الفصل التاسع والثلاثون: مجمل في الحذف والاختصار.
من سنن العرب: أن تحذف الألف من "ما" إذا استَفْهَمَتْ بها فتقول: بِمَ؟ ولِمَ؟ ومِمَّ؟ وعلامَ؟ وفيمَ؟ قال تعالى: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} 1؟ وكما قال عزّ وجلّ: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ*عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} 2: أي عن ما؟ فأدغم النون في الميم. ومن الحذف للاختصار قول الله تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} 3 أي السر وأخفى منه فحذف وقوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} 4 أي أمرةً واحدة أو مرَّة واحدة. ومن الحذف قوله: لم أُبَلْ. ولم أُبالِ. وقولهم: لم أكُ ولم أكُنْ. وفي كتاب الله عز وجل: {وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} 5. ومن ذلك ما تقدَّم ذكره من قوله جل جلاله: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} 6 وقوله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} 7 وقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} 8 فحذف النَّفس والشمس والأرض إيجازا واقتصارا. ومن ذلك حذف حرف النداء كقولهم: زيدُ تعال. وعمرو اذهب أي يا زيد ويا عمرو. وفي القرآن: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} 9 أي يا يوسف. ومن ذلك حذف أواخر الأسماء المفردة المعرفة في النداء دون غيره كقولهم: يا حارُِ يا مالُِ ويا صاحُِ أي يا حارث ويا مالك ويا صاحبي ويقال لهذا الحذف: الترخيم وفي بعض القراآت الشاذّة: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} [الزخرف: 77] 10 وقال امرؤ القيس: [من الطويل]
أفاطِمُ مَهلاً بَعْضَ هذا التَّدللِ. ... وإن كنت قد أرفعت صرمي فأجملي
وقال عمرو بن العاص: [من الطويل]
مُعاويَ لا أعطيكَ ديني ولمْ أنلْ ... بهِ مِنكَ دُنيا فانظُرَنْ كيفَ تَصنَعُ.
ومن ذلك قولهم: باللهِ أي أحلِفُ باللهِ فحذَفوا "أحلف" للعلم به والاستغناء عن ذِكره وقولهم: باسم الله أي أبتَدِئُ باسم الله. ومن ذلك حذف الألف منه لكثرة الاستعمال ومن ذلك ما تقدم ذكره في حفظ التوازن كقوله عزّ ذِكره: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} 11 و: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} 12 و: {يَوْمَ التَّلاقِ} 13. ومن ذلك حذف التنوين من قولك: محمدُ بنُ جَعفر وزيد بنُ عمرو. وحذف نون التثنية عند النفي كقولك: لا غلامَىْ لك ولا يدىْ لزيد وقميص لا كمَّىْ له. ومن ذلك حذف نون الجمع عند الإضافة في قولك: هؤلاء ساكنوا مسكة ومسلمو القوم. ومن الحذف قولهم والله أفعل ذلك يريدون والله لا أفعل ذلك ومن الحذف قوله عز وجل {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} 14 فنصب خيرا بالإضمار أي يكن الانتهاء خيرا لكم فنصب خيرا وحذف واختصر. ومن الحذف قوله عزَّ ذكره: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} 15 وتقديره: ولنعلّمه فعلنا ذلك. وكذلك قوله: {وَحِفْظاً مِنْ} 16 أي: وحفظا فَعَلْنا ذلك، ومن الحذف قولهم: صلّيت الظُهرَ أي صلاة الظهر وكذلك سائر الصلوات الأربع.
_______________________________________
1- سورة النازعات: الآية 43.
2- سورة النبأ: الآية 1، 2.
3- سورة طه الآية: 7.
4- سورة القمر الآية: 50.
5- سورة مريم الآية: 9.
6- سورة القيامة: الآية 26.
7- سورة صّ الآية: 32.
8- سورة الرحمن: الآية 26.
9- سورة يوسف الآية: 29.
10- وتمام الآية {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} [الزخرف: 77]
11- سورة الفجر: الآية 4.
12- سورة الرعد الآية: 9.
13- سورة غافر الآية: 15.
14- سورة النساء الآية: 171.
15- سورة يوسف الآية: 21.
16- سورة الصافات الآية: 7.
فقه اللغة وسر العربية
المؤلف: عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي (المتوفى: 429هـ)
المحقق: عبد الرزاق المهدي
الناشر: إحياء التراث العربي
الطبعة: الطبعة الأولى 1422هـ - 2002