ماذا عن الشّكّ المنهجيّ الذي امتطاه د.طه حُسين لإثبات ما كانَ يُريدُ أن يُثبِتَه ونفي ما كان يرغبُ في نفيه؟ ولِمَ سَمّى طه حُسين كتابَه (في الشعر الجاهلي) ؟
الحقيقة أنّ كتابَ "في الشّعر الجاهلي" كتابٌ في مَنهج البحث في الأدب، قدّم له طه حُسين بمقدّمة بيّنَ فيها أنّه كان على ثقةٍ بأن فريقا من القرّاءِ سيتلقّون الكتابَ
ساخطين عليه وبأن فريقا آخر سَيَـزْوَرُّونَ عنه ازوراراً، ولكنه أصرّ على إذاعةِ أفكارِه مُقتنِعاً بنتائج بحثه غيرَ حافل بسَخَط السّاخط ولا مُكترث بازْورارِ المُزْوَرّ؛ فهو يريدُ أن
يُخاطبَ النّاسَ خطاباً جديداً، بعيداً عن حديثِ الشّعرِ والفنّ، إنّه خِطابُ المنهج، وطريقَة التّناوُلِ، والشّروع في البحث العلمي عن الأدب وتاريخ فنونه، أي وضع كلّ ما قالَه
النّقّاد والرّواةُ ومؤرِّخو الأدبِ العربيّ في ميزانِ النّقدِ والشّكّ المنهجيّ فقد سمّى كتابَه "في الشّعر الجاهليّ" وكأنّه يُريد أن يقولَ: "هذا بحثٌ في طريقةِ تناولِ الشّعرِ
الجاهليّ" أو "هذا بحث في منهج النقد لمصادر الشعر الجاهليّ" أو "هذا مقياس جديد من مقاييس الشّكّ في الشّعر الجاهليّ" لم يألَفْه النّاسُ من قَبْلُ، ومن المعروف
أنّ طه حسين، بمنهج الشّكّ المنهجيّ الدّيكارتيّ، توصّل إلى الهدمِ أكثر ممّا توصّلَ إلى البناء وإلى الشَّكِ في الموجود أكثر من الإثبات لما يُريد أن يُثبِتَه، فهو في كتابِه
هذا يردّدُ منهجَ الشّكّ الغَرْبيّ الذي يضعُ كلَّ شيء من المعارِف البشريّة في ميزان السؤالِ والشكّ. أمّا لِمَ لَمْ يُسمِّه إبطال الشّعر الجاهليّ، فهو أمرٌ مسكوتٌ عنه، كشَفَته
نيةُ البحث عندَما أراد الباحثُ أن يصلَ إلى محاولة إبطالِ الشعرِ بالشّكّ في حقيقةِ وجودِ الشّعرِ الجاهليّ، وأنّه عبثٌ وكذبٌ وانتحالٌ من الرّواة،
وبإبطالِ وجودِه سيتطاوَلُ على حقائقَ أخرى ويتجرّأ على القولِ فيها بالشّكّ والإبطالِ .
ثُمّ ماذا عن النّثرِ العربيّ ؟
لَقَدْ عدَلَ طه حُسين نفسُه عن عنوانِ كتابِه السّابِق إلى عنوان آخَر هو "في الأدب الجاهليّ"، على نحوِ ما هو مَشهورٌ عند كلِّ متأدِّبٍ، بعد أن كان يقصُرُ التّسميةَ على الشّعرِ
الجاهليّ، وصَرفَ النّظرَ عن أحكامِ الشّكّ التي سبقَ أن أصدَرَها أو على الأقلّ خفّفَ من حدّتِها بعد أن سبقَ له أن ادّعى أن مُعظمَ الشّعر العَربيّ في الجاهليّة منحولٌ كُتِبَ في
العهد الأمويّ ونُسبَ إلى شُعراء جاهليين. ويُقرّر طه حُسين أنّه من الطّبيعيّ أن يوجَد الشّعرُ في الأمم ذاتِ التّراث الأدبي، قبلَ أن يوجَدَ فيهم النّثر؛ لأنّ الشّعرَ لغة العاطفة
والوجدان، أمّا النثر فهو لغة العقل ومظهر من مظاهرِ التّفكير وتأثير الرّويّةِ والأناة فيه أعظمُ من تأثيرِها في الشّعر، فليس غريباً أن يتأخّر ظهورُه في الأمم وليس عند العربِ وحدَهم،
ولا تُعرَف أمّة قديمة أوحديثةٌ ظهر فيها النّثرُ الأدبي قبل الشّعر أو مع ظُهورِ الشّعر.
أمّا النثرُ فلا يأخذ في الظّهورِ إلاّ بعدَ أن تقْوى في الأمم المَلَكَةُ المفكّرةُ، لأنّ الشّعرَ يضيقُ بوزنِه وقافيتِه عن تفكيرِ العقلِ، ولكنَّ طه حُسين وقفَ من النثر الأدبي الجاهليّ موقفَه
من الشّعر فأنكَرَ أن يكونَ لعربِ الجنوبِ أي اليمنيين نثرٌ، وتوقّفَ في نسبة النثرِ إلى عربِ الشّمالِ توقُّفَ "المحتاطِ الحذِر المتشكّك" لأنّ إضافة نثرٍ أدبي إلى عرب الشّمالِ، ومنهم
المضرِيّونَ، يُحتاج فيه إلى معرِفَة حظّ هؤلاءِ من الحضارَة الجاهليّة وتاريخ الرّقيّ العقليّ. وعلى الرّغم من رفضِه لإضافةِ نثرٍ إلى المضريين، فإنّه لم يجد بدّا من الاعترافِ بأنّ كلّ
شيء في تاريخ الأدب العربي يدلّ على أنّه كان للمضريين نثرٌ ما، وصل إلى حدّ من الرّقِيّ لا بأسَ به مثلما كان لهم حظّ لا بأسَ بِه من الحضارَة في مكّة َ المدينةِ والطّائف، وحظّ
لا بأسَ بِه من الاتّصالِ بالأمم الأخرى ومن العلم والمعرِفَة بأخبارِ الأولينَ وأحوالِ الأمم، فمن المعقولِ أن يدعوَهم كلّ ذلكَ إلى التّفكيرِ والرويّة، ثمّ إلى استحداثِ النّثر .
وقد صرّح طه حسين نفسُه أنّه عندما رفضَ ما يُضافُ إلى العربِ من نثرٍ، فلا يعني ذلِك أنّهم كانوا يجهلون النّثرَ ولم يكنْ معهم منه شيءٌ، ولكنّ نثرَهم لم يصلْ بالطّرقِ العلميّة
المعروفَة في رِوايَة التّاريخ والأخبارِ والآثار؛ فقدْ كانَتْ هناك خُطَبٌ تُضاف إلى وفودِ العربِ إلى كسرى، وسجعٌ يُنسَب إلى الكُهّان، وكلام منسوبٌ إلى قسّ بنِ ساعدَةَ، وحِكَم ووصايا
تُنسَب إلى حُكَمائهِم وخُطبائهِم، فنَشأ نوعٌ من النّثر متحلّلٌ من قيود الشّعر ولكنّه ملتزِم بالسّجع. وقد امتلأت كتبُ التّاريخ والأدب والنّقد بنماذِجَ من خطبِ العَرب ومراسلاتِهم
وحِكَمِهِم تُلتمَسُ هناك، وفيها ردّ على من ادّعى على العربِ معرِفَتَها بالشّعرِ وجَهْلَها للنثرِ الأدبي.