العلاقات النصية في القرآن الكريم
دراسة نحوية لجهود المفسرين
د. مصطفى أحمد عبد العليم
جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وبعد : فإن الدارسين لعلم اللغة النصي اليوم ينظرون إلى النص على أنه شبكة من العلاقات الداخلية والخارجية ، ويعنون بالداخلية العلاقات داخل النص الكائنة بين عناصره الإفرادية والتركيبية ، ويعنون بالخارجية العلاقات خارج النص المتمثلة في ثلاثية النص والمرسل والمرسل إليه ، وعلاقة كل ذلك بالسياق وبالنصوص الأخرى .
وتعد دراسة هذه العلاقات هي جوهر النظرية النصية التي تدعو إلى تجاوز حدود الجملة إلى بنية النص الكاملة المستقلة ، والتي ترتبط بمرسل للفعل اللغوي ومتلق له ، وقناة اتصال بينهما ، وهدف يتغير بمضمون الرسالة ، وموقف اتصال اجتماعي يتحقق فيه التفاعل (1 ).
ويحقق هذا المنهج فائدة بالغة في تحليل النصوص وفهمها؛ ذلك أنه يدعو إلى تطبيق النظرة الكلية للنص ، والنظر في أنواع النصوص ومضامينها المختلفة وعلاقة النص بأركان التواصل ، وانسجام النص وتماسكه والربط بأدواته المختلفة ، وأنواع التراكيب ، والعلاقات بين الجمل ، وكلها أمور لا يتأتى تفسيرها إلا من خلال وحدة النص الكاملة .
وعلى الرغم من شيوع النظرة الجزئية في أكثر الدراسات القديمة التي دارت في إطار نحو الجملة فإننا نجد لدى عدد كبير من مفسري القرآن الكريم نظرات صائبة وتحليلات دقيقة تدخل في إطار نحو النص .فقد تحدثوا عن المناسبة بين آيات القرآن وسوره ، وخصصوا في ذلك كتبًا كما فعله البقاعي في " نظم الدرر" والسيوطي في " تناسق الدرر في تناسب الآيات والسور" ، وتحدثوا عن تماسك القرآن آيات وسورًا ، وصدروا في ذلك عن مبدأين مهمين : أحدهما أن القرآن يفسر بعضه بعضًا ، والثاني أن سياق القرآن كالسورة الواحدة .
ولم يغفلوا في بحوثهم حال المتكلم ودور المخاطب ولا النظر في سياق الآيات ، وأكثروا من الحديث عن الآيات المتشابهة والفروق النحوية الدقيقة بينها .
وسأحاول في هذا البحث تسليط الضوء على هذه الجهود من خلال الحديث عن العلاقات الآتية :
1. التماسك .
2. المناسبة .
3. أدوات الربط
4. السياق
5. حال المتكلم .
6. دور المخاطب .
7. الاستدعاء النصي .
1ـ التماسك:
من العبارات الشهيرة المتداولة عند المفسرين وعلماء القرآن قولهم : " إن القرآن يفسر بعضه بعضًا ".
يقول الزركشى : " قيل أحسن طريقة التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فقد فصل في موضع آخر ، وما اختصر في مكان فإنه قد بسط في آخر "( 2) .
وفي هذا دليل على إدراكهم لمبدأ تماسك النص ليس فقط على مستوى السورة أو الآية وإنما أيضاً على مستوى القرآن كله .
وقد يعبر عن هذا المبدأ بعبارة أخرى مثل قولهم :" القرآن كله كالسورة الواحدة أو هو في حكم كلام واحد" .
يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى : "إنا أنزلناه في ليلة القدر "(القدر1):" إنا أنزلناه يعني القرآن ، وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة ؛لأن المعنى معلوم ، والقرآن كله كالسورة الواحدة " ( 3) ويقول القرطبي أيضًا في تفسير قوله تعالى :" لا أقسم بيوم القيامة "(القيامة1): قيل: إن "لا" صلة ، وجاز وقوعها في أول السورة ؛ لأن القرآن متصل بعضه ببعض ، فهو في حكم كلام واحد ؛ ولهذا قد يذكر الشيء في سورة ، ويجيء جوابه في سورة أخرى كقوله تعالى : " وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون"(الحجر 6) وجوابه في سورة أخرى : " ما أنت بنعمت ربك بمجنون(القلم2)" ( 4) ، وفي هذا التفات إلى نوع من المناسبة عرف لدى علماء النص بالتناص ، ومعناه : " استدعاء نص لنص آخر "( 5) ، وله في القرآن طابع خاص إذ يقتصر على القرآن نفسه من خلال آياته .وسنخصه بحديث فيما يستقبل من البحث مؤثرين تسميته باستدعاء النصوص.
ويعد التماسك جوهر العلاقات النصية لأنه بمثابة العلاقة الكبرى التي تضم سائر العلاقات الأخرى .
2- المناسبة
وعلاقة المناسبة بالتماسك أنها وسيلة من وسائله ويقصد بها تحقق الانسجام والتوافق الشكلي والدلالي بين الجمل وأجزاء النص .
والمناسبة علم جليل أفرد له في كتب علوم القرآن فصل مستقل وأفرده بعض العلماء بالتصنيف منهم أبو جعفر بن الزبير في كتابه " البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن ، وبرهان الدين البقاعي في كتابه :" نظم الدرر في تناسب الآي والسور " وجلال الدين السيوطي في كتابه : " تناسق الدرر في تناسب السور ".
وقال الزركشي عن علم المناسبة : " وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذًا بأعناق بعض ، فيقوى بذلك الارتباط ، ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم ، المتلائم الأجزاء"(6) . وقال الإمام الرازي في تفسيره :" أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط (7 ).
وقد تحدث المفسرون وعلماء القرآن عن أنواع مختلفة من المناسبات في القرآن الكريم منها :
المناسبة بين الآيات .
المناسبة بين السور.
المناسبة بين المطالع والخواتيم .
المناسبة بين الفاصلة والآية الواردة فيها .
المناسبة بين الفواصل في السورة الواحدة .
وسأقتصر من هذه الأنواع على ما له صلة وطيدة بنحو النص وهو :
المناسبة بين الآيات .
ذكر الزركشي أن أنواع ارتباط الآي بعضها ببعض على وجهين : ظاهر وغير ظاهر، أما الظاهر فيكون إذا كانت الآية الثانية بالنسبة للأولى على جهة التأكيد والتفسير أو الاعتراض والتشديد . أما غير الظاهر فهو على نمطين :
أحدهما : العطف ولابد أن تكون بين الجملتين في هذه الحالة جهة جامعة كالشريكين أو النظيرين أو المتضادين .
والثاني: عدم العطف ، ولابد من دعامة في هذه الحالة تبين وجه الارتباط وهي قرائن معنوية مثل: التنظير والمضادة والاستطراد .
وقد يخفى وجه الارتباط بين الآيتين فيحتاج إلى شرح ، وقد ذكروا لذلك أمثلة عديدة منها قوله تعالى :
" ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك " إلى قوله : " والله لا يهدى القوم الظالمين. أو كالذي مر على قرية . . . . "(البقرة 259) فالإشكال هنا أن قوله " أو كالذي " غير مناظر لقوله من قبل:" ألم تر إلى..." والعطف يقتضي المشاركة يقول الزركشي :" فلا يحسن في نظير الآية : ألم تر إلى أو كالذى ، ووجه ما بينهما من المشابهة أن ألم تر بمنزلة هل رأيت كالذي حاج إبراهيم"( 8).
وهكذا يلجأ الزركشي وغيره من المفسرين إلى تقدير كاف محذوفة في الآية السابقة ليبين التناسق بين الآيتين ، ويفسر العطف على أنه من قبيل عطف القصة على القصة .
3- أدوات الربط :
ومما يحقق التماسك النصي أدوات الربط ، فقد تحدث المفسرون وعلماء القرآن عن كثير منها مثل أحرف العطف ، و" لكن" الاستدراكية ، والكاف التشبيهية والضمائر، وأسماء الإشارة ، والموصولات .
أ ـ أحرف العطف :
العطف من أهم أدوات الربط النصي وأكثرها شيوعًا في الاستخدام اللغوي، وقد درسه النحاة ضمن طائفة التوابع وقسموه إلى نوعين : عطف نسق وعطف بيان والمراد هنا هو عطف النسق ، وهو العطف بالحروف كالواو و الفاء وأو وغيرها ، ومعنى العطف الاشتراك في تأثير العامل ( 9) وأصله الميل كأنه أميل به إلى حيز الأول ، وقيل له نسق لمساواته الأول في الإعراب " .( 10)
وقد درس النحاة عده مباحث في باب العطف كعطف المفرد على المفرد وعطف الجملة على الجملة وعطف الظاهر على الظاهر وعطف المضمر على المضمر وعطف الفعل على الفعل وعطف الاسم على الفعل ودلالات أحرف العطف وخصائص كل حرف وغير ذلك ، ونقصر الحديث عن أداتين من أدوات العطف هما الواو وبل .
أ/1 الواو العاطفة:
والذي يعنينا منها مسألتان تتعلقان بنحو النص :
الأولي :عطف الجملة على الجملة .
الثانية : عطف القصة على القصة .
أما عطف الجملة على الجملة فلم ترد له في كتب النحاة إلا إشارات قليلة نحو قول ابن يعيش : " والغرض من عطف الجمل ربط بعضها ببعض و اتصالها والإيذان بأن المتكلم لم يرد قطع الجملة الثانية من الأولي والأخذ في جملة أخري ليست من الأولى في شيء ، وذلك إذا كانت الجملة الثانية أجنبية من الأولى غير ملتبسة بها و أريد اتصالها بها فلم يكن بد من الواو لربطها بها" (11 )
فابن يعيش هنا يشير إلى أن الجمل المتعاطفة تترابط فيما بينها بواسطة حرف العطف حين يكون بينها مناسبة أو علاقة من نوع ما .
على أن البلاغيين كانوا أكثر تفصيلاً لهذا النوع من العطف ، وذلك في تناولهم لمبحث الفصل والوصل ، ورائد هذا الميدان هو عبد القاهر الجرجاني الذي نظر له وبسط القول فيه. وخلاصة ما قاله الجرجاني في هذا الباب هو أن الجمل على ثلاثة أضرب :
1- جملة حالها مع التي قبلها حال الصفة مع الموصوف والتأكيد مع المؤكد ، فلا يكون فيها العطف البتة ، لشبه العطف فيها ، لو عطفت بعطف الشيء على نفسه . وقد مثل لذلك بقوله تعالي : " ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيه" فالجملة الثانية توكيد للأولي .
2- وجملة حالها مع التي قبلها حال الاسم يكون غير الذي قبله ، إلا أنه يشاركه في حكم ، ويدخل معه في معني مثل أن يكون كلا الاسمين فاعلاً أو مفعولاً أو مضافًا إليه فيكون حقها العطف ، ويمكن أن يمثل لذلك بقوله تعالى " يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ " فالجملتان متغايرتان من جهة ومشتركتان من جهة أخرى ولذلك حسن العطف.
3- وجملة ليست في شيء من الحالين ، بل سبيلها مع التي قبلها سبيل الاسم مع الاسم لا يكون منه في شيء ، فلا يكون إياه ، ولا مشاركًا له في معنى ، بل هو شيء إن ذكر لم يذكر إلا بأمر ينفرد به ... وحق هذا ترك العطف البتة .
يقول عبد القاهر الجرجاني . فترك العطف إما للاتصال إلى الغاية ،أو الانفصال إلى الغاية . والعطف لما هو واسطة بين الأمرين ، وكان له حال بين حالين فاعرفه "(12 )
وقد سمى البلاغيون فيما بعد الحالة الأولى بكمال الاتصال والحالة الثانية بكمال الاتصال والحالة الثالثة بـ " بين بين" . على أن النقطة الهامة في كلام عبد القاهر عن الوصل والفصل ـ وهو ما يدخل في صميم نحو النص ـ إشارته إلى عطف مجموع جمل على مجموع جمل أخرى . وذلك حيث يقول : " اعلم أن مما يقل نظر الناس فيه من أمر العطف أنه قد يؤتى بالجملة فلا تعطف على ما يليها ، ولكن تعطف على جملة بينها وبين هذه التي تعطف جملة أو جملتان "( 13) ، وقد مثل لذلك بأمثلة من القرآن الكريم ، منها قوله تعالى : " وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا "( سورة النساء 112) فالشرط هنا في مجموع الجملتين لا في كل واحدة منهما على الانفراد ، ولا في واحدة دون الأخرى ؛ لأنا إن قلنا: إنه في كل واحدة منهما على الانفراد جعلناهما شرطين ، وإذا جعلناهما شرطين اقتضتا جزاءين ، وليس معنا إلا جزاء واحد، وإن قلنا إنه في واحدة منهما دون الأخرى لزم منه إشراك ما ليس بشرط في الجزم بالشرط ، وذلك ما لا يخفي فساده " (14 ) ومنها قوله تعالى : " وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ . وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ " ( سورة القصص 44، 45).
قال عبد القاهر : لو جريت على الظاهر فجعلت كل جملة معطوفة على ما يليها منع منه المعنى . وذلك أنه يلزم منه أن يكون قوله وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ " معطوفاً على قوله : فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ، وذلك يقتضي دخوله في معنى لكن ، ويصير كأنه قيل : " ولكنك ما كنت ثاويًا " وذلك ما لا يخفي فساده .
وإذا كان كذلك بان منه أنه ينبغي أن يكون قد عطف مجموع " وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ" إلى "مرسلين " على مجموع قوله : " " وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ " إلى قوله " العمر"( 15) .
وقد أشار المفسرون إلى هذا النوع من العطف الذي تناوله عبد القاهر الجرجاني سواء ما كان من عطف جملة على جملة أم من عطف مجموع جمل على مجموع جمل .
ففي قوله تعالى : "وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُون"(التوبة 107) .
قال القرطبي :" قوله تعالى : " وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا "معطوف أي ومنهم الذين اتخذوا عطف جملة على جملة . " ( 16)
ومعلوم أن أقرب آية مناظرة لهذه الآية فيما سبقها هي الآية 75 إذ يقول تعالى: " وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ .". ومعنى ذلك أن الفاصل بين الآيتين المتعاطفين هنا يقرب من اثنتين وثلاثين آية مما يدل على أن مصطلح الجملة في كلام المفسرين قد يراد به النص أو القصة .
ومن ذلك قوله تعالى :" لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا
أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا "( الأحزاب 55) قال القرطبي قوله تعالى: "واتقين الله " لما ذكر الله تعالى الرخصة في هذه الأصناف وانجزمت الإباحة،عطف بأمرهن بالتقوى عطف جملة وهذا في غاية البلاغة والإيجاز ، كأنه قال : اقتصرن على هذا واتقين الله فيه أن تتعدينه إلى غيره "(17 ) وهذا أيضًا من قبيل العطف على القصة أو العطف على النص أو مجموع الجمل وإن سماه القرطبي عطف جملة لأنه وضحه بقوله: " كأنه قال اقتصرن على هذا واتقين الله "
ومن قبيل عطف القصة على القصة ما قاله الزمخشري عن آيات صفة المنافقين في أوائل سورة البقرة من أول قوله تعالى :" وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ( البقرة 8) حيث قال : " وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا كما تعطف الجملة على الجملة " ( 18) وقال الطاهر بن عاشور تعليقًا على قول الزمخشري هذا :" فأفاد بالتشبيه أن ذلك ليس من عطف الجملة على الجملة . قال المحقق عبد الحكيم :" وهذا ما أهمله السكاكي أي في أحوال الفصل والوصل ، وتفرد به صاحب الكشاف " ( 19)
وقد أشار الزمخشري إلى هذا النوع من العطف في مواضع أخرى من تفسيره ففي قوله تعالى في الآية 25 من سورة البقرة " وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ... "
يتساءل الزمخشري علام عطف هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهي يصح عطفه عليه ، وفي رأيه أن ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين ، فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين " ( 20)
وعن الآية نفسها يقول الطاهر بن عاشور : " وجعل جملة " وبشر " معطوفة على مجموع الجمل المسبوقه لبيان وصف عقاب الكافرين يعني جميع الذي فصل في قوله تعالى : " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا" إلى قوله : " أعدت للكافرين "(البقرة24) ، فعطفت مجموع أخبار عن ثواب المؤمنين على مجموع أخبار عن عقاب الكافرين ، وليس هو عطفًا لجملة معينة على جملة معينة الذي يطلب معه التناسب بين الجملتين في الخبرية والإنشائية ( ... ) وجعل السيد الجرجاني لهذا النوع من العطف لقب عطف القصة على القصة" (21 ) .
وفي قوله تعالي : " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة "( البقرة 30) ، يقول الطاهر بن عاشور : " عطفت الواو قصة خلق أول البشر على قصة خلق السموات والأرض " (22 ) .
وقال عن قوله تعالى: وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم. إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون " ( آل عمران 121ـ122) : " وجود حرف العطف في قوله :" وإذ غدوت " مانع من تعليق الظرف ببعض الأفعال المتقدمة مثل :"ودوا ما عنتم" ومثل :" يفرحوا بها" وعليه فهو آت كما أتت نظائره في أوائل الآي والقصص القرآنية، وهو من عطف جملة على جملة وقصة على قصة وذلك انتقال اقتضابي فالتقدير: واذكر إذ غدوت" . ( 23)
وهكذا يتضح أن المفسرين ـ القدامي منهم والمعاصرين ـ قد وعوا قضية عطف النص على النص ، وعرفوا دوره في الربط بين النصوص المتجاورة ، وإن استخدموا مصطلحات أخرى مثل عطف الجملة على الجملة أو عطف القصة على القصة .
أ/2 ـ بل الإضرابية :
كثيرًا ما تأتي بل عند الانتقال من موضوع إلى موضوع ، وهي من الظواهر البارزة في القرآن ، وقد لاحظ معربوالقرآن ذلك ؛ فيقول العكبري في إعراب قوله تعالى من سورة ق : " بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم " (ق2) " : بل للخروج من قصة إلى قصة "( 24) وقال ابن هشام بل حرف إضراب، فإن تلاها جملة كان معنى الإضراب إما الإبطال نحو " وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا سبحانه بل عباد مكرمون "( الأنبياء 26) (أي بل هم عباد ، ...وإما الانتقال من غرض إلى آخر ومثاله " قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا "(الأعلى 14-16) ونحو " ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون بل قلوبهم في غمرة "( المؤمنون 63) ( 25) .
ويعنينا من كلام ابن هشام هنا أنه أشار إلى كون بل للانتقال من غرض إلى غرض وأنها تدخل على الجملة ، وهذا يدل على أنها ذات دور مهم في الترابط النصي .