عرض مشاركة واحدة
رقم المشاركة : ( 1 )
 
مصطفى شعبان
عضو نشيط

مصطفى شعبان غير موجود حالياً

       
رقم العضوية : 3451
تاريخ التسجيل : Feb 2016
مكان الإقامة : الصين
عدد المشاركات : 12,782
عدد النقاط : 10
قوة التقييم :
جهات الاتصال : إرسال رسالة عبر Skype إلى مصطفى شعبان
افتراضي سطور في كتاب (34): من كتاب عناية المسلمين باللغة العربية خدمة للقرآن الكريم للعايد

كُتب : [ 06-09-2017 - 06:47 AM ]


بيان تلازم علوم القرآن وعلوم العربيّة
من عناية المسلمين باللغة العربية خدمة للقرآن الكريم للدكتور سليمان العايد


لم يمرّ بالعربيّة حدثُّ أعظم من الإسلام، ونزول القرآن على محمّد صلى الله عليه وسلم، فقد صيَّر هذا الحدث العربيَّةَ لغة مرغوباً فيها، لا لنفوذها السياسيِّ، ولا لسبقها الحضاريّ، وإنّما لمكانتها الدينيّة؛ إذ تسامى أهل البلاد المفتوحة إلى درس العربيّة، والعناية بها، من أجل تحقيق العبادة، ومن أجل تلاوة القرآن، ومن أجل فهم النصوص الشرعية، فكان من جرَّاء ذلك نشأة علوم العربية من نحو وصرف، ولغة ومعجم، وأدب وبلاغة، كُلّ ذلك وُجِدَ ليقومَ عليه درسٌ للعربيّة قويّ.
وصار هذا الأمر في حسِّ المسلم عقيدةً وواجباً شرعيّاً، لا يختلف في ذلك من لغته العربيّة، ومن لغته غير العربيّة، وصارتْ لغة القرآن وما داناها من لغةٍ لغةً وهدفاً يتسامى إليه أهل الإسلام، وتَشْرَئِبُّ إليه أعناقهم، وتتطاول إليه هاماتهم، وعدوا القرآن نموذجاً أعلى للبيان العربيّ، فأقبلوا عليه يبحثون عن وجوه بيانه، وأسرار إعجازه، ممّا كان سبباً في نشأة علوم العربيّة.
إنّه لولا القرآن، ولولا الإسلام لم يكن هناك عربيّةٌ كما نرى، أو لبقيَتْ العربيَّةُ لغة فئةٍ معزولةٍ عن العالم، تعيش في صحرائها، يزهد فيها العالم، ويرغب عنها إلى غيرها، غير أنَّ الإسلام نقل العربيّة إلى بُؤْرة الاهتمام العالميّ، وجعل لها الصدارة، اهتماماً، وتعلّماً، يطلبها العربيُّ وغَيْره، ويغار عليها كل مسلم، ويتمنّى أن يتقنها كُلّ مُصَلٍّ، ذلك أنّها تحلّ في قلبِ كلّ مسلم في أعلى مكانٍ منه، وهي أجلّ وأكبر لديه من كل لسانٍ، وكل لغة.
دخل الناس في الإسلام، وانقادوا له راغبين أو خاضعين، فتعلّموا لسانه، ورأوا أنه لا يتمُّ لهم دينٌ إلاّ بلغته، فبادروا إلى خدمتها، والعنايةَ بها، كما بادروا إلى حفظ القرآن والسُّنَّة، ودرس التفسير والحديث، ومعرفة أصول الدين والفقه، بل جعلوا اللسان العربيّ بوّابة إلى هذه العلوم،
لا يولج إليها إلاّ به، بل نسي كثيرٌ أن له لغةً غير العربيّة، وانصرف فكره إليها، حتّى إنّ بعضهم ما كان يطيب له أن يذكر لغته الأولى وقد أكرمه الله باللسان العربي، فضلاً عن أن يقارن تلك اللغة بلسانه الجديد.
وفرغت فئاتٌ من المسلمين من غير العرب، من الموالي لخدمة اللسان العربيّ في مستوياته المختلفة: الصوتيّ، والصرفي، والتركيبي، والدلاليّ، لم يقتصر أمره على ما ورد به استعمال القرآن أو السُّنَّة، بل جاوزه إلى جمع اللغة، وإحصاء شاردها ونادرها، وحصر غريبها وشاذّها، في جهدٍ لم يتحقّق للغةِ من اللُّغاتِ، وعملٍ لم يحظ به لسانٌ من الأَلْسِنةِ، حتّى رأينا من مصنّفات العربية الشيء العجاب، ألّفه أو اكتتبه قومٌ ليسوا من أهلها نسباً، ولكنهم منهم ولاءً وحُبّاً.
أقبلت الأمّة على كتاب ربّها، وأكبّت عليه حفظاً، ودرساً، وفهماً لمعانيه، وتقيُّداً بأحكامه، وميزاً لألفاظه ومبانيه، ومعرفة لطرائق رسمه، وإسناد قراءاته، وكان لعلماء العربيّة اليدُ الطولى في خدمة القرآن، في ميادين متنوّعة، في رسمه وضبطه، ومعانيه وقراءاته، وأبنيته وألفاظه، وبلاغته وإعجازه، بل لا أبالِغُ إذا قلتُ: إنّ علوم العربية لولا القرآن ما كانت، ولا كان للعربية شأن، ولبقيت محصورةً في صحرائها القاحلة، وجزيرتها العازبة عن حياة الحضارة والمدنيّة، ولبقي أهلها على شائهم ونَعَمِهم، يتتبعون من أجلها مواقع القطر، ومنازِلَ الغيث، ويعنون بما يرتبط بهذه الحياة البسيطة، من علمٍ بالأنواء والمنازل، والأفلاك والأبراج، والريح وأوقات هبوبها، لا يجوزون هذا إلاّ إلى معرفة أنسابهم، والفخر بأحسابهم، والتمدّح بفعالهم، وإلا قول الشعر، وارتجال الخطب، وحفظ ما استجادوا من ذلك، وإلاّ نُتفاً من حِكَمٍ وأمثالٍ، تهديهم إليها تجاربهم في الحياة، لا هَمَّ لهم وراء ذلك، ليلٌ ينجلي، ونهارٌ يتجلَّى:
"ليلٌ يكرُّ عليهم ونهارُ"
في دورةٍ فلكيّة مكرورةٍ، فسبحان من غيَّر هذه الأُمَّة لتكون كما قال ابن فارسٍ: " كانت العربُ في جاهليتها على إرثٍ من إرثِ آبائهم في لغاتهم، وآدابهم، ونسائكهم، وقرابينهم، فلمّا جاء الله (جلَّ ثناؤه) بالإسلام حالتْ أحوالٌ، ونُسِخَتْ دياناتٌ، وأُبْطِلت أمورٌ، ونُقِلَتْ من اللُّغة ألفاظٌ عن مواضع إلى مواضع أخر، بِزياداتٍ زيدتْ، وشرائع شُرِعَتْ، وشرائط شُرِطت، فعفَّى الآخِرُ الأوّلَ، وشُغِل القوم - بعد المغاورات والتجاراتِ، وتطلّب الأرباح، والكدح للمعاشِ في رحلة الشتاء والصّيف، وبعد الإغرام بالصيد والمعاقرة والمياسرة - بتلاوة الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيم حميد، وبالتفقُّه في دينِ الله عز وجلّ وحفظ سُنَنِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مع اجتهادهم في مجاهدة أعداء الإسلام.
فصار الذي نشأ عليه آباؤهم، ونشؤوا هم عليه كأن لم يكن، وحتّى تكلّموا في دقائقِ الفقه، وغوامض أبواب المواريث وغيرها من علم الشريعة، وتأويل الوحي بما دُوّن وحفظ. فسبحان من نقل أولئك في الزمن القريب بتوفيقه عمّا ألفوه، ونشؤوا عليه، وغُذوا به، إلى مثل هذا الذي ذكرناه" .
هذا فِعْل الإسلام بأمَّةِ العرب، أمّا غيرهم فهم كما قال أبو حاتم:
"أقبلتِ الأمم كُلّها إلى العربيّة يتعلّمونها رغبةً فيها، وحرصاً عليها، ومحبَّة لها وفضلاً أبانه الله فيها للناس، ليبيِّن لهم فضلَ محمّد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وتثبُت نبوَّته عندهم، وتتأكّد الحُجَّة عليهم، وليظهر دين الإسلام على كُلِّ دينٍ؛ تصديقاً لقولِه (عزَّ وجلَّ) حيثُ يقولُ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] .
ولو ذهبنا نَصِفُ اللُّغاتِ كُلَّها عجزنا عن تناول ما لم يُعْطَه أَحَدٌ قبلنا، ولكنّا نذكر من ذلك على قدر المعرفة، ومقدار الطاقةِ، ونتكلَّم بما علمنا منه محبَّةً لإيرادِ فَضْلِ لغة العرب؛ إذْ كان فيه إظهار فضيلة الإسلام على سائر الملل، وإبراز فضل محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياءِ والرسل عليهم الصلاة والسلام، وإن كان ذلك ظاهراً بنعمة الله، بارزاً بحمد الله؛ لأن دين الإسلام عربيّ، والقرآن عربيّ، وبيان الشرائع، والأحكام، والفرائض، والسنن بالعربية" .
لولا الإسلام، والقرآن لم تحظَ اللُّغةُ العربيَّةُ بما حظيَتْ به من خدمةٍ، بتدوين علومها، وتبويب مسائلها، وتتابع أجيالٍ فأجيالٍ على النظر فيها جمعاً، وتأليفاً، وتقعيداً، وبحثاً عن أوجه جمالها، وإعجاز قرآنها، وتمجيداً لها وتعظيماً، ليس من أبنائها ذوي الأعراق العربيّة، وإنما من أبنائها ذوي الأصول الأعجمية، ممّن كانت لغتهم الأُمّ أو الأولى غير العربيّة؛ إذ من المعروف أن عدداً غير قليل من أبناء الشعوبِ الإسلامية انتحلوا العربيّة، فصارت لغتهم ولسانهم، وتناسوا بل هجروا لغتهم الأُمَّ، وكتبوا في تمجيد العربية، وبيان فضلها، والتعصُّب لها ما لم يكتبه قلمٌ من صليبةٍ عربيَّةٍ، ولنا أن نمثِّل في هذا السياقِ بجمهرةٍ من علماء العربية وغيرهم من مثل أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255هـ‍) وأبي حاتم الرازي (ت 322 هـ‍) وأبي علي الفارسي (ت 377هـ‍) وأحمد بن فارسٍ (ت 395) وأبي حيَّان التوحيدي (ت 414هـ‍) . وكانوا جميعاً من أعراقٍ غير عربيّة، ولم تمنعهم تلك الأعراق عن الإشادة بالعربيّة تمجيداً لها وتعظيماً، وتفضيلاً وتقديماً، ليس لهم دافع إلاّ أنهم مسلمون، قرؤوا القرآن، ورأوا ما فيه من أوجه البيان، وسر النظم، ودلائل الإعجاز، ورأوا أن لُغةً اختيرتْ لهذا الكتاب لم يكن اختيارها عبثاً؛ لأنّ الاختيار من رَبِّ العالمين، ذي الخلق والأمر، اختص بالرحمة وقسمتها، كل شيءٍ عنده بحكمةٍ ومقدار، يخلُقُ ما يشاءُ ويختار ما يشاء، له الحكمة البالغة في ذلك.
وقد حمل نزول القرآن باللغة العربية طائفةً أن يجعلوه دليل فضلها على سائر اللغات، نجد ذلك في مثل قول أبي حاتمٍ الرَّازيّ (ت 322هـ‍) :
"فأفضل ألسنة الأمم كلها أربعة: العربية، والعبرانية، والسريانية، والفارسية؛ لأن الله (عزّ وجلّ) أنزل كتبه على أنبياء (عليهم السلام) آدم، ونوح، وإبراهيم، ومن بعدهم من أنبياء بني إسرائيل بالسريانية والعبرانية، وأنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بالعربية، وذكر أن المجوس كان لهم نبيٌّ وكتابٌ، وأنّ كتابه بالفارسيّة، هذا ما اتّفق عليه أصحاب الشرائع" .
وقد جعل الرّازي العربيّة أفضل اللغات الأربع، وأفصحها، وأكملها، وأتمّها، وأعذبها، وأبينها، وجعل حرص النّاس على تعلّم العربية علامة فضلها، ونقل الكتب السماوية المنزلة بغير العربية إلى العربية، ونقل حكمة العجم إليها، وما في كتب الفلسفة، والطب، والنجوم، والهندسة، والحساب من اليونانية والهندية إلى العربيّة وجهاً آخر لفضلها، في حين لم يرغب أهل القرآنِ والكتاب العربيّ في نقله إلى شيءٍ من اللُّغات، ولا قدر أحدٌ من الأمم أن يترجمه بشيء من الألسنة ... بل تعذَّر عليهم لكمال العربيّة، ونقصان غيرها من سائر اللغات .
وقد قال نحواً من هذا ابن فارس، بل لعلّه اقتفاه في أن الترجمة الحرفية للقرآن متعذّرة، وأنه لا يمكن إلا أن يحال القرآن إلى عبارةٍ سهلة، تخلو من سمات لغة الأدب، ثم يترجم معناها فيما بعد، ومثل لهذا بمثل قوله: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] )) .
ولابن فارس كلامٌ نحو هذا، ينحو إلى تفضيل العربية على غيرها لنزول القرآن بها، في كتابه (الصاحبي في فقه اللغة العربية وسنن العرب في كلامها) ، وهو كتابٌ ينضح بالتمجيد والتعظيم، وبيان فضل العربيّة على غيرها من اللُّغات، ممّا يعدُّه بعضٌ تعصُّباً غير مقبول، وهو من وجهة نظرنا عمل عظيم، خاصَّةً إذا علمنا حقيقة البيئة المحيطة بابن فارسٍ، وهي بيئةٌ تدعو لإحياءِ المجد الفارسيّ، وإحياء اللّغة الفارسيّة، حتّى إنّ الفارسية الحديثة كان تأسيسها في عصر ابن فارسٍ، وقد سار على نقيض قومه.
وابتدأ هذا التمجيد بتقرير أنّ العربيّة توقيفٌ من عند ربِّ العالمين، ولم يسم لغةً أخرى بهذه السِّمة، وكأنّه يرى أنّ هذه ميزةٌ انفردت بها العربيّة عن لغات العالم، فكانت العربيّة وحياً حُفِظ حتّى نزل بها القرآن، فانضمَّ الوحي إلى الوحي، وهذا كأنّه يقول فيه كما أنّ للعرب وأتباعهم ديناً امتاز عن غيره بأنه وحيٌّ مصون، لم تمسَّه يد التغيير، فإنّ للعرب أيضاً لغةً مصونةً مرعيَّةً برعاية الله، صانتها عن التغيير والابتذال، ورقت في مراقي المجد والسُّموّ، يحفظها ربُّها ويهيّؤها، وهي أعلى لغةٍ، لنزول أعلى كتابٍ بها، وأعظم دين، وخاتم الأديان، الإسلام، هذا كلام لا يعسُرُ عليك استنباطه من كلامه. وابن فارسٍ يتوسع في التوقيف، فيرى أن العربيّة توقيف في ألفاظها، وأصواتها، وأبنيتها، وتراكيبها، وأساليب بيانها، بل كتابتها وخطها، وعلومها من إعرابٍ، وعروض ، حتى إنّه عدّ ما ذكره من أصول وقياسٍ توقيفاً كما عقد باباً لبيان أنّ ((لغة العرب أفضل اللُّغات وأوسعها)) ، صدّره بقوله تعالى {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192-195] فوصفه (جلّ ثناؤه) بأبلغ ما يوصَفُ به الكلام، وهو البيان .
وهو بيانُّ متميِّزٌ لا يقتصر على مجرَّدِ الإبانةِ، وإنّما يتجاوزُ ذلك إلى قيمٍ كلامية وتعبيريّة، قلّ أن تتوافر في غيرِ العربيّة، ممّا يُعْجِزُ النَّقَلة عن نقل القرآنِ إلى لغاتهم بدرجة بيانه العربي. وهذه سمةٌ ليسَتْ مقصورةً على القرآنِ، بل هي في الكلام العربيِّ كُلِّه، جاهليِّه وإسلاميِّه، لكنّها تجلَّت أكثر في كلام ربِّ العالمين، القرآن المجيد، حتى قال ابن فارسٍ: "إنّ كلام الله (جَلَّ ثناؤه) أعلى وأرفع من أن يضاهى، أو يقابل، أو يعارضَ به كلامٌ، وكيف لا يكون كذلك، وهو كلام العليِّ الأعلى، خالق كُلِّ لغةٍ ولسان، لكنّ الشعراء قد يومئون إيماءً، ويأتون بالكلام الّذي لو أراد مُريدٌ نَقْلَه لاعتاص، وما أمكن إلاّ بمبسوطٍ من القولِ، وكثيرٍ من اللّفظ" . ثمّ ذكر نماذج من الشعر وكلام العرب . ثمّ ذكر شيئاً ممّا جعله خصائص للعربية من القلب، وعدم الجمع بين الساكنين، والحذف، واختلاس الحركات، والإضمار، والترادف، ثمّ ختمه بقوله: (فأين لسائر الأمم ما للعرب؟!) .
ولم يقف به الأمر عند تمجيد العربيّة وتفضيلها، بل جاوز إلى بيان ما اختصّت به العربُ كالإعراب الفارق بين المعاني المتكافئةِ في اللّفظ، وعنايتهم بالشعر والعروض. مع حفظ الأنساب، والطهارة، والنزاهة عن الأدناس التي استباحها غيرهم من مخالطة ذوات المحارم .
وقد بلغت العربية - كما يرى ابن فارسٍ - غاية كمالها بعد مجيء الإسلام، وتنزُّل القرآن، فجدّت في العربيّة ألفاظ ومعانٍ، وزالت ألفاظ لزوال معانيها، ونقلت ألفاظٌ عن معانيها إلى معانٍ أخرى، كراهةً لأصل معناها، أو تأدُّباً، أو اقتفاءً لأمر الشرع، وقد هذَّب الإسلام ألفاظ العربيّة، ووجَّه العربَ لاختيار أسماء أولادهم .
وقد ارتبطت العربية بالقرآن بأوثق رباط، حتى إنه ليعسر على الدارس الفصل بينهما، قال الرافعي: "إنّ هذه العربية، لغة دينٍ قائم على أصلٍ خالدٍ، هو القرآنُ الكريم، وقد أجمع الأوّلون والآخرون على إعجازه بفصاحته، إلاّ من حَفلَ به من زنديقٍ يتجاهل، أو جاهلٍ يتزندَقُ" .
والقرآن هو الذي أخرج فصحاء الأدب العربيّ وبلغاءه من أمثال ابن المقفّع، ولولا القرآن والحديث، وكتب السلف وآدابهم لم يخرج أمثاله .
ويحاول غير المسلمين بوعي، ومرضى القلوب بغير وعيٍ أن يعزلوا المسلمين عن قرآنهم ولُغته، حتّى عاب بعضهم على الرافعي أسلوبه، واقترح عليه ترك الجملة القرآنية، ويعنون بها اللغة العالية، والأسلوب الراقي، الذي يسمو بصاحبه إلى لغة القرآن، وأسلوبه، ومنطق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفصحاء العرب، وأدباء العربيّة، فهذا القرآن كما هو نور لعقولنا، وحياة لقلوبنا هو حلاوة على ألسنتنا، شارة كمالٍ في منطقنا وبياننا:
يديرونني عن سالمٍ وأُديرُهُمْ ... وجلدة بين العين والأنف سالمُ
يخاتلوننا ليصرفونا عن لغة القرآن وبيانه، كما خاتلونا ليصرفونا عن العمل به وتلاوته، حتى صار التجديد في اللغة والبيان عند كثيرٍ هو التخلِّي عن لُغةِ القرآن وبيانه، والانسياق وراء الرطانة الأعجمية، واللُّكنة المعوجّة، والدعوة إلى أن نسوّد الصفحات بأحرفٍ عربيّة، ولغةٍ غير عربيّة، وإن تحلّت بزيِّها ورسِمَتْ برسمها . فالقرآن هو سرُّ هذه اللغة، وحياتها، قال الرافعيُّ: "إنّ هذه العربيَّة بُنيَتْ على أصلٍ سحريّ يجعل شبابها خالداً عليها، فلا تهرم ولا تموتُ؛ لأنّها أُعِدَّتْ من الأَزَلِ فلكاً دائِراً للنيِّرين الأرضيين العظيمين: كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ثَمَّ كانت فيها قُوَّةٌ عجيبةٌ من الاستهواء، كأنّها أخذةُ السِّحر، لا يملك معها البليغ أن يأخذ أو يدع" .
وكُلُّ حربٍ يديرها أعداؤنا وعملاؤهم للفصاحة والبلاغة، والبيان العالي لا يُقْصَدُ بها حرب اللسان والبيان، وإنما هي حربٌ لأصلهما من قرآنٍ وحديثٍ، وكلام سلف .
وكان العلم باللغة شرطاً للإمامة في علوم الدّين، وصفةً على غايةٍ من الأهمّية للأئمّةِ المجتهدين، وكان الشافعي خير مثالٍ لذلك، فقد كان له محلٌّ

رد مع اقتباس