عرض مشاركة واحدة
رقم المشاركة : ( 1 )
 
مصطفى شعبان
عضو نشيط

مصطفى شعبان غير موجود حالياً

       
رقم العضوية : 3451
تاريخ التسجيل : Feb 2016
مكان الإقامة : الصين
عدد المشاركات : 12,782
عدد النقاط : 10
قوة التقييم :
جهات الاتصال : إرسال رسالة عبر Skype إلى مصطفى شعبان
افتراضي من أعلام الأدب في العصر الحديث: (1) محمود سامي البارودي

كُتب : [ 04-24-2017 - 09:38 AM ]


من أعلام الأدب في العصر الحديث
(1)
محمود سامي البارودي 1838-1904م
(شاعر)
[IMG]
[/IMG]
أ- حياته:
لا نكاد نصل إلى أواخر عصر محمد علي حتى تُهلل ربَّةُ الشعر، وتُصفِّق نشوة وطربًا، فقد وُلد في سنة 1838 الشاعر الفذ، الذي كانت تبحث عنه في الأقاليم العربية منذ المتنبي والشريف الرضي ويعييها البحث ويضنيها. وُلد محمود سامي البارودي الذي سيبعث الشعر العربي من سُباته الطويل، ويخلع عنه ثيابه البالية من البديع وغير البديع، ويرد إليه الحياة والنشاط، فيصبح شعرًا ممتعًا يغذي القلب والشعور، ويمنح قارئه لذة فنية حقيقية.
وقد نشأ في وسط ثري؛ إذ ولد لأبوين من الجراكسة، ينتميان إلى المماليك الذين حكموا مصر فترة من الزمن. وكان أبوه من أمراء المدفعية، ثم جعله محمد علي مديرًا لبربر ودنقلة، وظل بهما إلى أن توفي وابنه في السابعة من عمره، فكفله بعض أهله وقاموا خير قيام على تربيته، حتى إذا بلغ الثانية عشرة ألحقوه بالمدرسة الحربية على غرار لداته من الجراكسة والترك. وتخرج فيها سنة 1854 وكانت مصر حينئذ تجتاز دورة بائسة من حياتها الحديثة؛ إذ عطل عباس الأول آلة نهضتها الكبيرة التي أخذت تدور منذ عهد أبيه محمد علي، فأغلق المدارس وسرَّح الجيش إرضاء للدولة العثمانية، وخلفه سعيد، فاحتذاه في كثير من سياسته، وخاصة من حيث الجيش وتسريحه.
فلما تخرج البارودي في المدرسة الحربية لم يجد عملًا؛ ولكنه لم يخلد إلى الراحة؛ بل أخذ توًّا يعمل في ميدان جديد، هو ميدان الشعر العربي، وسُرعان ما تيقظت مواهبه فيه. ونراه يقول إنه ورثه من قِبَل أمه:
أنا في الشعر عريق ... لم أرثه عن كلاله
كان إبراهيم خالي ... فيه مشهور المقاله
وشَعَرَ من أول الأمر أنه لا بد له من التمرين والإعداد، فانكب على صحف الشعر العربي يحاول أن يتخذ لصوته منها سندًا وإطارًا، ولم يعجبه الشعر الرديء الذي كان يعاصره وما يتصل به مما نُظم في عهود الركود القريبة، فانطلق يبحث عن غايته في شعر العصر العباسي وما سبقه في العصرين الجاهلي والإسلامي، ولم يلبث أن وجد طلبته وما يملك عليه لُبَّه، وكلما ازداد قراءة في هذا الشعر القديم ازداد به شغفًا وإعجابًا.
وهذا الطموح الذي جعله يتجاوز ما في عصره من شعر مسف إلى ما في العصور القديمة من شعر خصب رائع هو فرع من طموح واسع في نفس الفتى، وقد دفعه هذا الطموح إلى البحث عن بيئة جديدة غير بيئته، كما بحث في الشعر عن عصر جديد غير عصره، فسافر إلى الآستانة، واشتغل بوزارة الخارجية فيها، وثَقِف هناك آداب اللغتين الفارسية والتركية، ونظم فيهما بعض أشعاره، وظل ينظم في العربية، وأتاحت له مكتبات الآستانة وما فيها من ذخائر الشعر العربي فرصة ذهبية جديدة؛ ليتزود من دواوين العباسيين ومَن سبقوهم من الإسلاميين والجاهليين.
وفي هذه الأثناء زار إسماعيل الآستانة سنة 1863 ليشكر أولي الأمر فيها على تقليده ولاية مصر، فتعرف على البارودي، وقَرُبَ من نفسه، فضمه إلى حاشيته، وأصبحت له مكانة أثيرة عنده، فلما عاد إلى مصر صحبه معه. وأخذ الحظ يبتسم له فعُيِّن في سلاح الفرسان، وما هي إلا فترة قليلة حتى سافر إلى فرنسا مع طائفة من الضباط؛ ليشاهدوا استعراض الجيش الفرنسي السنوي، ولم يكتفوا بذلك فقد عبروا المانش إلى لندن؛ ليشاهدوا بعض الأعمال العسكرية في الديار الإنجليزية.
ورجع إلى وطنه ينعم بما ورث من ثراء وما تغدقه عليه الوظيفة من مال وجاه، وأخذ شعره في هذه الحقبة من حياته يصور متاعه بدنياه وما تجتليه عينه من مشاهد الطبيعة المصرية، كما أخذ يصور ما انطبعت عليه نفسه من الشجاعة والقوة والروح العسكرية. وحدث أن اندلعت ثورة ضد الدولة العثمانية في جزيرة إقريطش "كريت" سنة 1866 ورأى إسماعيل أن يمدها بفرقة مصرية، ورحل البارودي مع الفرقة، وأبلى في حرب الثوار بلاء حسنًا، فكافأته الدولة العلية ببعض أوسمتها، وفي هذه الحرب نظم نونيته المشهورة:
أخذ الكَرى بمعاقد الأجفان ... وهفا السرَى بأعنة الفرسان
ولما أعلنت روسيا الحرب على تركيا سنة 1877 مدت مصر قوسها تساعدها في تلك الحرب، وكان البارودي من خير من رموا عن هذه القوس، فأنعم عليه بأوسمة مختلفة، وتغنى ببلائه حينئذ، ومزج غناءه بشوق وحنين شديد إلى وطنه على نحو ما يرى قارئه في قصيدته:
هو البَيْنُ حتى لا سلامٌ ولا رَد ... ولا نظرة يقضي بها حقه الوَجْدُ
ورجع إلى مصر مرفوع الرأس، فعين مديرًا للشرقية، ثم محافظًا للعاصمة. وكانت الحركة القومية قد أخذت في الظهور، بعامل الصحف وقيام طائفة من المصلحين ينددون بإسماعيل وسياسته المالية الفاسدة وتمكينه للأجانب أن يتدخلوا في شئون الحكم المختلفة، وما رضي به من صندوق الدين والمراقبة الثنائية، ومد البارودي يده إلى القائمين على هذه الحركة تحدوه في ذلك نفسه الطموح، وكأنما حلم برجوع مجد آبائه من المماليك ممثَّلًا في شخصه.
ونزل إسماعيل عن ولاية مصر لابنه توفيق، فحاول في أول الأمر أن يستجيب إلى دعوة المصلحين، فوعد بإقامة الحكم النيابي، وعين البارودي ناظرًا أو وزيرًا للأوقاف، ثم أسند إليه وزارة الحربية. وسرعان ما نكث توفيق عهده للأمة، فلم يُقم لها مجلس الشورى الذي تنتظره، واستقال البارودي، ثم عاد مع وزارة جديدة، ولكن توفيقًا لم يمضِ في طلبات الشعب، فتطورت الأمور. وعُهد إلى شاعرنا بتأليف الوزارة، وثار الجيش بقيادة عرابي ثورته المعروفة سنة 1882 واستعان توفيق بحراب الإنجليز ضد الوطن وجيشه؛ حينئذ انضم البارودي إلى الثورة، وكان مترددًا كما يصور ذلك شعره؛ ولكنه عاد فحزم رأيه. ولما أخفقت الثورة قُدم إلى المحاكمة وحُكم عليه بالنفي إلى "سرنديب"، فظل بها سبعة عشر عامًا وبعض عام، يتغنى بآلامه وغربته وجروحه النفسية. وهناك تعلم الإنجليزية، وأخذ يؤلف مختاراته من الشعر القديم، فجمع لثلاثين شاعرًا عيون قصائدهم وأشعارهم. وأخيرًا صدر العفو عنه في سنة 1900 فعاد إلى وطنه، واتخذ من بيته منتدى للأدباء والشعراء، إلا أن حياته لم تطل به، فقد اختطفه الموت سنة 1904 ولم يكن قد طُبع ديوانه ولا مختاراته فطبعتهما أرملته، وبذلك قدَّمت للأجيال التالية هذين الكنزين النادرين من شعره ومنتخباته.

ب- شعره:
ما قدمنا من حياة البارودي يدل دلالة واضحة على أن مؤثرات كثيرة اشتركت في تكوين شخصيته الأدبية، وكان منها ما ترك أثرًا عميقًا في نفسه، ومنها ما وقف عند السطح والظاهر، فلم يترك أثرًا بعيدًا لا في نفسه ولا في شعره.
وأول ما يلاحظ من ذلك أنه من عنصر شركسي، كان له حكم مصر في وقت من الأوقات، وأورثه هذا العنصر حدة في المزاج وطموحًا واسعًا، وميلًا إلى حياة الحرب والفروسية. وهذا العنصر الوراثي يقابله عنصر عربي مكتسب من قراءاته للشعر القديم، وأضاف إلى هذا العنصر قراءات في الآداب التركية والفارسية، وفي الآداب الإنجليزية أخيرًا، ودعته ظروف حياته العسكرية إلى أن يسافر إلى أوربا ويشهد الحياة الأوربية. وهو بهذا كله يشبه الشعراء العباسيين الذين كانوا يلمون بالثقافات الأجنبية المعروفة لعصورهم، وإن كان من المحقق أنه لم يتأثر في شعره تأثرًا واضحًا بما ألم به من ثقافات غير الثقافة العربية؛ ولكنها -على كل حال- تضيف إلى شخصيته شيئًا جديدًا لا نراه عند معاصريه من الشعراء المصريين.
وليس هذا كل ما يُكوِّن شخصيته الأدبية، فهناك عنصر خطير كان له أعمق الأثر في تكوينه، وهو عنصر البيئة المصرية التي اضطرب في مشاهدها الطبيعية وأحداثها القومية والسياسية، وأثرت هذه البيئة في روحه وكيانه الأدبي؛ بل لقد استبدت به استبدادًا؛ حتى غدا في القرن الماضي شاعر مصر الذي لا يبارَى في تصوير الحياة المصرية من جميع أطرافها المكانية والزمانية.
وإذا أخذنا ننعم النظر في شعره -على ضوء هذه العناصر التي ألفت شخصيته- لاحظنا قوة العنصر العربي المكتسب، وهو عنصر لم يكتسبه بطريق التعلم على أساتذة اللغة والأدب في عصره؛ وإنما اكتسبه بطريق مباشرة؛ هي قراءة النماذج القديمة للعباسيين ومن سبقوهم من الإسلاميين والجاهليين، وما زال يقرأ فيها حتى استقرت في نفسه سليقة الشعر العربي الأصيلة، فصدر عنها في نظمه وشعره.
يقول الشيخ حسين المرصفي عنه في كتابه "الوسيلة الأدبية": "هذا الأمير الجليل ذو الشرف الأصيل والطبع البالغ نقاؤه والذهن المتناهي ذكاؤه لم يقرأ كتابًا في فن من فنون العربية، غير أنه لما بلغ سن التعقل وجد من طبعه ميلًا إلى قراءة الشعر وعمله، فكان يستمع بعض مَن له دراية وهو يقرأ بعض الدواوين، أو يقرأ بحضرته، حتى تصور في برهة يسيرة هيآت التراكيب العربية ومواقع المرفوعات منها والمنصوبات والمخفوضات حسب ما تقتضيه المعاني ... ثم استقل بقراءة دواوين الشعر ومشاهير الشعراء من العرب وغيرهم؛ حتى حفظ الكثير منها دون كلفة، واستثبت جميع معانيها ناقدًا شريفها من خسيسها، واقفًا على صوابها وخطئها، مدركًا ما ينبغي وفق مقام الكلام وما لا ينبغي، ثم جاء من صنعة الشعر باللائق بالأمراء".
ومعنى ذلك أنه لم يستنَّ سنة معاصريه من تعلم النحو والعروض والبديع حتى يُحسن نظم الشعر؛ وإنما استن سنة جديدة صحح بها موقف الشعر والشعراء، فردهم إلى الطريقة القديمة، أو بعبارة أدق: ارتد هو إلى تلك الطريقة، ونقصد طريقة الرواية التي كان يتلقن بها الشاعر الجاهلي والأموي أصول حرفته.
وكان هذا حدثًا خطيرًا في تاريخ شعرنا الذي تدهور إلى أساليب غثة مكسوة بخرق البديع البالية، تُكرَّرُ في صور من الهذيان على كل لسان. فأزال البارودي من طريقه هذه الأساليب، واتصل مباشرة بينابيع الشعر العربي القديمة في العصر العباسي وما قبله من عصور، ولم يلبث أن أساغها وتمثلها تمثلًا دقيقًا، فقد أُشْربتها روحه، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من شعره وفنه.
وواضح من ذلك أن مذهبه الفني لم يكن يقوم على نبذ القديم كله؛ وإنما كان يقوم على نبذ صورة خاصة هي صورة الشعر الغث الذي ينتجه عصره والعصور القريبة منه، أما الشعر العباسي وما سبقه فينبغي للشاعر ألا يَنْبذه؛ بل عليه أن يسير في دروبه ويصب على صيغه وقوالبه. وكان هذه الاتجاه يعد ثورة في عصره؛ لأنه خروج عن مألوف معاصريه، وعَوْدٌ بهم إلى أساليب لا يعرفونها ولا يألفونها، وكانت قد فسدت أذواقهم فأصبحت لا تقدرها قدرها ولا تشعر بما فيها من متاع وجمال.
أما البارودي فقد شعر بهذا المتاع والجمال إلى أبعد حد، وانطلق يصوغ شعره على طريقة العباسيين ومن سبقوهم، واتخذ ذلك مذهبًا له، وأعلنه في صراحة واضحة، فكان يحاكي الشعراء القدماء ويعارضهم من مثل: النابغة وبشار وأبي نواس والمتنبي وأبي فراس والشريف الرضي، وأتيح له أن يتفوق في أكثر معارضاته.
وهذا هو مذهبه الفني؛ بَعْثُ الأسلوب القديم في الشعر وتعمد إحيائه، وهو لا يموه في ذلك ولا يكذب؛ بل يصرح به ويدعو الشعراء إلى تقليده، ولعل من الطريف أن الشعر حين انفك عنده من الأساليب التي عاصرته أخذ يعبر في حرية عن مزاج الشاعر ونفسيته وكل ما يتصل به من أحداث.
فالبارودي إنما يستعير من القدماء إطارهم الذي يقوم على قوة الأسلوب وجزالته؛ ولكنه يملأ هذا الإطار بروحه وبشخصيته، وكأنها خاتم يطبع على كل مأثور له اسمه. ومن هنا يأخذ مكانته في الشعر العربي الحديث، فقد رد إليه متانته ورصانته، وفرض عليه نفسه وبيئته وعصره؛ بحيث أصبح شعرًا حيًّا يصور منشئه وقومه تصويرًا بارعًا.

رد مع اقتباس