوسطي، أو بالفكر الإنساني الوسطي، فاللغة العربية هي من الأبواب الرئيسية التي عن طريقها ندخل إلى تفهم حقيقة الحياة وحقيقة الوسطية" (صقر، 2007).
وفي هذه الفقرة من كلمته، تنبيه واضح على ثلاثة الأفكار الآتية:
1 أصالة اللغة العربية في فهم الإسلام.
فمن لم يعرف اللغة العربية لم يتجاوز في الإسلام منزلة المقلِّد، والمقلِّدُ إِمَّعَةٌ، والمسلم مَنهيٌّ عن أن يكون إِمَّعةً يحسن إحسانَ الناس ويسيء إساءَتهم، مأمورٌ بأن يتحرر من قيد التقليد، لينطلق محسنًا غير مسيء.
2 أصالة اللغة العربية في ممارسة الحياة.
فمن لم يعرف اللغة العربية لم يفكر بنظام التفكير الذي يجمع بين القرآن الكريم والنثر الشريف والشعر النفيس؛ فلم يتخلَّق بمكارم الأخلاق التي تدعو إليها، ولم يَحْيَ بنور الهدى والخير والرشاد والسعادة الذي يشع منها.
3 أصالة اللغة العربية في ضمان الوسطية.
فمن لم يعرف اللغة العربية لم يأمن أن ينحرف بخواطر الجهل إلى أطراف التَّديُّن، ولا أن ينجرف بدواعي الغفلة إلى مهاوي الإفراط أو التفريط؛ فيسيء من حيث ظن أنه يحسن، ويصير من الأخسرين أعمالا "الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا" (سورة الكهف، من الآية: 103)!
إن كل فكرة من تلك الأفكار الثلاثة، دليلُ مَفْصِلٍ من مفاصل علاقة اللغة العربية بالثقافة الإسلامية؛ فإن اللغة العربية فنون (آداب) وعلوم (ضوابط) ومهارات (أداءات)، تفكيرية تعبيرية، متدفقة في جسم الثقافة الإسلامية تدفق الدماء في جسم الإنسان، تحمل له أصول العقيدة والشريعة والأخلاق -فتكفل له الإيمان والمعاملة والعبادة- مثلما تحمل الدماءُ الماء والغذاء والدواء، حتى إذا ما احْتَبَسَتْ أو تَلوَّثت أو سالت -لا قدر الله!- جَفَّ وذوى وهلك أو كاد؛ فكل ما يظهر على فنون اللغة العربية وعلومها ومهاراتها من ظواهر الاستقامة أو الاعوجاج، والاتزان أو الاضطراب، والائتلاف أو الاختلاف، والتوفيق أو الإخفاق- ظاهرٌ حتمًا على الثقافة الإسلامية.
وليس أعجب في علاج ما يظهر على الثقافة الإسلامية من أدواءٍ، من دعوة الداعي إلى التحول عن فنون اللغة العربية وعلومها ومهاراتها إلى غيرها ولاسيما الإنجليزية -وكنت قديما أظن هذا عبثا من عبث تلامذتنا الجامعيين وحدهم- حتى ينتظم أهلها في رَكْب المتقدِّمين (مهدي، 2014)؛ فقد اعتبر ما بين الثقافة الإسلامية واللغة العربية من ترابط حيوي، من حيث أراد أن يهمله، وأثبته من حيث أراد أن ينفيه، ولكنه انطوى من عداوة الثقافة الإسلامية وهو المسلم، على ما لم يتحرَّج منه قديما أبو بشر متى بن يونس القُنَّائيُّ النصراني (328هـ)، الذي أفرط في تقدير الثقافة اليونانية حتى حكم عليه أبو سعيد السيرافي (368هـ)، بأنه يدعوه إلى اللغة اليونانية (التوحيدي: 1/109-128)؛ فاعتبر كذلك ما بين الثقافة اليونانية واللغة اليونانية -وإن عَكَسَ الجهة!- وتآزرت على الزمان الأدلة.
لقد كان الأحرى بالحريص على الثقافة الإسلامية أن يحرص على اللغة العربية، لا أن يُفرِّط فيها؛ فبمثل رأيه تزول من العالم اللغات والثقافات شيئا فشيئا، مثلما يزول الذين يُعاش في أَكْنافهم، ويُعمَّر المُبتَلَى وحده إلى أرذل العمر، ويُنَكَّس، فيندم، ولات ساعة مندم!
ومِن سنن الحياة نَقْصُ ما لم يَزِدْ، المستفادُ من مثل قول أبي البقاء الرُّنْدِيّ المعروف:
لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ فَلَا يُغَرَّ بِطِيبِ الْعَيْشِ إِنْسَانُ
فلا زيادة بعد التمام؛ وقديما بكى سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه!- لقول الحق -سبحانه، وتعالى!-: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا" (سورة المائدة: من الآية 3)؛ فقال له النبي -صلى الله عليه، وسلم!-: مَا يُبْكِيكَ؟ قال: أَبْكَانِي أَنَّا كُنَّا فِي زِيَادَةٍ مِنْ دِينِنَا، فَأَمَّا إِذْ كَمَلَ فَإِنَّه لَمْ يَكْمُلْ شَيْءٌ إِلَّا نَقَصَ! فقال: صَدَقْتَ (الطبري: 9/519). قال محمود محمد شاكر محققه العلامة -رحمه الله!- في حاشيته عليه: "إنما عَنى بنقصانِ الدين أهلَ الدين؛ فإنهم إذا تطاول عليهم الأمد قست قلوبهم، وقَلَّ تمسُّك بعضهم بما أُمر به. ومعاذ الله أن يعني عمرُ نقصانَ الدين نفسِه! ومثله قوله -صلى الله عليه، وسلم!-: بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَباءِ".
فمن استطاع ألا تُؤتَى الثقافة الإسلامية مِن قِبَلِه فمن العجز ألا يفعل، ولن يفعل حتى تزيد به اللغة العربية كل يوم على كانت قبله فنا وعلما ومهارة -وهذا لب التنمية الثقافية- وليس أَزْيَدَ لها من تكامل فنونها وعلومها ومهاراتها -ففي تكاملها تلقيحُها وتوليدُها وتَرْبِيَتُها- والإفساحِ لها منفردةً ومجتمعةً، في كل مجال من مجالات اللغة العربية.