عرض مشاركة واحدة
 
 رقم المشاركة : ( 2 )
مصطفى شعبان
عضو نشيط
رقم العضوية : 3451
تاريخ التسجيل : Feb 2016
مكان الإقامة : الصين
عدد المشاركات : 12,782
عدد النقاط : 10
جهات الاتصال : إرسال رسالة عبر Skype إلى مصطفى شعبان

مصطفى شعبان غير موجود حالياً

   

افتراضي

كُتب : [ 05-10-2017 - 12:07 PM ]


يا شباب العرب! لم يكن العسير يعسر على أسلافكم الأولين، كأن في يدهم مفاتيح من العناصر يفتحون بها. أتريدون معرفة السر؟ السر أنهم ارتفعوا فوق ضعف المخلوق، فصاروا عملًا من أعمال الخالق. غلبوا على الدنيا لما غلبوا في أنفسهم معنى الفقر ومعنى الخوف والمعنى الأرضي، وعلمهم الدين كيف يعيشون باللذات السماوية التي وضعت في كل قلب عظمته وكبرياءه، واخترعهم الإيمان اختراعًا نفسيًّا، علامته المسجلة على كل منهم هذه الكلمة: لا يذل. هكذا اخترع الدين إنسانه الكبير النفس الذي لا يقال فيه: انهزمت نفسه.
يا شباب العرب! كانت حكمة العرب التي يعملون عليها: "اطلب الموت تُوهَبْ لك الحياة". والنفس إذا لم تخشَ الموت كانت غريزة الكفاح أول غرائزها تعمل. وللكفاح غريزة تجعل الحياة كلها نصرًا؛ إذ لا تكون الفكرة معها إلا فكرة مقاتلة. غريزة الكفاح يا شباب هي التي جعلت الأسد لا يسمَّن كما تسمن الشاة للذبح. وإذا انكسرت يومًا فالحجر الصلد إذا تَرَضْرَضَتْ منه قطعة كانت دليلًا يكشف للعين أن جميعه حجر صلد.
يا شباب العرب! إن كلمة "حقي" لا تحيا في السياسة إلا إذا وضع قائلها حياته فيها. فالقوة القوة يا شباب! القوة الفاضلة المتسامية التي تضع للأنصار في كلمة "نعم" معنى نعم، القوة الصارمة النفاذة التي تضع للأعداء في كلمة "لا" معنى لا.
يا شباب العرب! اجعلوا رسالتكم: إما أن يحيا الشرق عزيزًا وإما أن تموتوا".
ودائمًا ينفخ في روح الشباب المصري، موقظًا فيه حميته لوطنه، حتى ينقض كالأسد الكاسر على الإنجليز ويذيقهم وبال استعمارهم، إن كل مصري ينبغي أن يتحول شعلة آدمية تأتي عليهم كأن لم يكونوا شيئًا مذكورًا. إنه لم يبقَ لهم إلا لحظات وأنفاسها، فقد اتقدت الشعل، وسيرون عما قريب مسها وتحريقها، ويومها يولون على أعقابهم نادبين مولولين. واقرأ له في ذلك مقالاته: "أجنحة المدافع المصرية" و"الطماطم السياسي" و"المعنى السياسيفي العيد" يقول: "ليس العيد إلا إشعار هذه الأمة بأن فيها قوة تغيير الأيام، لا إشعارها بأن الأيام تتغير ... ألا ليت المنابر الإسلامية لا يخطب عليها إلا رجال فيهم أرواح المدافع لا رجال في أيديهم سيوف من خشب".
وتشغله في كثير من مقالاته قضية المرأة، ونراه يقدم لها النضج دائمًا بروح المسلم المحافظ على تقاليده الدينية. واسترعته حياتها الجديدة على شوطئ الإسكندرية صيفًا، فوصف هذه الحياة في مقالين بعنوان "لحوم البحر" و"احذري" أدارهما على أنشودتين لشيطان وملاك، لاعنا للرذيلة وداعيا إلى الفضيلة، ومحذرًا المرأة من أن تُخدع عن نفسها وتتعرى من ثيابها أمام الصقور الجائعة، فتجلب على نفسها العار الذي يزلزل كيان أسرتها زلزالًا عنيفًا.
ويفسح في مقالاته لآلام البؤساء والمشرَّدين وأسقامهم، ويئن بصوت الإنسانية الرحيم، حتى لكأنه المشرد أو البائس الذي يصفه، وتتدفق عليه أنات البشرية وعبراتها من كل صوب. ومن خير ما يصور ذلك عنده مقالته "أحلام في الشارع" وفيها يصور بؤس طفل مشرد وأخته رآهما نائمين على عتبة "بنك" يفترشان الرخام البارد ويلتحفان السماء، فأَنَّ وأعول في أنينه. وبهذا الشعور الرقيق نراه يصف جمال الطبيعة في غير مقال، فيكسبها من روحه جمالًا فوق جمالها، ويزيدها بصناعته حسنًا فوق حسنها، يقول في مقالة بعنوان الربيع:
"في الربيع تظهر ألوان الأرض على الأرض، وتظهر ألوان النفس على النفس، ويصنع الماء صنيعه في الطبيعة، فتخرج تهاويل النبات، ويصنع الدم صنيعه، فيخرج تهاويل الأحلام. ويكون الهواء كأنه من شفاه متحابة، يتنفس بعضها على بعض. ويعود كل شيء يلتمع لأن الحياة كلها ينبض فيها عرق النور. ويرجع كل حي يغنِّي؛ لأن الحب يريد أن يرفع صوته".
ونراه في بعض مقالاته يصور مُثله الخاصة في الشعر. وأكبر الظن أنه قد اتضحت لنا شخصية الرافعي في مقالاته وأدبه بكل خصائصها الروحية والعقلية واللغوية، فقد كان يؤمن بِمُثُل الإسلام والعروبة والوطنية، وكان يحس كلما حوله من طبيعة وغير طبيعة. وقد استطاع أن يمتلك ناصية اللغة وأن يصرف ألفاظها في يده كما يشاء. وأعانته على ذلك كله عزلة ضربها الصَّمَم من حوله، فإذا هو يخلص لعالمه الباطني، يغوص فيه على المعاني الدقيقة فيبرزها. وكان لا يزال يتعمقها حتى يحدث فيها ضربًا من الفلسفة المنطقية، وكان ذلك من أهم الأسباب في غموضه والتوائه أحيانًا.
والذي لا شك فيه أنه كان يكتب في حذر شديد، فهو لا يكتب كل ما يفد على ذهنه؛ بل ما زال ينتخب ويختار، ينتخب المعاني ويختار الألفاظ محتاطًا في ذلك أشد الاحتياط. وكأنه لم يكن يريد أن يكون أديبًا فحسب؛ بل كان يريد أن يكون أديبًا ممتازًا بفكره العميق وعبارته الدقيقة، ومن ثم آثر في أدبه ومقالاته الجهد العنيف والعناء الشاق، حتى يصبح حقًّا من راضة المعاني وصاغة الكلام.
____________
المصدر: الأدب العربي المعاصر في مصر
المؤلف: أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف (المتوفى: 1426هـ)
الناشر: دار المعارف
الطبعة: الثالثة عشرة
عدد الأجزاء: 1
ص:242

رد مع اقتباس