أذكر أنه عندما أنشىء المجلس الأعلى للغة العربية، وكنت عضوا فيه ممثلا عن وزارة الاتصال والثقافة، وخلال حفل التنصيب الذي أشرف عليه الرئيس اليامين زروال بنفسه، سأله أحد الأعضاء: من يضمن يا سيادة الرئيس أن يحظى هذا المجلس عند من سيأتي بعدكم بهذا القدر نفسه من العناية والاهتمام؟! فأجاب مبتسما: إن الذي سيأتي بعدي سيكون جزائريا على كل حال، ومن الطبيعي أن يكون من أولويات اهتمامه استكمال السيادة الوطنية بتطبيق هذا القانون القاضي بتعميم استعمال اللغة العربية!
وأذكر كذلك أن الكثير منا لم يستصغ هذا السؤال الذي لم نر له داعيا لكن الأيام كشفت أن ذلك السائل كان أبعد منا نظرا..
لقد كتبت في هذا الركن منذ أسابيع عن "غربة اللغة العربية بين أهليها" وقلت إن ابن باديس الذي كتب يوما عن الإسلام الذاتي والإسلام الوراثي لو بُعث اليوم ورأى مسؤولين في الدولة يخاطبون شعبهم باللغة الفرنسية بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال لكتب بدمع العين لا بحبر الدواة عن "المسخ الذاتي".
ويبدو أن الأقلية التغريبية النافذة التي يحلو لها أن تمارس على نفسها هذا المسخ الذاتي ماضية في عنادها المحموم ومصممة على "تعميمه" ليشمل الجيل الناشىء بأكمله وذلك بتجريده من عناصر هويته ومقومات شخصيته؟
لقد صدمت - ككل الجزائريين - بتلك "التوصيات" التي صدرت عن الندوة الوطنية للتربية التي تقترح إلغاء المواد الدراسية المتعلقة بعناصر الهوية الوطنية في امتحان البكالوريا وتوجت ذلك باقتراح استعمال العامية في المرحلة الابتدائية، بدعوى "أن اللغة الفصحى تصدم الأطفال"، وكل ذلك باسم الإصلاح وجزأرة التعليم وعصرنته!
إن أول ما تبادر إلى ذهني عند سماعي هذه "الخرجة" العجيبة، تساؤل يرد على خاطر كل عاقل: هل سمعنا يوما عن ألماني أو ياباني أو انجليزي أو فرنسي أو ما شئنا من الأجناس البشرية قال: إن لغة المدرسة تصدم الأطفال وهل هناك دولة واحدة في العالم تعلم أبناءها بإحدى لهجاتها المتعددة؟! كلنا يعلم أن جميع الدول تعلم أبناءها بلغة واحدة هي عنوان شخصيتها ورمز سيادتها وضمان وحدتها مهما يتعدد - بعد ذلك - نسيجها اللغوي والاجتماعي والثقافي، لأن وحدة اللغة هي التي تجعل من ذلك كله عنصر ثراء وغنى لا عامل تصدع وتشتت..
ثم قلت في نفسي، هل يحتاج الرد على أ صحاب هذا "الاقتراح" تقديم بعض الحقائق والمسلّمات بخصوص علاقة اللغة بالعقيدة والتراث والتاريخ وأثرها في الفكر والإبداع، وتعزيز هذه الحقائق والمسلمات بأمثلة مشهورة من أقوال الفلاسفة والمفكرين ومواقف رجال السياسة في مختلف بلاد العالم؟! وما الفائدة المرجوة من ذلك؟ هناك مثل غربي يقول "ليس هناك من هو أكثر صمما من الذي لا يريد أن يسمع".
إننا أمام فصل آخر من فصول المؤامرة التي لم تتوقف منذ الاستقلال وأمام مشهد آخر من الصراع بين هذه الأقلية الفرانكوفيلية التغريبية النافذة وبين سائر الجزائريين المتمسكين بعناصر هويتهم وشخصيتهم والحق أن أجزاء كبيرة من هذه المؤامرة قد تحققت وهل يحتاج من يعيش اليوم واقع الجزائر طولا وعرضا وعمقا إلى أمثلة يستدل بها على التردي المخيف الذي بلغه الوضع اللغوي فيه؟ لقد أصبحت "الدارجة الهجينة" تنافس الفصحى وتمتد في مجالات عديدة، بدءا بالإشهار الذي لم يعد للعربية الفصحى فيه مكان.
أعود إلى توصيات الندوة وإلى هذا النوع من "التفكير" ولا أقول "الاقتراح" لأن المسألة هنا تتعلق بذهنية ووجدان! فالذي يقترح استعمال العامية في تنشئة الجيل يكشف عن تشكيل ذهنية مضطربة ووجدان سقيم، لأن معنى ذلك أن عناصر هويته ومقومات شخصيته لا يؤمن بها عقله ولا ينبض بها قلبه، فهو كائن مستأصل غريب لا يتجاوز انتماؤه إلى وطنه بعده الجغرافي.
ومن المؤكد أن هذه العوامل كلها هي التي تفضح هشاشة حججهم وتناقضاتهم ومغالطاتهم عندما يحاولون في جرأة عجيبة تسويغ هذه الاقتراحات والدفاع عنها.
فإذا سارعت شخصيات علمية وفكرية إلى التنديد بها والتبصير بمخاطرها قالوا إنها مجرد توصيات لم تقرر بعد، فلم كل هذا التهويل؟
وإذا نطق بعض ممثلي الأحزاب السياسية واستنكروا هذا المسعى قالوا إن المسألة بيداغوجية بحتة فاتركوها للأخصائيين، ولا تسيسوا المدرسة ولا تجعلوا من الثوابت سجلا تجاريا.
وكأن تشويه جيل كامل أو أجيال بتسميم عقولها وألسنتها ووجدانها ليس سياسة، وليس تخطيطا لتحقيق ما عجزت عنه فرنسا وإن لم تيأس يوما من إمكان ذلك وإذا صرخ في وجوههم كل عاقل واع سويّ: هل في الدنيا كلها وزير للتربية لا يحسن لغة المدرسة؟!
قالوا: العبرة في المسؤول هي الكفاءة وليست اللغة.
إنه العناد والجهل والغرور.. والعزة بالإثم.. لقد نبه علماء ومفكرون جزائريون منذ السنوات الأولى للاستقلال، وما يزالون ينبهون إلى خطر الاستهانة بعنصر اللغة في الحفاظ على الوحدة الدينية والوطنية وفي تشكيل ذهنية الجيل وصياغة وجدانه.
في سنة 1987 شكلت لجنة بحث في مستوى المعهد الوطني للدراسات الاستراتيجية الشاملة كلفت بإعداد "دراسة مستقبلية للجيل الصاعد"، وأذكر أننا في إحدى الجلسات التي استعرضنا فيها مختلف الجوانب التي ينصب عليها البحث لاحظ المرحوم الدكتور عبد الله شريط غياب جانب اعتبره محورا أساسيا في هذا الملف، ألا وهو العنصر اللغوي والانطلاق من "المعجم اللفظي".
المتداول بعفوية في واقعنا اليومي، أي لغة الشارع كما يقال، ورصد هذا المعجم ومدى حضوره في السلوك الفردي والجماعي من جهة، والعمل من أجل تصفيته وتنقيته من كل لفظة غريبة دخيلة لتصبح "الدارجة" قريبة جدا من الفصحى وممهدة لتلقي أبنائنا لها في المدرسة بسهولة.
ثم ضرب مثلا لذلك فقال: إن تعبير شبابنا عن شعورهم الوطني وابتهاجهم بكل انتصار تحققه الجزائر في أي مجال باللغة الأجنبية "وان تو ثري فيفا لالجيري" مؤشر غير صحي وظاهرة سلبية تستأهل العناية وتتطلب العلاج.
واليوم، بعد عمر جيل كامل لم يعد الخطر محصورا في معجمنا اللفظي الذي ازداد تلوثا واغترابا عن الفصحى بل الخطر اليوم آت من إرادة واضحة "لتلويث" جيل كامل يجعل هذا الخليط الهجين هو لغة المدرسة، والهدف واضح، هو أن تصبح الفرنسية - عمليا- هي العنصر الموحد الوحيد للجزائريين، فتظل الجزائر كما يراد لها أن تكون: رهينة حضارية، حبيسة لغة واحدة هي الفرنسية لا غير.
الرابط ...