عرض مشاركة واحدة
 
 رقم المشاركة : ( 2 )
مصطفى شعبان
عضو نشيط
رقم العضوية : 3451
تاريخ التسجيل : Feb 2016
مكان الإقامة : الصين
عدد المشاركات : 12,782
عدد النقاط : 10
جهات الاتصال : إرسال رسالة عبر Skype إلى مصطفى شعبان

مصطفى شعبان غير موجود حالياً

   

افتراضي

كُتب : [ 04-24-2017 - 09:44 AM ]


ويستطيع القارئ أن يقرن ما قدمناه عن حياة البارودي الخاصة والعامة إلى ديوان فسيراها مرسومة فيه رسمًا دقيقًا بكل جزئياتها وتفصيلاتها، فحياته الأولى قبل الثورة العرابية وما ارتبط بها من نعيم العيش ورغده مصورة أوضح تصوير، فهو يصف لهوه ومرحه ومُتعه، كما يصف بيئته المصرية وما فيها من مشاهد الطير والأشجار والنبات، وله في ذلك طرائف كثيرة؛ كقوله في القطن وهو على سوقه:
القطن بين مُلوِّز ومنور ... كالغادة ازدانت بأنواع الحلَى1
فكأن عاقده كُرات زمرد ... وكأن زاهره كواكب في الروَا2
دبت به روح الحياة فلو وهت ... عنه القيود من الجداول قد مشى3
فأصوله الدكناء تسبح في الثرى ... وفروعه الخضراء تلعب في الهوا4
لم يَسْرِ فيه الطرف مذهب فكرة ... محدودة إلا تراجع المنى5
ويشترك في حروب الدولة العثمانية فيصف وقائعها وصفًا دقيقًا تسعفه مخيلة ماهرة في التقاط المرئيات، وعاطفة حماسية ملتهبة. وبذلك يعيد لنا فن الحماسة القديم الذي عَفَّى عليه الزمن؛ إذ ينفخ فيه حياة وروحًا جديدة.
وكان في قرارة نفسه يستشعر مجد آبائه المماليك الذين حكموا مصر، كما كان يستشعر مجد وطنه وما كشف علم الآثار المصرية من هذا المجد،
__________

1 الغادة: المرأة الشابة الجميلة.
2 العاقد: لوز القطن قبل تفتحه، والزاهر: الأبيض المشرق، والروا: حسن المنظر.
3 يقول: إن روح الحياة سرت فيه، ولولا مياه الجداول التي تمسك به لمشى.
4 الدكناء: الضارب لونها إلى السواد.
5 مذهب فكرة محدودة: مقدار جولة الفكر المحدودة، ويريد اللمحة، يقول: إنه كلما لمح هذا النبات رأى فيه ما يحقق آماله.

_____________________
وصور هذا الشعور في قصيدة وصف بها الهرمين، وهي أول قصيدة حديثة في آثارنا الفرعونية، ومما يقول فيها:
سل الجيزة الفيحاء عن هرمَيْ مصر ... لعلك تدري بعض ما لم تكن تدري
بناءان ردا صولة الدهر عنهما ... ومن عجب أن يغلبا صولة الدهر
أقاما على رغم الخطوب ليشهدا ... لبانيهما بين البرية بالفخر
فكم أمم في الدهر بادت وأعصر ... خلت، وهما أعجوبة العين والفكر
وبينهما بلهيب في زي رابض ... أكب على الكفين منه إلى الصدر1
مصانع فيها للعلوم غوامض ... تدل على أن ابن آدم ذو قدر
وتدعوه الحركة القومية، فيلبي الدعاء، ويأخذ في نظم شعره السياسي الذي يدعو فيه إلى الإصلاح والأخذ بنظام الشورى، ويزداد للدعوة حمية، فيطالب بتغيير الساسة ومن في يدهم الحكم لعهد إسماعيل، ويندفع في ثورة قوية، ملوحًا بأمله في أن يصير الأمر له، فمن ذلك قوله من قصيدة طويلة:
لكننا غرض للشر في زمن ... أهل العقول به في طاعة الْخمَل2
قامت به من رجال السوء طائفة ... أدهى على النفس من بؤس على ثَكَل3
ذلت بهم مصر بعد العز واضطربت ... قواعد الملك حتى ظل في خلل
وأصبحت دولة الفسطاط خاضعة ... بعد الإباء وكانت زهرة الدول4
فبادروا الأمر قبل الفوت وانتزعوا ... شكالة الريث فالدنيا مع العجل5
وقَلِّدوا أمركم شهمًا أخا ثقة ... يكون ردءًا لكم في الحادث الجلل6
يجلو البديهة باللفظ الوجيز إذا ... عز الخطاب وطاشت أسهم الجدل
__________

1 بلهيب: أبو الهول.
2 الخمل: جمع خامل.
3 الثكل: فقد الولد.
4 دولة الفسطاط: دولة مصر.
5 الشكالة: قيد الدابة، والريث: الإبطاء.
6 الردء: العون، والجلل: الخطير.

_________________
ويظله عهد توفيق، ويتولى الوزارة، فلا يخمد ما في نفسه من آمال؛ بل تزداد توهجًا واشتعالًا، وينضم إلى عرابي مع غيره من الثوار منشدًا مثل قوله:
فيا قوم هبوا إنما العمر فرصة ... وفي الدهر طرق جمة ومنافع
أرى أرؤسًا قد أينعت لحصادها ... فأين ولا أين السيوف القواطع1
وتخفق الثورة، ويَصْلى البارودي نار أعدائها بعد الإخفاق، فيُحاكم ويُنفى إلى سرنديب، ويتحول إلى دورة بائسة في حياته، ويتحول معه شعره، فيفيض بالألم والشكوى والشوق والحنين إلى وطنه، ويرثي من يموت من أهله، وكأنه يرثي نفسه. ومرثيته في زوجه الأولى:
أيد المنون قدحت أي زناد ... وأطرت أية شعلة بفؤادي2
سيل لاذع من الحزن والشجى والتفجع المرير. ويعود إلى وطنه، فيفرح فرحة الطائر ينطلق من قفصه، وينشد قصيدته:
أبابل مرأى العين أم هذه مصر ... فإني رأى فيها عيونًا هي السحر
وعلى هذه الشاكلة كان البارودي يصور نفسه وبيئته ووطنه وما مر به من أحداث تصويرًا صادقًا. ومن تمام هذا الصدق فيه شعوره الدقيق بعصره لا بأحداثه فحسب؛ بل أيضًا بمخترعاته، وكان يُجريها في تشبيهاته واستعاراته كقوله في الغزل:
وسرت بجسمي كهرباءة حسنه ... فمن العروق به سلوك تخبر
وبما قدمنا كله كان البارودي أول المجددين في الشعر العربي الحديث، وهو تجديد كان يقوم عنده على أصلين: بعث الأسلوب القديم في الشعر؛ بحيث تعود إليه جزالته ورصانته، وتصوير الشاعر لنفسه وقومه وبيئته وعصره تصويرًا مخلصًا صادقًا.

__________
1 أينعت: أدركت وحان قطافها.
2 المنون: الموت، والزناد: حجر تقدح به النار.
__________
مصدر ترجمة البارودي:
الأدب العربي المعاصر في مصر
المؤلف: أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف (المتوفى: 1426هـ)
الناشر: دار المعارف
الطبعة: الثالثة عشرة
عدد الأجزاء: 1

رد مع اقتباس