سلسلة (عالم ورأي)
تهدف هذه السلسلة إلى استجلاء رأي عالم من علمائنا حول قضية من القضايا، أو عقبة من العقبات التي تواجه أبناء العربية، أو طرح رؤية لاستنهاض الهمم وتحفيز العزائم. فإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر.
الحلقة السادسة والأربعون: الدكتور علي القاسمي-عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة المراسل عن دولة العراق، ورأيه في لغة الإعلام العربي:
تُعد الصحافة أولى وسائل الإعلام الحديثة الرئيسة التي دخلت البلاد العربية. وقد استخدمها روّاد النهضة العربية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، لبث الوعي الوطني والقومي في جميع أنحاء الوطن العربي على الرغم من تفشي الأمية وتعدّد الاستعمارات (العثمانية، والبريطانية، والفرنسية) فيه آنذاك. ولهذا حرص الروّاد على استخدام اللغة العربية الفصيحة المشتركة. وقد أغنت الصحافةُ اللغةَ العربيةَ بمصطلحات وتراكيب جديدة. وعندما دخلت الإذاعات البلدان العربية في النصف الأول من القرن العشرين، كانت اللغة الغالبة فيها هي اللغة العربية الفصيحة المشتركة، ولم تُستعمل اللغة الأجنبية ولا اللهجة العامية التي كانت تقتصر على بعض الأغاني وبعض المسرحيات الإذاعية.
إن انتشار العامية في الإعلام العربي اليوم يثير في الذهن ثلاث مفارقات مضحكة مبكية في آن، وهي: الأولى، إن اللغة العربية الفصحى كانت مستعملة في الإعلام زمن الاستعمار، وبعد الاستقلال اتجه الإعلام إلى ترسيخ العامية. الثانية، بعد مضي حوالي قرن من الزمن على نشوء الإعلام العربي، وانتشار المدارس والجامعات، وانحسار الأمية إلى نسبة 30 بالمئة، فإن إذاعاتنا وقنوات التلفزة العربية اتجهت إلى تقليص اللغة العربية الفصيحة المشتركة، وزيادة المساحة البرامجية للهجات المحلية والجهوية، بحجة تلبية احتياجات المتلقين وجذب مزيد من الجماهير، أو تعميم لهجة البلد التي راحوا يسمونها باللغة الوطنية (المصرية أو العراقية أو التونسية، إلخ.). الثالثة: إن الإعلام العربي يغلّب العامية على حين أن الإعلام الأجنبي يلتزم بالعربية الفصيحة المشتركة. فهناك حوالي سبعين محطة أجنبية تبث باللغة العربية الفصحى، مثل بي بي سي البريطانية، وفرانس 24 الفرنسية، وسي إن إن الأمريكية. ويتساءل المرء لماذا تبث هذه الدول، وهي ليست حريصة على وحدة الوطن العربي، بالعربية الفصيحة المشتركة؟
قد يتبادر للمرء أول وهلة أنها مضطرة للبث بلغة واحدة بدلاً من لهجات متعددة لأسباب مالية وتقنية. ولكن الحقيقة أن التقنيات الحديثة أصبحت تتغلب على هذه الصعوبة بسهولة تامة. أحسب أن السبب يكمن في أن المستمع العربي، حتى الأميّ، يحترم البث الإذاعي والتلفزيوني ويتقبله، لا بفضل مصداقية الأخبار وقيمة البرامج فحسب، بل بفضل رقي اللغة المستعملة كذلك، فهو يحترم ما يُقال باللغة العربية الفصيحة ويصدّقه، لأنها لغة راقية ولها صبغة مقدّسة. وقد دلت الإحصائيات والاستطلاعات الإٌعلامية أن معظم العرب يفضلون الإذاعات والتلفزيونات التي تبث بالعربية الفصيحة على تلك التي تكثر من العامية.
المصدر: لغة الإعلام المعاصر وعرقلة التنمية البشرية، بحث مقدم لمؤتمر مجمع اللغة العربية بالقاهرة في دورته الثانية والثمانين، مارس 2016م.
إعداد: مصطفى يوسف