السعادة في الشعر
"قصيدة (مع الهجير) للشاعر الدكتور عدنان علي النحوي"
د. أحمد الخاني
ما أكثر المذاهب الفلسفية في الأدب بحثاً عن السعادة وهي غاية السلوك الأخلاقي..
إن موضوع السعادة؛ من الموضوعات الإنسانية الكبرى التي اندفع بعض الباحثين عنها ليجدها في العروض الزائلة..
قزم يظن السعادة في العملقة
وعائل يظن السعادة في الغنى
ودميم يظن أن السعادة في الجمال
ووضيع يظن أن السعادة في الجاه
وآخر يظن السعادة في الجنس أو في كأس...
أما الشاعر المسلم فأين وجد السعادة؟
يجيب عن هذا السؤال الشاعر الدكتور عدنان علي النحوي:
مع الهجير [1]
حنّ الجمالُ إلى الجمال
وتواثبت صور الدلال
رباه! كم درجت خطا
ي على المروج على التلال
ولكم هُرعت إلى الجنا
ن وربوة وندى الطلال
ولكم هربت من الهجي
ر أغيب في برد الظلال
ولممت من بين الجدا
ول همستي وصدى خيالي
وجمعت من بين الحصى
زُهر الجواهر واللآلي
وقطفت من حلو الثما
ر هجعت في فيء الدوالي
وركضت أمعن في الحقو
ل وبين زاهرة التلال
ونزلت ودياناً وسا
بقت الخطا قمم الجبال
أجري وأوهامي وأح
لامي تلفت بالسؤال
وأظل ألهث خلفها
شوقاً إلى دنيا الجمال
دنيا الحقيقة من يفتح
ها مضمخة الجلال
وأمد من كفيّ أب
حث عن رؤى بين الليالي
وأمزق الدرب الطوي
ل خطا مشتتة الأمالي
وأسير والأيام تر
كض والمنى تجري حيالي
وتغيب أشباح وتط
وى بين أجفاني الليالي
وتفر أحلامي وتُف
لت من يدي تلك اللآلي
وأكاد أمسك بالطيو
ف فتختفي وأرى خيالي
يا حسرتاه فكم جري
ت وراء كاذبة النوال
وأصب من عرقي وأد
فع لهفتي بخطا عجال
كم قيل لي دنيا الحقيق
ة في المروج مع الظلال
ومع الجِنان مع الورو
د مع الشواهق والعوالي
ومع الرغاب الماجنا
ت مع الهوى واهاً لحالي
ونظرت في كفيّ َفا
رغتين والدنيا حيالي
وأكاد أجمعها فول
ت كالطيوف إلى زوال
قد لوثوا طهر الجما
ل وروعوا خفر الغزال
داسوا على حلو الورو
د على الجِنان على اللآلي
سحقوا الأزاهير التي
رويتها بدمي ومالي
سرقوا الجواهر والكنو
ز وكل حالية وغالي
جفت فروعك يا جِنا
ن وأجدبت خضر التلال
وتساقطت دنيا الخريف
على التراب على الرمال
وكأنها وهم السرا
ب كأنها ومض الخيال
ورجعت في حمى الهجي
ر وبين أطياف وجال
ويكاد يقتلني الظما
وتكاد تطرحني رحالي
قدماي ترتجفان منهك
تين من طول ارتحالي
وتكاد تغلبني الشكا
ة من الضياع من الملال
ورميت يا رباه آ
مالي على وهن الكلال
وتركت خلفي كل أح
لامي وأشباح الضلال
وتركت أوهام السرا
ب ركام أيامي الخوالي
ورجعت أبحث في الحقي
قة في الطهارة في الجمال
فوجدتها في النفس في الأ
عماق في شرف الفعال
في رفة الإيمان في الأن
داء في عقبى مآل
تشريح النص أم تذوق النص؟
ماذا نسمي عملنا في هذا النص؟ هل نسميه: تشريح النص؟ أم تذوق النص ودراسته؟.
التسمية الأولى، تسمية البنيوية والحداثة، أما التسمية الثانية فهي تسمية المدرسة النقدية العربية الإسلامية.
إن الحداثة بهذه التسمية (تشريح النص) تفترض أن النص جثة على طاولة التشريح في قاعة الموتى، فما على الطبيب إلا أن يأتي بمباضعه وسكاكينه ويبدأ بالنص تجريحاً وتقطيعاً حتى يصبح أشلاء مبعثرة، ليكتشف هذا الطبيب – الأديب – جماليات هذا الجسم، ومن ثم يتوصل إلى الفيروس الذي أدى إلى قتل صاحبه -موت المؤلف- حسب العبقرية التي صدرتها لنا نظرية البصل - التفكيكية - فإذا كان في المجتمعات منظمات إرهابية؛ فإن في الآداب منظمات إرهابية أيضاً هذه المدرسة الإرهابية إحداها وعنوانها: تشريح النص؛ فهي تقتل النص وتقتل صاحبه، وليس هذا هو الأسوأ، فقد يسمع الأسوأ منه، وهو الهجوم على الثوابت والمقدسات.
إن التسمية التي نختارها نابعة من أصالتنا نختار لها العنوان التالي:
تذوق النص ودراسته:
التذوق: أرأيت بائع العسل وهو يقول لك: هذا عسل سدر، وهذا عسل الملكة تذوق منه، وبائع الفاكهة يقول: هذا تفاح الشام، وهذا المشمش الحموي وهذا دراق أبو صرة، تذوق من هذه الفاكهة، منها الحلو، ومنها الحامض ومنها ما بين بين، أرأيت ثوب الصوف الأبيض بين يدي الصباغ يشرّبه اللون المختار؟ كذلك تذوق النص؛ حيث يتشرب دارس النص روح النص، إنها ملكة، قوامها الموهبة تنمو بالمران والدربة، وبهذا التذوق استطاع ابن سلّام أن يفرق بين الشعر الأصيل لدى الشاعر وبين الشعر المنحول، بالتذوق نستطيع أن نحيا مع النص وأن نفهمه في رحلتنا معه.
رحلتنا مع النص: قراءة أولية:
قرأنا نص مع الهجير لشاعرنا الدكتور عدنان النحوي وتذوقناه، عشنا معه في خواطرنا وأفكارنا وعواطفنا، وسرحنا مع الشاعر في تلك الرؤى المتلاحقة، في صورها الملونة، وأساليب التعجب والنداء مراوحاً بين أساليب الخبر والإنشاء، بدءاً من حنينه الذي أسقطه على الجمال في حنينه إلى الجمال، وفي تواثب صور الدلال، وفي تنقل خطوه على المروج والتلال، وعندما هُرع إلى الجِنان، فراراً من الهجير إلى برد الظلال، ململماً الهمسة وصدى الخيال..
ونحن في رحلتنا مع النص ترانا نتوقف متلفتين إلى سؤال الشاعر؟ الشاعر صامت، وأحلامه هي التي تتلفت، وأحلامه هي التي تتساءل، ولكن ما هذا السؤال؟
إنه سؤال شغل تفكير الشاعر، شغل عقله الظاهر والباطن، الشعور وما تحت عتبة الشعور، سؤال شغل قبله فلاسفة الشعراء، وشعراء الفلاسفة: أين الحقيقة؟ هنا ينصب اللهاث والجري والعناء على الجواب، ولكن أين الجواب؟ أين الحقيقة؟ يمد الشاعر كفه..
يمزق الدرب الطويل.. الأيام تركض.. والشاعر يركض... أحلام تحجرت.. آمال تجوهرت.. إذا بها سراب في صحراء الحياة.
وحينما استيقظ وعي الشاعر، وفتح عيني بصيرته على واقعه، أدرك أن ما كان من لهاث مخلفاً الهجير إلى برد الظلال وخضرة المروج والمياه والتلال وبسمة الآمال.. ليس هذا هو الحقيقة، بل كان سراباً في سراب وما أكثر ما قيل للشاعر: إن الحقيقة تسكن الجِنان
مع الكؤوس والقيان..
والشاعر ليس قاصراً عن أن تطول يداه هذه الرغبات كلها لو أراد، لكن هذه الرغائب فرت من يديه... لأنها سراب.
وانقضى الربيع بأزهاره، والصيف بثماره، وجاء الخريف، خريف الآمال والأحلام، فبخر تلك الأماني الخضراء.
وبعد رحلة العناء، فاء الشاعر إلى نفسه وهو ما يزال دائباً بحثاً عن الحقيقة حتى وجدها. وتتلهف نفوسنا إلى معرفة المكان الذي وجد شاعرنا الحقيقة فيه.
لقد وجد الحقيقة في نفسه، وجد الشاعر الحقيقة في نفس الإنسان، في داخله، في ذاته، في كينونته، فهي فيه وليست خارجة عنه؛ ليست في عرض الحياة من مال أو جاه أو كأس وغانية وقصور ومزارع وبساتين..
وجد الشاعر الحقيقة أو سر السعادة، في النفس الإنسانية، وجد السعادة في الإيمان بالله سبحانه وتعالى يحدوه هذا الإيمان إلى الأفعال الخيرة النبيلة الشريفة.
التجربة الشعورية، والقيمة التعبيرية:
بعد أن تذوقنا النص، وقمنا برحلة معه، نتهيأ الآن إلى أن نبحر مع التجربة الشعورية التي فجرت النص في قيمته التعبيرية.
التجربة الشعورية:
لقد فجر النص فيض الحنين، حنين الجمال إلى الجمال، ونما هذا الكائن الحي نمواً طبيعياً، وتنامى إلى أن استوى ناضجاً، وهو يبحث عن السعادة حتى وجدها في الإيمان بالله تعالى.
فالنص وحدة متكاملة، بدأ البحث مع الهجير، هجير الكدح في الحياة لجمع حطامها، أم هجير العقل وهجيراه في البحث الفلسفي العميق عن السعادة، ولطالما أشقى هذا السؤال عقولاً كثيرة؛ بعضها ظن أن السعادة في الحب،في أوربا كثر الانتحار عقب صدور كتاب (آلام فيرتر) وكتاب (رفائيل) لجوتة، خلال ثلاثة أشهر من صدور هما انتحر أكثر من سبعين عاشقاً..
وانتحر آخرون لفساد بضاعتهم التي ألقيت في البحر، انتحر التاجر لأنه ظن أن سعادته في المال وقد خسر المال وانتحر المحب لأنه خسر الحبيب وقد ظن أن السعادة عند الحبيب, ولو علم الذي يريد الانتحار أن السعادة في داخل النفس لا خارجها لما انتحر، فالعرض زائل؛ المال يعوض، والحب؟! يا له من يلمع! ذلك الشقاء العذب أو عذوبة الشقاء؟ وما أكثر من طلق محبوبته في الشرق!وما أكثر من قتل محبوبته في الغرب! وهل كل البيوت تبنى على الحب؟ وهل يأتي الحب قبل الزواج؟ أم بعده؟ المهم أن السعادة مع الإنسان الذي ضيعها، كما قال شاعرنا، وقد أدرك هذا إيليا أبوماضي فقال:
إن التي ضيعتها كانت معي
إن هذه القيمة الشعورية قد صبها شاعرنا عدنان في قيمة تعبيرية، فما صفاتها؟
القيمة التعبيرية:
حن الجمال إلى الجمال:
قام الشاعر بإسقاط جمالي؛ يعزف على وتر الحنين، والحنين من صفات القلوب، سواء صدر من الإنسان أو الحيوان أو الطير، فابن الرومي يحن إلى ولده محمد المفجوع به، ويذكره ما حنت النيب في نجد، وقال القطامي التغلبي[2]
أحن إلى تلك المنازل كلما ** غدا طائر في أيكه يترنم
والحنين باب في الشعر العربي والإسلامي والإنساني لا أرق منه ولا ألطف ولا أعذب، يذكر الشاعر الحنين في شفافية ندية، ويشبهه بالإنسان الذي يحن إلى شبيهه على طريقة الاستعارة المكنية، ذكر المشبه وهو الحنين، وحذف المشبه به وهو الإنسان، ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو حن، وهذا هو القرينة الدالة عليه.
وتواثبت صور الدلال: إن صيغة: تواثب (تفاعل) تدل على المشاركة، فمع من تتشارك صور الدلال في وثباتها؟. ربما تدل هذه الصيغة على تفاعلها مع ذاتها بحركة ديناميكية داخل نفس الشاعر الموارة بالحركة والاضطراب، تلك الحركة الاستشرافية نحو هذا الجمال.
كما تدل هذه الصيغة (تفاعل) على بدء الفعل وتتابع الحدث كما تقول: تبادرت الفرسان على الميدان، إي بدأت بالحركة المتلاحقة.
دوالُّ النص:
إن النظام اللغوي يتالف من مجموعة دوالّ.
الدالَّة الأولى: المستوى الصوتي:
وهو (حن) نجد أن النون مدغمة في مثيلتها فيشكل
الحرفان المدغمان مع بعضهما غنة محببة كأنها عزف الريح في يوم المطر.
الدالة الثانية: المستوى الصرفي:
وهو في (تواثبت) على وزن تفاعلت. وهو في علم الصرف، وقد أشبعها دراسة ابن جني في. كتابه العظيم (الخصائص).
الدالة الثالثة: المستوى الدلالي:
وهو التواثب وقد عرفنا أن معناه المشاركة في الوثوب أو المبادرة، ولو قال: وثبت لضعف الفعل، فزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.
الدالة الرابعة: المستوى النحوي:
الجمال هو الذي حن، فهو الفاعل، إذاً فأين الشاعر؟ الشاعر هو باني النص، وقد قام بإسقاط خيالي دلالي ليبدع هذه الصورة البلاغية الرائعة، وهي أن الجمال تجوهر بصورة إنسان، الجمال مجرد والإنسان محسوس صور المجرد بالمحسوس.
الدالة الخامسة: المستوى الكتابي:
وهو الذي جرى فيه رسم الحروف وفقاً لمنطوقها؛ أي أنها تمثل الأصوات المنطوقة تمثيلاً مطابقاً أو أن الحروف انعكاس عن الأصوات.
الدالة السادسة: المستوى الأسلوبي:
وهو الذي يجمع الدوال كلها بنسق معين متناسق.
مفردات النص:
وهو أسلوب سلس، لا تنافر بين حروف الألفاظ، ولا تعاظل في التركيب كلفظة الهعخع أو هذا التركيب للمتنبي:
(عش ابق اسم سد جد قد مر انه فه تُسَل)
فلو قرأت هذا الشطر قراءة عادية لما فُهم معناه. فنسق هذه الدوال مما يترنم الإنسان بإنشاده لعذوبة الأسلوب فيه.
الإيقاع والموسيقا:
القصيدة من البحر الكامل؛ من البحور الصافية ذات التفعيلات الموحدة الإيقاع: متفاعلن، ولكنه جاء هنا مجزوءاً مرفلاً: متفاعلن متفاعلاتن.
اختزل التفعيلة الثالثة ورفّل الثانية، ولهذا دلالته النفسية والبيانية، فالشاعر مستغرق في تجربته الشعورية، فاضت من وجدانه شعراً موحد الإيقاع، جاءت الدفقة الشعورية نظرة تأملية، استخدم لها الوحدة اللغوية (حن) وحرف النون متصل نطقه بآلية التطريب بالغنة مع إدغام الحرفين، وهذه اللفظة لم يبحث عنها الشاعر، وإنما وردت لاشعورياً رشحها له عقله الباطن ليتناسب الحنين مع ما يعبر عنه من حروف تعكس هذا المعنى، فالمعنى كما يقول الجرجاني في قلب الشاعر وجاءت الألفاظ مناسبة لها كما قال الأخطل:
لا يعجبنك من خطيب خطبة
حتى يكون مع الكلام أصيلا
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
لكن هذه الطاقة الشعورية الكامنة، يمكن أن تستوعبها طاقة بيانية محددة، وهي مجزوء الكامل، لكن المخزون العاطفي الوجداني في نفس الشاعر أعطى الدفقة الشعورية بعداً آخر، سببه حرارة العاطفة وقوتها وعمقها وشدة تدفقها، كان يمكن أن تكون التفعيلة الثانية كافية كالشعر المجزوء في هذا البحر في قول الشاعر[3]:
بكت الحمامة لوعة
سحَراً فسالت ادمعي
أنا في الصحارى مُبعد
ما الكون حولي؟ لا أعي
أو كان يمكن أن تكون التفعيلة بزيادة حرف واحد كأن يقول مثلاً:
حن الجمال إلى الجمالْ ** وتواثبت صور الدلالْ
وتكون التفعيلة هنا: متفاعلن متفاعلان
ولكنها جاءت في القصيدة: متفاعلاتن، بزيادة حرفين، وتعليل ذلك ما نلاحظه على ساحل البحر من موجة تتهادى على الساحل، وقبل أن تتناهى تأتيها موجة أقوى تدفعها وتسندها وتعززها وتزيد من قوتها هذا هو تعليل الترفيل في نظرنا.