من اللغة، شهد به أهلها ، حتى عدّوا قوله حُجّة فيها، وجعلوه كبطنٍ من بطون العرب . قال ثعلب: يأخذون على الشافعي، وهو من بيت اللغة، يجب أن يؤخذ عنه . وقد قرأ عليه الأصمعيُّ، واستفاد منه مع كبر سنِّه، وتقدُّمه في العلم والأدب .
وأثنى عليه أهل اللغة الأوائل كابن قتيبة (ت 276 هـ) وأبي القاسم الخوافي (ت 450 هـ) وأبي بكر بن دريد (321 هـ) وأبي منصور الأزهريّ (ت 370 هـ) بقوله "وألفيت أبا عبد الله محمد ابن إدريس الشافعيّ (أنار الله برهانه، ولقّاه رضوانه) أثقبهم بصيرةً، وأبرعهم بياناً، وأغزرهم علماً، وأفصحهم لساناً، وأجزلهم ألفاظاً، وأوسعهم خاطراً فسمِعْتُ مبسوطَ كتبه، وأمّهاتِ أصوله من بعض مشايخنا، وأقبلْتُ على دراستها دهراً، وأسنفْتُ بما استكثْرتُه من علم اللغة على تفهُّمها؛ إذْ كانت ألفاظه عربيَّةً محضة، ومن عجمة المولَّدين مصونة" .
وقد جرتِ الأُمَّة على تفضيل المقدّمين في علم العربية في طلب القراءة،والسنة، وعلوم الشريعة. قال أبو حاتم: "من أراد السُّنَّة والأمر العتيق في الدين وقراءة القرآن، فليكن ميله إلى الحرمين وأهل البصرة، فإنّهم أصحاب اقتصادٍ في القراءة، وعلم بها وبعللها، ومذاهبها، ومجاري كلام العرب ومخارجها، وكان منهم علماء الناس بالعربيّة وكلام العرب، وكان منهم أبو الأسود الدُّؤليّ، وأبو الحارث ابنه، ويحيى بن يعمر العدواني، وعبد الله بن أبي إسحاق من بعد، وأبو عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، ويونس بن حبيبَ، والخليل بن أحمد، وأبو زيدٍ، وسيبويه، والأخفش، فهؤلاء الأئمةُ في هذا الشأن، ثمّ بنى على ذلك من جاء بعدهم من علماء اللغة، وتفتَّقَتْ لهم الفِطَنُ، وصرف إليه كثير من النّاسِ هممهم، حتّى جعلوا له ديواناً يفزع إليه، ويعتمد عليه، وجعلوه للغة العرب معياراً، فإذا وجدوا اللّحن في كلامهم وزنوه به فقوَّموه، لأنَّ اللحنَ يزيل الحرفَ عن معناه، ويحيد به عن سننه، وليس هذا لسائر
الأمم، وهو علمٌ جسيم، له خطرٌ عظيم" .
والحاجة إلى علوم العربية في علوم الدين كانت هي الدافع لحفظ لغة العرب، وشعرها، وكلامها، وأمثالها، وأنسابها، وسائر علومها، قال أبو حاتم: "ولولا ما بالناس من الحاجة إلى معرفة لغة العرب، والاستعانة بالشعر على العلم بغريب القرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة، والتابعين، والأئمّة الماضين، لبطل الشعر، وانقرض ذكر الشعراء، ولعفَّى الدّهرُ على آثارهم، ونسي النَّاسُ أيَّامَهم، ولكنّ الحاجة بالمسلمين ماسَّةٌ إلى تعلُّم اللغة العربيّة، ومعاني الألفاظ الغريبة في القرآن والحديث، والأحكام والسُّنن، إذْ كانَ الإسلام قد ظهر - بحمد الله - في جميع أقطار الأرض، وأكثر أهل الإسلام من الأمم هم عجمٌ، وقد دعتهمُ الضرورةُ إلى تعلُّم لغة العرب، إذْ كانتِ الأحكام والسُّنن مُبَيَّنةً بلسان العرب " .
ولم تكن هذه الحاجة ظاهرةً في عهد النبوّة وصدر الإسلام، لاستغنائهم بسلائقهم وما يسمعونه من كلام العرب؛ إذ كان الكلام مدركاً مفهوماً، وسنن العرب في كلامها ظاهرة معلومة: "قال أبو عبيدة: إنّما أنزل القرآن بلسانٍ عربى مبين، وتصديق ذلك في آيةٍ من القرآن {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] وفي آيةٍ أخرى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] قال: ولم يحتجِ السلف ولا الّذين أدركوا وحْيَه إلى أن يسألوا النّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن معانيه؛ لأنّهم كانوا عرب الألسُنِ، فاستغنوا بعلمهم عن معانيه، وعمّا فيه ممّا في كلام العرب مثله من الوجوه والتخليص، قال الزُّهْريُّ: إنّما أخطأَ النّاسُ في كثيرٍ من تأويل القرآن لجهلهم بلغة العرب. قال أبو عبيدٍ: سمعْتُ الأصمعيّ يقولُ: سمعْتُ الخليل بن أحمد يقولُ: سمعْتُ أبا أيُّوبَ السِّخْتياني يقول: عامَّةُ من تزندقَ بالعراق لقلَّةِ علمهم بالعربيّة" .
وقد قام علماء العربية بواجبهم نحو الدين والقرآن، فجمعوا ما الحاجة داعية إلى جمعه، ودوّنوا ما علوم الشريعة مفتقرة إليه، ونظّموه بطرق تيسّر الوصول إليه، قال أبو حاتم: "ورأينا العلماء باللغة العربيّة قد كفوا النّاسَ مئونة هذا الشأن، وأحكموه إحكاماً بيّناً، لما دوّنوه من أشعار الشعراء، وألَّفوه من المصنّفاتِ، ووصفوه من الصفات في كُلِّ ما قدروا عليه، ممّا يحتاج النّاس إلى استدراكه، حّتى لعلّه لم تفتهم كلمةٌ غريبةٌ، ولا حرفٌ نادر إلاّ وقد ربطوه بأوثقِ رباطٍ، وعقلوه بأحكم عقالٍ، ورسموا في ذلك رسوماً، وعوّلوا في ذلك كلّه على الشعر، والاحتجاج به، وهذا للغة العرب خصوصاً ليس هو لسائر لُغاتِ الأمم، وذلك كُلُّه لشدّة حاجة الناسِ إلى معرفة لغة العرب، ليصلوا به إلى ما ذكرنا من معاني القرآن والألفاظ الغريبة فيه، وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، والأئمة الماضين، وما يجيء في الشريعة من الأسامي في أصول الفرائض والسُّنن، ممّا الجهل به نقص ظاهر على المرء المسلم، وشينٌ فاضح على كُلِّ ذي دين ومروءة " .