نُكتةٌ في إعراب
إعراب قوله تعالى: (شَهَادةُ بينكم) في قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ..)
قوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} : هذه الآية وما بعدها من أشكلِ القرآنِ حُكْماً وإعراباً وتفسيراً، ولم يَزَلِ العلماء يستشكلونها ويَكِعَّون عنها حتى قال مكي بن أبي طالب - رحمه الله- في كتابه المسمى بالكشف: «هذه الآيةُ في قراءتها وإعرابها وتفسيرها ومعانيها وأحكامِها من أصعب آيٍ في القرآن وأشكلِها، قال:» ويحتمل أن يُبْسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة أو أكثر «قال: وقد ذكرناها مشروحة في كتاب مفرد» . وقال ابن عطية: «وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها، وذلك بَيِّنٌ من كتابه» وقال السخاوي: «لم أر أحداً من العلماء تَخَلَّص كلامُه فيها من أولها إلى آخرها» . وقال الواحدي: «وهذه الآية وما بعدها من أغوص ما في القرآن معنى وإعراباً» قلت: وأنا أستعين الله تعالى في توجيه إعرابها واشتقاق مفرداتها وتصريف كلماتها وقراءاتها ومعرفة تأليفها مِمَّا يختصُّ بهذا الموضوع، وأمَّا بقية علومها فنسأل الله العون في تهذيبه في كتابي «تفسير القرآن العزيز» إنْ شاء الله، وبه الحول والقوة.
قرأ الجمهور {شهادةُ بينكم} برفع «شهادة» مضافة ل «بينكم» . وقرأ الحسن والأعرج والشعبي برفعها منونة، «بينَكم» نصباً. والسلمي والحسن والأعرج - في رواية عنهما - «شهادةً» منونةً منصوبة، «بينَكم» نصباً. فأمَّا قراءة الجمهور ففي تخريجهما خمسة أوجه، أحدها: أنها مرفوعةٌ بالابتداء، وخبرُها «اثنان» ولا بد على هذا الوجهِ من حذف مضافٍ: إمَّا من الأول، وإمَّا من الثاني، فتقديرُه من الأول: ذوا شهادةِ بينكم اثنان، أي صاحبا شهادةِ بينكم اثنان، وتقديرُه من الثاني: شهادةُ بينِكم شهادُة اثنين، وإنما اضطررنا إلى حذفٍ من الأول أو الثاني ليتصادقَ المبتدأ والخبر على شيء واحد، لأنَّ الشهادةَ معنًى والاثنان جثتان، ولا يجيء التقديران المذكوران في نحو: «زيدٌ عدلٌ» وهما جعله نفسَ المصدر مبالغةً أو وقوعُه اسم الفاعل، لأنَّ المعنى يأباهما هنا، إلا أنَّ الواحدي نقل عن صاحب «النظم» أنه قال: «شهادة» مصدرٌ وُضِع مَوْضِع الأسماء «يريد بالشهادة الشهود، كما يقال: رجلٌ عَدْلٌ ورِضا، ورجالٌ عدلٌ ورِضا وزَوْر، وإذا قَدَّرْتها بمعنى الشهود كان على حذف المضاف، ويكون المعنى: عدةُ شهودٍ بينكم اثنان، واستشهد بقوله: {الحج أَشْهُرٌ} [البقرة: 197] أي: وقت الحج، ولولا ذلك لنصب أشهراً على تأويل: الحج في اشهر» . قلت فعلى ظاهر أنه جَعَلَ المصدر نفسَ الشهود مبالغةً، ولذلك مَثَّله ب «رجال عدل» وفيه نظر. الثاني: أن ترتفع على أنها مبتدأ أيضاً، وخبرها محذوف يَدُلُّ عليه سياق الكلام، و «اثنان» على هذا مرتفعان بالمصدر الذي هو «شهادة» والتقدير: فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان، كذا قَدَّره الزمخشري وهو أحد قولي الزجاج، وهو ظاهرُ جداً، و «إذا» على هذين الوجهين ظرف ل «شهادة» أي ليُشْهَد وقت حضور الموت - أي أسبابه - و «حين الوصية» على هذه الأوجه فيه ثلاثة أوجه، أوجهها: أنه بدلٌ من «إذا» ولم يذكر الزمخشري غيره، قال: «وفي إبدالِه منه دليلٌ على وجوبِ الوصية» .
الثاني: أنه منصوبٌ بنفسِ الموت أي: يقع الموت وقت الوصية، ولا بُدَّ من تأويله بأسبابِ الموت؛ لأنَّ وقتَ الموت الحقيقي لا وصيةَ فيه. الثالث: انه منصوبٌ ب «حَضَر» أي: حَضَر أسبابَ الموت حين الوصية.
الثالث: أنَّ «شهادةُ» مبتدأ وخبره: «إذا حضر» أي وقوعُ الشهادة في وقتِ حضور الموت/، و «حين» على ما تقدم فيه من الأوجه الثلاثة آنفاً، ولا يجوزُ فيه والحالةُ هذه أن يكونَ ظرفاً للشهادة لئلا يلزَم الإِخبارُ عن الموصولِ قبل تمامِ صلتِه وهو لا يجوز، وقد عرفت شرح ذلك مِمَّا مَرًَّ. ولَمَّا ذكر الشيخ هذا الوجهَ لم يستدرك هذا، وهو عجيب منه. الرابع: أنَّ «شهادة» مبتدأُ، وخبرُها «حين الوصية» و «إذا» على هذا منصوبٌ بالشهادة، ولا يجوز أن ينتصِبَ بالوصية وإن كان المعنى عليه؛ لأنَّ المصدرَ المؤولَ لا يَسْبقه معمولُه عند البصريين ولو كان ظرفاً، وأيضاً فإنه يلزمُ منه تقديمُ المضافِ إليه على المضافِ؛ لأنَّ تقديم المعمول يُؤْذِنُ بتقديمِ العامل والعاملُ لا يتقدَّم فكذا معمولُه، ولم يجوِّزوا تقديمَ معمولِ المضاف إليه على المضاف إلا في مسألة واحدة وهي: إذا كان المضافُ لفظة «غير» ، وأنشدوا:
181 - 9- إنَّ أمرأً خَصَّني عمداً مودَّتَه ... على التنائي لَعندي غيرُ مكفورِ
ف «عندي» منصوبُ ب «مكفور» ، قالوا: لأنَّ «غير» بمنزلة «لا» ، و «لا» يجوزُ تقديمُ معمولِ ما بعدها عليها. وقد ذكر الزمشخري ذلك آخرَ الفاتحة، وذكر أنه يجوزُ «أنا زيداً غيرُ ضارب» دون «أنا زيداً مثلُ ضارب» . و «اثنان» على هذين الوجهين الآخيرين يرتفعان على أحدِ وجهين: إمَّا الفاعليةِ أي: «يشهد اثنان» يدل عليه لفظ «شهادة» وإمَّا على خبر مبتدأ محذوف مدلولٍ عليه ب «شهادة» أيضاً أي: الشاهدان اثنان.
الخامس: أنَّ «شهادةُ» مبتدأ، و «اثنان» فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر، ذكره أبو البقاء وغيره وهو مذهبُ الفراء، إلا أنَّ افراء قَدَّر الشهادةَ واقعةً موقعَ فعلِ الأمر كأنه قال: «ليشهد اثنان» فجعله من باب نيابةِ المصدرِ عن فعل الطلب، وهو مثل «الحمدُ لله»
و {قَالَ سَلاَمٌ} [هود: 69] من حيث المعنى، وهذا مذهبٌ لبعضهم في نحو: «ضَرْبي زيداً قائماً» يَدَّعي أن الياء فاعل سَدَّتْ مسد الخبر، وهذا مذهب ضعيفٌ ردَّه النحويون، ويخصون ذلك بالوصفِ المعتمدِ على نفي أو استفهام نحو: «قام أبواك» وعلى هذا المذهب ف «إذا» و «حين» ظرفان منصوبان على ما تقرَّر فيهما في غير هذا الوجه. وقد تحصَّلْنا فيما تقدَّم أن رفع «شهادة» من وجه واحد وهو الابتداء، وفي خبرها خمسة أوجه تقدَّم ذكرُها مفصلةً، وأنَّ رفع «اثنان» من خمسة أوجه، الأول: كونه خبراً لشهادة بالتأويل المذكور، الثاني: أنه فاعل ب «شهادة» ، الثالث: أنه فاعل ب «يشهد» مقدراً، الرابع: أنه خبر مبتدأ أي: الشاهدان اثنان. الخامس أنه فاعل سَدَّ مسدَّ الخبر. وأنَّ في «إذا» وجهين: إمَّا النصبَ على الظرفية، وإمَّا الرفعَ على الخبرية ل «شهادة» ، وكل هذا بَيِّنٌ مما لَخَّصْتُه قبل. وقراءةُ الحسن برفعها منونةً تتوجه بما تقدم في قراءة الجمهور من غير فرق.
الدر المصون
453/4