الفراهيدي ومندليف: (الدوائر العروضية والجدول الدوري للعناصر)
د.عمر خلوف
معلوم أن الكيميائي الروسي (ديمتري مندليف -1907) قام بترتيب العناصر الكيميائة المعروفة حتى زمنه في جدول وفقاً لتركيبها الذرّي، من الأصغر إلى الأكبر، فتنبّه إلى وجود خانات فارغة، قدَّرَ أنها لعناصر لم تكتشف بعد، استطاعَ أن يُقدّرَ شيئاً من صفاتها وخصائصها، مقارنةً بخصائص ما قبلها وما بعدها من العناصر المعروفة. ثم جاءت اكتشافاتُ العلماء مؤكِّدةً بعضاً من نبوءَةِ (مندليف)، وما زال في جدوله العديد من العناصر التي لم تُكتَشَف بعد.
.
وفي عبارة وصفيّة عرَضيّة، شبّهَ العَروضي المِفَنّ (سليمان أبو ستة) دوائرَ الخليل بأنها للوزن العربي كالجدول الدوري للعناصر، لأنّ فيها بحوراً مستعملة، وبعض البحور غير المستعملة.
ومعلومٌ أن التشبيهَ يقتصر -عادةً- على صفةٍ مشتركة بين المشبَّهِ والمشبَّهِ به، لا تجعلُ منهما شيئاً واحداً قط، ويبقى في عمومه مَجازِيّاً، كقولنا: (هو كالبحْر).
.
وقد التقط الأستاذ (خشان خشان) عبارةَ أبي ستّة بشغَف غامر، وراح يتغنّى بها، مؤكداً أن ما فعله الخليل في صياغة دوائره العروضية الخمس كان بمثابة ما فعله (مندليف) في وضعه لجدول العناصر تماماً! بحيث لم يعدْ جائزاً عنده اختراع بحر جديد خارجٍ عن دوائر الخليل، كما لم يَجُزْ اختراعُ عنصرٍ جديد خارجَ جدولِ مندليف!
.
وليسَ أمرُ الدوائر العروضية كأمر الجدول الدوري، وإنْ وقَعَ الشبَه بينها في وجود المستعمَل والمهمَل. فالجدولُ الدوريّ يصفُ عناصرَ كيميائية، ذات أوزان ذرية دقيقة، بينما تصف الدوائر إيقاعات رجراجة، لا تثبت على حالة واحدة، زحافاً وعلّة، يُحمَلُ عليها كلامٌ بَشَري، ولها تعلّقٌ بالحالة الشعورية للشاعر والمتلقي.
.
لقد كانَ مرادُ الخليلِ في وضعِ دوائره أن يجمعَ الأنساقَ التي تشترِكُ في تسلسلها المقطعي، كلّهِ أو بعضِه. فجمعت دائرةُ الوافر بينه وبين الكامل، وجمعت دائرة الهزَج بينه وبين الرمَل والرجَز، وجمعت دائرة الطويل بينه وبين البسيط (والمديد)، وتفردت دائرة المتقارب به، وجمعت دائرة السريع بقية البحور. وذلك على الرغم من الاختلاف الشديد بين إيقاعات بحور الدائرة الواحدة، فشتان ما بين الوافر والكامل، والطويل والبسيط، والسريع والخفيف مما يعرفه كل متذوق لإيقاعات الشعر العربي.
ولقد انتظم للخليل في عمله خمسُ دوائرَ مختلفة، لا جامعَ بينها مطلقاً، ولا فكّرَ رحمه الله في الجمع بينها، فهي بمثابة خمسة جداول دورية لا جدول واحد. وهذا أول اختلافٍ بينها وبين الجدول الدوري للعناصر.
.
ثم لما نظر الخليلُ في تلك الدوائر، وأراد أن يشرحَ طرائقَ انفكاكِ الأوزان منها، ظهر لديه عددٌ من (الأنساق غير المستعملة)، سُمّيت فيما بعد (بالبحور المُهمَلة)، تَبيّنَ أنها جميعَها جثثٌ لا حياةَ فيها، وليس بينها نسَقٌ واحد قابل للاستعمال، وذلك على الرغم من انفكاكها من أنساق مستعملة.
ولم يدَّعِ الخليلُ ذاته أن أنساقَه المهمَلة هي لبحورٍ محتَمَلةٍ لم تُكتَشَف بعد، تنتظر أن يلمسها الشعراء بمحاجنهم السحرية لتَحيا. وهذا هو الاختلاف الثاني بين دوائر الخليل وجدول مندليف.
.
لقد استكمل جدولُ مندليف الناقصَ والمحتملَ من العناصر، بينما أضافتْ دوائرُ الخليل المهمَلَ، بل وجعلتْ بعضَ البحور المستعملة بحوراً مهملة، كأصول المديد والمضارع والمقتضب والمجتث.
.
هذا والله تعالى أعلم
الرياض 21/10/2018م
المصدر