#شيء من اللغة: ما بين الدّعْوَة والدَّعْوَى والادّعاء
د. هادي حسن حمّودي
شاهدت قبل سنوات ندوة متلفزة بين اثنين من السياسيين يختصمان على كرسيّ مزركش. هدد أولهما الثاني بأنه سيقيم عليه دعوة قضائية بتهمة التشهير، فقال له الثاني: لا تنفعك ألف دعوةً (بالنصب) في القضاء.
مررت بهذين القولين بلا اهتمام، ذلك أن السياسيين في الدول الأخرى، غربية وشرقية، يتحدثون بلغاتهم بلا أخطاء، أما في بلداننا فلا بد من التجاوز عن أخطائهم، لأنهم لا وقت لديهم لتعلم لغتهم.
وقبل أيام قرأت مقالة في صحيفة يومية كتبها محام وضع لها عنوانا جاء فيه: شروط إقامة الدعوة القضائية. هنا استغربت جدا، فالمفروض بالمحامي أن يكتب بلغته القانونية وهي التي يجب أن تكون لغة دقيقة محددة لئلا يضطرب القانون وتتناقض وجوه تنفيذه. ولكن استغرابي زال إذ ذكر الكاتب في المقال أن هذا عنوان باب في القانون نفسه. فيبدو أن زمن صياغة القانون على أيدي الحاذقين من قانونيين ضليعين باللغة ومعاني ألفاظها، قد زال بفعل التطور الذي وصلت إليه الثقافة العربية.
والآن، دعونا ننظر في أصل هذه الاستعمالات.
في اللغة العربية جذر لغوي هو (د. ع. و) يدل على معنى قديم أصيل، هو: إمالة الشيء إلى من أراده. فإذا أردت شيئا فأنت تحاول، قولا وفعلا، أن تميله إليك، وأن تحصل عليه. وما كل مَن أراد شيئا كان محقّا في طلبه. لذلك يوصف بأنه مُدّعٍ يدّعي ذلك، فإن ثبت له الحق فيه، زالت عنه صفة الادّعاء.
وأنت حين تتقدم للمحاكم بشكوى ضد آخر، قد يكون الحق معك وقد لا يكون، فهي دعوى وأنت مدّعٍ شيئا. ومنه الادّعاء. وعرفت المحاكم الادّعاء العامّ، أي الذي يمثل القانون. وما كل قضية يحيلها الادّعاء العام للمحاكمة تثبت صحتها، ولذلك يظل هو ادعاءً وتظل القضية المعروضة دعوى.
أما الدّعوة، فكأنْ تكون كريما وتقيم وليمة لأصحابك، و(تدعوهم) إليها، فهي دعوة وأنت الداعي، ولست المدّعي.
ومن اشتقاقات الجذر أن تقول: دعوت الله دعوة خالصة: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وقوله: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ). أما الآية: (فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) فقد حكمت على ما قالوه بأنه ادّعاءٌ لا دعاء. فهم كاذبون حتى حين حلّ البأس بهم. ولو أراد القرآن الدعاء لقال: فما كان دعاؤهم إذ جاءهم بأسُنا إلا أن قالوا...
اللغة العربية لغة دقيقة، فلكلّ معنى منها لفظ يؤديه بلا بواق. أما الاختلاط الواقع اليوم، بحيث صار الكاتبون لا يفرقون بين الدعوة والدعوى والادعاء، فمأساة عائدة إلى ضعف التعليم والإعلام. وتسييد الضحالة وتسطيح الفكر.
ولله في خلقه شؤون.
المصدر