التعريف بالتداولية
أ.د عبد الله أحمد جاد الكريم
1 يعودُ الاستعمالُ الحديثُ والحالي للتَّداوليَّةِ (pragmatics) للأمريكي شال موريس(Charles mourris)عام (1938م) في كتابه «أسس نظرية العلامات»، ففي تعريفه للتداولية يقول:«التداوليةُ جزءٌ من السيميائية التي تعالج العلاقة بين العلاماتِ ومُستعملي هذه العلامات»، وهذا تعريفٌ واسعٌ يتعدَّى المجالَ اللِّسانيَّ إلى السميائيِّ، والمجالَ الإنسانيَّ إلى الحيوانيِّ والآليِّ(1).
إذنْ التَّداوليَّةُ عند "تشارلز موريس": هي جزءٌ من السِّيميائيَّةِ وأحدُ مُكوِّناتها تهتمُّ بدراسةِ العلاقةِ بين العلامات ومُستعمليها أو مُفسِّريها (مُتكلِّمٍ، سامِعٍ، قارئٍ، كاتبٍ...الخ)، وتحديد ما يترتَّب عن هذه العلامات .
-2 ويعرِّفُها آن ماري ديير(Anne Marie) وفرانسوا ريكانتي (François Récanti) بقوله:«التَّداوليَّةُ هي دراسةُ استعمالِ اللُّغةِ في الخِطِابِ، شاهدةٌ في ذلك على مقدرتها الخطابيَّةِ»(2).
نستنتجُ من هذا التَّعريفِ أنَّ التّداوليَّةَ تدرسُ معنى العباراتِ مِـْن خِلالِ العلاقةِ مـــع سِيَاقِ التَّعبيرِ(3)، كعـلــمِ الــدَّلالــةِ، وبعــض الأشكال اللسانية التي لا تتحدد مضامينها إلا من خلال صياغتها التعبيرية.
-3 أمَّا فرانسيس جاك (Francis Jaque) فقد عرفها بقوله:« تتطرَّقُ التَّداوليَّةُ إلى اللُّغةِ كظاهرةٍ خطابيَّةٍ، وتواصليَّةٍ واجتماعيَّةٍ معًا »(4).
-4 وتُعرِّفها "فرانسوا أرمينغو" بـــ:«أنَّها تعني دراسةَ استعمالِ اللُّغةِ في الخِطَابِ، شاهدةٌ في ذلك على مقدرتها الخطابيَّةِ»(5). فالتَّداوليَّةُ عندها: هي الدِّراسةُ التي تتناولُ اللُّغةَ من جِهَةِ استعمالنا لا من جهة معناها أو مبناها.
5- ويذكر جيف فيرستشيرن (Jef Verschueren) عدَّة تعريفات للتداولية لا تخرج كثيراً عن التعريفات السابقة، بل إنَّه يبنى تعريفه الأول لها على تعريفِ موريس ((morris الذي أشرنا إليه آنفًا مع شيء من الشرح والتفسير بقوله:" إنَّنا نعني بالتَّداوليَّةِ علمُ علاقةِ العلامةِ بمُؤوِّليها، فإنَّه من التَّمييزِ الدَّقيقِ للتَّداوليَّةِ أنْ نقولَ: إنَّها تتعاملُ مع الجوانِبِ الحيويَّةِ لعلمِ العلامَاتِ، وهذا يعني كُلَّ الظَّواهِرِ النَّفسيَّةِ والاجتماعيَّةِ التي تظهرُ في توظيفِ العلاماتِ"(6).
6- وقد عرّف «د. صلاح فضل» التداوليَّةَ على أنَّها «الفرعُ العلميُّ المتكوِّنُ من مجموعةِ العلومِ اللُّغويَّةِ التي تختصُّ بتحليلِ عمليَّاتِ الكلامِ بصفةٍ خاصَّةٍ، ووظائف الأقوال اللغوية وخصائصها خلال إجراءات التَّواصلِ بشكلٍ عامٍّ»(7).
7- ويقدِّمُ «د.مسعود صحراوي» تعريفًا واضحًا للتداولية في كتابه (التداولية عند العلماء العرب) بأنَّها:« مذهب لساني يدرس علاقة النشاط اللغوي بمستعمليه ، وطرق وكيفيات استخدام العلامات اللغوية بنجاح، والسياقات والطبقات المقاميَّة المختلفة التي ينجز ضمنها "الخطاب"، والبحث عن العوامل التي تجعل من "الخطاب" رسالة تواصلية "واضحة" و"ناجحة"، والبحث في أسباب الفشل في التواصل باللغات الطبيعية(8).
ويقول أيضًا:" التداولية ليست علمًا لغويًا محضًا، بالمعنى التقليدي، علمًا يكتفي بوصف وتفسير البنى اللغوية، ويتوقف عند حدودها وأشكالها الظاهرة، ولكنها علم جديد للتواصل يدرس الظواهر اللغوية في مجال الاستعمال"(9).
8- وقد عرّف (فانديك) التداولية، ووصفها بأنَّها علمٌ، وبأنَّها تُساهم بشكل فعَّال في التفاعل الاجتماعي، والتواصل حيث يقول:"التداولية بوصفها علمًا يُعنى بتحليل الأفعال اللغوية، ووظائف المنطوقات اللغوية، وسماتها في عملية الاتصال بوجه عام، انطلاقا من كون المنطوقات اللغوية تهدف إلى الإسهام في الاتصال، والتفاعل الاجتماعي"(10).
9- ويعرّفها الباحث "الجيلالي دلاش" بكونها« تخصّص لساني يدرس كيفية استخدام الناس للأدلة اللغوية في صلب أحاديثهم وخطاباتهم، كما يُعنى من جهةٍ أخرى بكيفية تأويلهم لتلك الخطابات والأحاديث»(11).
9- ويعرِّفُها أحدُ العلماء التداولية بقوله:« هي دراسة اللغة التي تركز الانتباه على المستعملين وسياق استعمال اللغة بدلاً من التركيز على المرجع، أو الحقيقة، أو قواعد النحو»(12).
10- ويستخلص «د. محمد عناني» مفهوم المصطلح من الدراسات الغربية التي تناولته فيُحدِّده في أنَّه:" دراسة استخدام اللغة في شتى السياقات والمواقف الواقعية ؛ أي: تداولها عمليًّا، وعلاقة ذلك بمن يستخدمها، تفريقاً لها عن مذهب العلاقات الداخلية بين الألفاظ (Syntactics)، وعلاقة الألفاظ بالعالم الخارجي أو دلالاتها (Semantics)(13).
11- إذن التداولية في أبسط تعريفاتها عندي:«هي دراسةٌ للغة أثناء استعمالها واستخدامها في سياق التخاطب، تقوم على مُراعاة كُلِّ ما يُحيط بعمليَّةِ التَّخاطُبِ، للوصول إلى المعنى وإحداث الأثر المناسب، بحسب قصد صاحبه، تبحث في الشروط اللازمة لضمان نجاعة الخطاب وملاءمته للموقف التواصلي الذي يوجد به المتلفظ بالخطاب والسامع له ».
وممَّا سبق أرى أنَّ التداولية:«هي علمٌ يتَّصل بالظاهرة اللسانية؛ حيثُ يُعنى بدراسة الكلام وما يتعلق به من سياق لغوي وغير لغوي لتحقيق كمال الاتصال بين المتكلم (المرسل) والمستمع (المستقبل)». وهي بذلك ضاربة بسهم في علوم شتى؛ كالنحو، والصرف، والدلالة ، .. الخ.ومن الواضح أن تعريفات التداولية جميعها ترتبط بفكرة الاستعمال التي ربما تردَّدت في التعريفات جميعها بشكلٍ أو بآخر، فالتَّداوليَّةُ هي التي تدرسُ استعمالَ اللُّغةِ في السِّياقِ، وتوقفُ شتى مظاهر التَّأويل اللغوية على السِّياقِ، فالجملةُ الواحدةُ يمكنُ أن تعبِّر عن معاني مختلفة أو مقترحات مختلفة من سياق إلى سياق(14).
و«اللِّسانيَّاتُ التَّداوليَّةُ» يُمكننا أنْ نُعرِّفها بإيجازٍ شديدٍ بقولنا: إنّها تخصُّصٌ لسانيٌّ يدرس كيفية استخدام الناس للأدلة اللُّغويَّةِ في صلب أحاديثهم وخطاباتهم، كما يعني من جهة أخرى بكيفية تأويلهم لتلك الخطابات والأحاديث. وبناءً على ما تقـدَّم يمكننا القول كذلك بأنَّ اللِّسانيَّاتِ التَّداوليَّةِ إنَّما هي لسانياتُ الحوارِ أو المَلَكَةُ التَّبليغيَّةُ(15).
و«اللِّسانيَّاتُ التداولية» تخصُّصٌ لسانيٌّ يدرسُ العلاقةَ بين مُستخدمي الأدلَّةِ اللُّغويَّةِ (المُرْسِلِ، المُرْسَلِ إليه)، وعلاقاتِ التَّأثُّرِ والتَّأثير بينهما، في ضُوءِ ما يُنتجانه من تَحَاوُر مُتَّصِلٍ، ما يعني كونها علمًا تلفيقيًّا أو موسوعيًّا يجمع بين اختصاصات مُتعدِّدة، فليست التداولية بهذه المفاهيم المُتعدِّدة علمًا لسانيًّا صرفًا يقفُ عند البنية الظاهرة للغة، بل هي - على ما يؤكِّده جاك موشلار (J.Mochlar) - علمٌ جديدٌ للتَّواصُلِ يسنحُ بـ (وصفِ وتحليلِ وبناءِ) استراتيجيَّاتِ التَّخاطُبِ اليوميِّ والمُتخصِّصِ بين المُتكلِّمين في ظُرُوفٍ مُخْتلفةٍ(16).
ومن المُصطلحاتِ المُهمَّةِ أيضًا في الدِّراساتِ التَّداوليَّةِ مصطلحُ «علمُ الاستعمالِ»، وهو«دراسةٌ لغويَّةٌ تُركِّـزُ على المُستعملين لِلُّغةِ، وسياق استعمالها في عمليَّةِ التَّفسيرِ اللُّغويِّ ، بجوانبها المتنوِّعةِ، وينقسم هذا العلم إلى عدَّةِ فروعٍ ، يبحثُ الفرعُ الأول: كيف يحتدُّ السِّياقُ المعنى القضوي الواحد بالنسبة لجملة في مُناسبةٍ مُعيَّنةٍ لاستعمال هذه الجملة، ونظرية الفعل الكلامي هي الفرع الثاني من علم الاستعمال، والفرع الثالث هو نظرية التخاطب أو نظرية الاقتضاء"(17).
وبــعــدُ، فالتَّداوليَّةُ ليست علمًا لغويًّا محضًا، بالمعنى التقليدي، علمًا يكتفي بوصف وتفسير البنى اللغوية، ويتوقَّفُ عند حدودها وأشكالها الظاهرة، ولكنَّها علمٌ جديدٌ للتَّواصُلِ يدرس الظواهر اللغوية في مجال الاستعمال؛ ويدمج، من ثمَّ، مشاريع معرفية متعددة في دراسة ظاهرة "التواصل اللغوي وتفسيره". وعليه، فإنَّ الحديث عن "التداولية" وعن "شبكتها المفاهيمية" يقتضي الإشارة إلى العلاقات القائمة بينها وبين الحقول المختلفة؛ لأنَّها تشي بانتمائها إلى حقول مفاهيمية تضمُّ مُستوياتٍ مُتداخلةً، كالبنية اللغوية، وقواعد التخاطب، والاستدلالات التداولية،والعمليات الذهنية المتحكمة في الإنتاج والفهم اللغويين، وعلاقة البنية اللغوية بظروف الاستعمال،...الخ .
ولذلك فالتداولية تُمثِّلُ حلقةَ وصلٍ مُهمَّة بين حقولٍ معرفيَّةٍ عديدةٍ، منها: الفلسفة التحليلية، مُمثَّلةٌ في فلسفةِ اللُّغةِ العاديَّةِ، ومنها علم النَّفس المعرفيِّ ممثلا في "نظرية الملاءمة" (Théorie de pertinence) على الخصُوص، ومنها علومُ التَّواصُلِ، ومنها اللسانيات بطبيعة الحال. وعلى الرُّغم من اختلاف وجهات النَّظر بين الدَّارسين حول "التداولية" وتساؤلاتهم عن القيمة العلمية للبحوث التداولية وتشكيكهم في جدواها، فإنَّ معظمهم يُقرُّ بأنَّ قضية التداولية هي "إيجاد" القوانين الكلية للاستعمال اللغوي، والتعرف على القدرات الإنسانية للتواصل اللغوي ، وتصير "التداولية"، من ثَـمَّ جديرةً بأنْ تُسمَّى: "علمُ الاستعمالِ اللُّغَــوِيِّ ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ
الحواشي:
(1) محاضرات في المدارس اللسانية المعاصرة، لنعمان بوقرة، منشورات باجي مختار، عنابة، الجزائر، 2006م، ص176.
(2) المرجع السابق نفسه، ص174.
(3) اللسانيات والدلالة، لمنذر عياشي، مركز النماء الحضاري، سوريا، 1996م، ص71.
(4) محاضرات في المدارس اللسانية المعاصرة، لنعمان بوقرة، ص174.
(5) المقاربة التداولية،لفرانسوا أرمينغو، ترجمة: سعيد علوش، مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي، بيروت لبنان، 1986م، ص 62.
(6) - Jef Verschueren : Understanding Pragmatics London 1999, p. 1
(7) بلاغة الخطاب وعلم النص، لصلاح فضل، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ص 10 .
(8) التداولية عند العلماء العرب، لمسعود صحراوي،ص17.
(9) المرجع السابق نفسه، ص17.
(10) آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، لمحمود أحمد نحلة، دار المعرفة الجديدة، القاهرة ، 2002م، ص 15.
(11) ينظر: مدخل إلى اللسانيات التداولية، للجيلالي دلاش، ترجمة: محمد يحياتن، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائرية،الجزائر، 1992م، ص1.
(12) The Oxford Companion to Philosophy , 1995, p. 709-
(13) المصطلحات الأدبية الحديثة، لمحمد عناني، ط الشركة المصرية العالمية للنشر جولدمان ، القاهرة، 1996م ، ص 76.
(14) The Cambridge Dictionary of Philosophy , Lycan 1995, p. 588-
(15) ينظر: مدخل إلى اللسانيات التداولية، للجيلالي دلاش، ترجمة: محمد يحياتن، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائرية،الجزائر، 1992، ص1.
(16) ينظر: النص والسياق، استقصاء البحث في الخطاب الدلالي والتداولي، لفان ديك، ترجمة: عبد القادر قنيني ، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب ، د.ت، ، ص13.
(17) نظرية المعنى في فلسفة بول غرايس، لصلاح إسماعيل عبد الحق، الدار المصرية السعودية للطباعة والنشر والتوزيع ، القاهرة، (د.ط)، 2005م ،ص30.