مجمع اللغة العربية بمكة يطلق عضوياته الجديدة
لطلب العضوية:
اضغط هنا

لمتابعة قناة المجمع على اليوتيوب اضغط هنا

 


الانتقال للخلف   منتدى مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية > القسم العام > واحة الأدب

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
رقم المشاركة : ( 1 )
 
مصطفى شعبان
عضو نشيط

مصطفى شعبان غير موجود حالياً

       
رقم العضوية : 3451
تاريخ التسجيل : Feb 2016
مكان الإقامة : الصين
عدد المشاركات : 12,782
عدد النقاط : 10
قوة التقييم :
جهات الاتصال : إرسال رسالة عبر Skype إلى مصطفى شعبان
افتراضي من أعلام الأدب في العصر الحديث: (1) محمود سامي البارودي

كُتب : [ 04-24-2017 - 09:38 AM ]


من أعلام الأدب في العصر الحديث
(1)
محمود سامي البارودي 1838-1904م
(شاعر)
[IMG]
[/IMG]
أ- حياته:
لا نكاد نصل إلى أواخر عصر محمد علي حتى تُهلل ربَّةُ الشعر، وتُصفِّق نشوة وطربًا، فقد وُلد في سنة 1838 الشاعر الفذ، الذي كانت تبحث عنه في الأقاليم العربية منذ المتنبي والشريف الرضي ويعييها البحث ويضنيها. وُلد محمود سامي البارودي الذي سيبعث الشعر العربي من سُباته الطويل، ويخلع عنه ثيابه البالية من البديع وغير البديع، ويرد إليه الحياة والنشاط، فيصبح شعرًا ممتعًا يغذي القلب والشعور، ويمنح قارئه لذة فنية حقيقية.
وقد نشأ في وسط ثري؛ إذ ولد لأبوين من الجراكسة، ينتميان إلى المماليك الذين حكموا مصر فترة من الزمن. وكان أبوه من أمراء المدفعية، ثم جعله محمد علي مديرًا لبربر ودنقلة، وظل بهما إلى أن توفي وابنه في السابعة من عمره، فكفله بعض أهله وقاموا خير قيام على تربيته، حتى إذا بلغ الثانية عشرة ألحقوه بالمدرسة الحربية على غرار لداته من الجراكسة والترك. وتخرج فيها سنة 1854 وكانت مصر حينئذ تجتاز دورة بائسة من حياتها الحديثة؛ إذ عطل عباس الأول آلة نهضتها الكبيرة التي أخذت تدور منذ عهد أبيه محمد علي، فأغلق المدارس وسرَّح الجيش إرضاء للدولة العثمانية، وخلفه سعيد، فاحتذاه في كثير من سياسته، وخاصة من حيث الجيش وتسريحه.
فلما تخرج البارودي في المدرسة الحربية لم يجد عملًا؛ ولكنه لم يخلد إلى الراحة؛ بل أخذ توًّا يعمل في ميدان جديد، هو ميدان الشعر العربي، وسُرعان ما تيقظت مواهبه فيه. ونراه يقول إنه ورثه من قِبَل أمه:
أنا في الشعر عريق ... لم أرثه عن كلاله
كان إبراهيم خالي ... فيه مشهور المقاله
وشَعَرَ من أول الأمر أنه لا بد له من التمرين والإعداد، فانكب على صحف الشعر العربي يحاول أن يتخذ لصوته منها سندًا وإطارًا، ولم يعجبه الشعر الرديء الذي كان يعاصره وما يتصل به مما نُظم في عهود الركود القريبة، فانطلق يبحث عن غايته في شعر العصر العباسي وما سبقه في العصرين الجاهلي والإسلامي، ولم يلبث أن وجد طلبته وما يملك عليه لُبَّه، وكلما ازداد قراءة في هذا الشعر القديم ازداد به شغفًا وإعجابًا.
وهذا الطموح الذي جعله يتجاوز ما في عصره من شعر مسف إلى ما في العصور القديمة من شعر خصب رائع هو فرع من طموح واسع في نفس الفتى، وقد دفعه هذا الطموح إلى البحث عن بيئة جديدة غير بيئته، كما بحث في الشعر عن عصر جديد غير عصره، فسافر إلى الآستانة، واشتغل بوزارة الخارجية فيها، وثَقِف هناك آداب اللغتين الفارسية والتركية، ونظم فيهما بعض أشعاره، وظل ينظم في العربية، وأتاحت له مكتبات الآستانة وما فيها من ذخائر الشعر العربي فرصة ذهبية جديدة؛ ليتزود من دواوين العباسيين ومَن سبقوهم من الإسلاميين والجاهليين.
وفي هذه الأثناء زار إسماعيل الآستانة سنة 1863 ليشكر أولي الأمر فيها على تقليده ولاية مصر، فتعرف على البارودي، وقَرُبَ من نفسه، فضمه إلى حاشيته، وأصبحت له مكانة أثيرة عنده، فلما عاد إلى مصر صحبه معه. وأخذ الحظ يبتسم له فعُيِّن في سلاح الفرسان، وما هي إلا فترة قليلة حتى سافر إلى فرنسا مع طائفة من الضباط؛ ليشاهدوا استعراض الجيش الفرنسي السنوي، ولم يكتفوا بذلك فقد عبروا المانش إلى لندن؛ ليشاهدوا بعض الأعمال العسكرية في الديار الإنجليزية.
ورجع إلى وطنه ينعم بما ورث من ثراء وما تغدقه عليه الوظيفة من مال وجاه، وأخذ شعره في هذه الحقبة من حياته يصور متاعه بدنياه وما تجتليه عينه من مشاهد الطبيعة المصرية، كما أخذ يصور ما انطبعت عليه نفسه من الشجاعة والقوة والروح العسكرية. وحدث أن اندلعت ثورة ضد الدولة العثمانية في جزيرة إقريطش "كريت" سنة 1866 ورأى إسماعيل أن يمدها بفرقة مصرية، ورحل البارودي مع الفرقة، وأبلى في حرب الثوار بلاء حسنًا، فكافأته الدولة العلية ببعض أوسمتها، وفي هذه الحرب نظم نونيته المشهورة:
أخذ الكَرى بمعاقد الأجفان ... وهفا السرَى بأعنة الفرسان
ولما أعلنت روسيا الحرب على تركيا سنة 1877 مدت مصر قوسها تساعدها في تلك الحرب، وكان البارودي من خير من رموا عن هذه القوس، فأنعم عليه بأوسمة مختلفة، وتغنى ببلائه حينئذ، ومزج غناءه بشوق وحنين شديد إلى وطنه على نحو ما يرى قارئه في قصيدته:
هو البَيْنُ حتى لا سلامٌ ولا رَد ... ولا نظرة يقضي بها حقه الوَجْدُ
ورجع إلى مصر مرفوع الرأس، فعين مديرًا للشرقية، ثم محافظًا للعاصمة. وكانت الحركة القومية قد أخذت في الظهور، بعامل الصحف وقيام طائفة من المصلحين ينددون بإسماعيل وسياسته المالية الفاسدة وتمكينه للأجانب أن يتدخلوا في شئون الحكم المختلفة، وما رضي به من صندوق الدين والمراقبة الثنائية، ومد البارودي يده إلى القائمين على هذه الحركة تحدوه في ذلك نفسه الطموح، وكأنما حلم برجوع مجد آبائه من المماليك ممثَّلًا في شخصه.
ونزل إسماعيل عن ولاية مصر لابنه توفيق، فحاول في أول الأمر أن يستجيب إلى دعوة المصلحين، فوعد بإقامة الحكم النيابي، وعين البارودي ناظرًا أو وزيرًا للأوقاف، ثم أسند إليه وزارة الحربية. وسرعان ما نكث توفيق عهده للأمة، فلم يُقم لها مجلس الشورى الذي تنتظره، واستقال البارودي، ثم عاد مع وزارة جديدة، ولكن توفيقًا لم يمضِ في طلبات الشعب، فتطورت الأمور. وعُهد إلى شاعرنا بتأليف الوزارة، وثار الجيش بقيادة عرابي ثورته المعروفة سنة 1882 واستعان توفيق بحراب الإنجليز ضد الوطن وجيشه؛ حينئذ انضم البارودي إلى الثورة، وكان مترددًا كما يصور ذلك شعره؛ ولكنه عاد فحزم رأيه. ولما أخفقت الثورة قُدم إلى المحاكمة وحُكم عليه بالنفي إلى "سرنديب"، فظل بها سبعة عشر عامًا وبعض عام، يتغنى بآلامه وغربته وجروحه النفسية. وهناك تعلم الإنجليزية، وأخذ يؤلف مختاراته من الشعر القديم، فجمع لثلاثين شاعرًا عيون قصائدهم وأشعارهم. وأخيرًا صدر العفو عنه في سنة 1900 فعاد إلى وطنه، واتخذ من بيته منتدى للأدباء والشعراء، إلا أن حياته لم تطل به، فقد اختطفه الموت سنة 1904 ولم يكن قد طُبع ديوانه ولا مختاراته فطبعتهما أرملته، وبذلك قدَّمت للأجيال التالية هذين الكنزين النادرين من شعره ومنتخباته.

ب- شعره:
ما قدمنا من حياة البارودي يدل دلالة واضحة على أن مؤثرات كثيرة اشتركت في تكوين شخصيته الأدبية، وكان منها ما ترك أثرًا عميقًا في نفسه، ومنها ما وقف عند السطح والظاهر، فلم يترك أثرًا بعيدًا لا في نفسه ولا في شعره.
وأول ما يلاحظ من ذلك أنه من عنصر شركسي، كان له حكم مصر في وقت من الأوقات، وأورثه هذا العنصر حدة في المزاج وطموحًا واسعًا، وميلًا إلى حياة الحرب والفروسية. وهذا العنصر الوراثي يقابله عنصر عربي مكتسب من قراءاته للشعر القديم، وأضاف إلى هذا العنصر قراءات في الآداب التركية والفارسية، وفي الآداب الإنجليزية أخيرًا، ودعته ظروف حياته العسكرية إلى أن يسافر إلى أوربا ويشهد الحياة الأوربية. وهو بهذا كله يشبه الشعراء العباسيين الذين كانوا يلمون بالثقافات الأجنبية المعروفة لعصورهم، وإن كان من المحقق أنه لم يتأثر في شعره تأثرًا واضحًا بما ألم به من ثقافات غير الثقافة العربية؛ ولكنها -على كل حال- تضيف إلى شخصيته شيئًا جديدًا لا نراه عند معاصريه من الشعراء المصريين.
وليس هذا كل ما يُكوِّن شخصيته الأدبية، فهناك عنصر خطير كان له أعمق الأثر في تكوينه، وهو عنصر البيئة المصرية التي اضطرب في مشاهدها الطبيعية وأحداثها القومية والسياسية، وأثرت هذه البيئة في روحه وكيانه الأدبي؛ بل لقد استبدت به استبدادًا؛ حتى غدا في القرن الماضي شاعر مصر الذي لا يبارَى في تصوير الحياة المصرية من جميع أطرافها المكانية والزمانية.
وإذا أخذنا ننعم النظر في شعره -على ضوء هذه العناصر التي ألفت شخصيته- لاحظنا قوة العنصر العربي المكتسب، وهو عنصر لم يكتسبه بطريق التعلم على أساتذة اللغة والأدب في عصره؛ وإنما اكتسبه بطريق مباشرة؛ هي قراءة النماذج القديمة للعباسيين ومن سبقوهم من الإسلاميين والجاهليين، وما زال يقرأ فيها حتى استقرت في نفسه سليقة الشعر العربي الأصيلة، فصدر عنها في نظمه وشعره.
يقول الشيخ حسين المرصفي عنه في كتابه "الوسيلة الأدبية": "هذا الأمير الجليل ذو الشرف الأصيل والطبع البالغ نقاؤه والذهن المتناهي ذكاؤه لم يقرأ كتابًا في فن من فنون العربية، غير أنه لما بلغ سن التعقل وجد من طبعه ميلًا إلى قراءة الشعر وعمله، فكان يستمع بعض مَن له دراية وهو يقرأ بعض الدواوين، أو يقرأ بحضرته، حتى تصور في برهة يسيرة هيآت التراكيب العربية ومواقع المرفوعات منها والمنصوبات والمخفوضات حسب ما تقتضيه المعاني ... ثم استقل بقراءة دواوين الشعر ومشاهير الشعراء من العرب وغيرهم؛ حتى حفظ الكثير منها دون كلفة، واستثبت جميع معانيها ناقدًا شريفها من خسيسها، واقفًا على صوابها وخطئها، مدركًا ما ينبغي وفق مقام الكلام وما لا ينبغي، ثم جاء من صنعة الشعر باللائق بالأمراء".
ومعنى ذلك أنه لم يستنَّ سنة معاصريه من تعلم النحو والعروض والبديع حتى يُحسن نظم الشعر؛ وإنما استن سنة جديدة صحح بها موقف الشعر والشعراء، فردهم إلى الطريقة القديمة، أو بعبارة أدق: ارتد هو إلى تلك الطريقة، ونقصد طريقة الرواية التي كان يتلقن بها الشاعر الجاهلي والأموي أصول حرفته.
وكان هذا حدثًا خطيرًا في تاريخ شعرنا الذي تدهور إلى أساليب غثة مكسوة بخرق البديع البالية، تُكرَّرُ في صور من الهذيان على كل لسان. فأزال البارودي من طريقه هذه الأساليب، واتصل مباشرة بينابيع الشعر العربي القديمة في العصر العباسي وما قبله من عصور، ولم يلبث أن أساغها وتمثلها تمثلًا دقيقًا، فقد أُشْربتها روحه، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من شعره وفنه.
وواضح من ذلك أن مذهبه الفني لم يكن يقوم على نبذ القديم كله؛ وإنما كان يقوم على نبذ صورة خاصة هي صورة الشعر الغث الذي ينتجه عصره والعصور القريبة منه، أما الشعر العباسي وما سبقه فينبغي للشاعر ألا يَنْبذه؛ بل عليه أن يسير في دروبه ويصب على صيغه وقوالبه. وكان هذه الاتجاه يعد ثورة في عصره؛ لأنه خروج عن مألوف معاصريه، وعَوْدٌ بهم إلى أساليب لا يعرفونها ولا يألفونها، وكانت قد فسدت أذواقهم فأصبحت لا تقدرها قدرها ولا تشعر بما فيها من متاع وجمال.
أما البارودي فقد شعر بهذا المتاع والجمال إلى أبعد حد، وانطلق يصوغ شعره على طريقة العباسيين ومن سبقوهم، واتخذ ذلك مذهبًا له، وأعلنه في صراحة واضحة، فكان يحاكي الشعراء القدماء ويعارضهم من مثل: النابغة وبشار وأبي نواس والمتنبي وأبي فراس والشريف الرضي، وأتيح له أن يتفوق في أكثر معارضاته.
وهذا هو مذهبه الفني؛ بَعْثُ الأسلوب القديم في الشعر وتعمد إحيائه، وهو لا يموه في ذلك ولا يكذب؛ بل يصرح به ويدعو الشعراء إلى تقليده، ولعل من الطريف أن الشعر حين انفك عنده من الأساليب التي عاصرته أخذ يعبر في حرية عن مزاج الشاعر ونفسيته وكل ما يتصل به من أحداث.
فالبارودي إنما يستعير من القدماء إطارهم الذي يقوم على قوة الأسلوب وجزالته؛ ولكنه يملأ هذا الإطار بروحه وبشخصيته، وكأنها خاتم يطبع على كل مأثور له اسمه. ومن هنا يأخذ مكانته في الشعر العربي الحديث، فقد رد إليه متانته ورصانته، وفرض عليه نفسه وبيئته وعصره؛ بحيث أصبح شعرًا حيًّا يصور منشئه وقومه تصويرًا بارعًا.

رد مع اقتباس
 
 رقم المشاركة : ( 2 )
مصطفى شعبان
عضو نشيط
رقم العضوية : 3451
تاريخ التسجيل : Feb 2016
مكان الإقامة : الصين
عدد المشاركات : 12,782
عدد النقاط : 10
جهات الاتصال : إرسال رسالة عبر Skype إلى مصطفى شعبان

مصطفى شعبان غير موجود حالياً

   

افتراضي

كُتب : [ 04-24-2017 - 09:44 AM ]


ويستطيع القارئ أن يقرن ما قدمناه عن حياة البارودي الخاصة والعامة إلى ديوان فسيراها مرسومة فيه رسمًا دقيقًا بكل جزئياتها وتفصيلاتها، فحياته الأولى قبل الثورة العرابية وما ارتبط بها من نعيم العيش ورغده مصورة أوضح تصوير، فهو يصف لهوه ومرحه ومُتعه، كما يصف بيئته المصرية وما فيها من مشاهد الطير والأشجار والنبات، وله في ذلك طرائف كثيرة؛ كقوله في القطن وهو على سوقه:
القطن بين مُلوِّز ومنور ... كالغادة ازدانت بأنواع الحلَى1
فكأن عاقده كُرات زمرد ... وكأن زاهره كواكب في الروَا2
دبت به روح الحياة فلو وهت ... عنه القيود من الجداول قد مشى3
فأصوله الدكناء تسبح في الثرى ... وفروعه الخضراء تلعب في الهوا4
لم يَسْرِ فيه الطرف مذهب فكرة ... محدودة إلا تراجع المنى5
ويشترك في حروب الدولة العثمانية فيصف وقائعها وصفًا دقيقًا تسعفه مخيلة ماهرة في التقاط المرئيات، وعاطفة حماسية ملتهبة. وبذلك يعيد لنا فن الحماسة القديم الذي عَفَّى عليه الزمن؛ إذ ينفخ فيه حياة وروحًا جديدة.
وكان في قرارة نفسه يستشعر مجد آبائه المماليك الذين حكموا مصر، كما كان يستشعر مجد وطنه وما كشف علم الآثار المصرية من هذا المجد،
__________

1 الغادة: المرأة الشابة الجميلة.
2 العاقد: لوز القطن قبل تفتحه، والزاهر: الأبيض المشرق، والروا: حسن المنظر.
3 يقول: إن روح الحياة سرت فيه، ولولا مياه الجداول التي تمسك به لمشى.
4 الدكناء: الضارب لونها إلى السواد.
5 مذهب فكرة محدودة: مقدار جولة الفكر المحدودة، ويريد اللمحة، يقول: إنه كلما لمح هذا النبات رأى فيه ما يحقق آماله.

_____________________
وصور هذا الشعور في قصيدة وصف بها الهرمين، وهي أول قصيدة حديثة في آثارنا الفرعونية، ومما يقول فيها:
سل الجيزة الفيحاء عن هرمَيْ مصر ... لعلك تدري بعض ما لم تكن تدري
بناءان ردا صولة الدهر عنهما ... ومن عجب أن يغلبا صولة الدهر
أقاما على رغم الخطوب ليشهدا ... لبانيهما بين البرية بالفخر
فكم أمم في الدهر بادت وأعصر ... خلت، وهما أعجوبة العين والفكر
وبينهما بلهيب في زي رابض ... أكب على الكفين منه إلى الصدر1
مصانع فيها للعلوم غوامض ... تدل على أن ابن آدم ذو قدر
وتدعوه الحركة القومية، فيلبي الدعاء، ويأخذ في نظم شعره السياسي الذي يدعو فيه إلى الإصلاح والأخذ بنظام الشورى، ويزداد للدعوة حمية، فيطالب بتغيير الساسة ومن في يدهم الحكم لعهد إسماعيل، ويندفع في ثورة قوية، ملوحًا بأمله في أن يصير الأمر له، فمن ذلك قوله من قصيدة طويلة:
لكننا غرض للشر في زمن ... أهل العقول به في طاعة الْخمَل2
قامت به من رجال السوء طائفة ... أدهى على النفس من بؤس على ثَكَل3
ذلت بهم مصر بعد العز واضطربت ... قواعد الملك حتى ظل في خلل
وأصبحت دولة الفسطاط خاضعة ... بعد الإباء وكانت زهرة الدول4
فبادروا الأمر قبل الفوت وانتزعوا ... شكالة الريث فالدنيا مع العجل5
وقَلِّدوا أمركم شهمًا أخا ثقة ... يكون ردءًا لكم في الحادث الجلل6
يجلو البديهة باللفظ الوجيز إذا ... عز الخطاب وطاشت أسهم الجدل
__________

1 بلهيب: أبو الهول.
2 الخمل: جمع خامل.
3 الثكل: فقد الولد.
4 دولة الفسطاط: دولة مصر.
5 الشكالة: قيد الدابة، والريث: الإبطاء.
6 الردء: العون، والجلل: الخطير.

_________________
ويظله عهد توفيق، ويتولى الوزارة، فلا يخمد ما في نفسه من آمال؛ بل تزداد توهجًا واشتعالًا، وينضم إلى عرابي مع غيره من الثوار منشدًا مثل قوله:
فيا قوم هبوا إنما العمر فرصة ... وفي الدهر طرق جمة ومنافع
أرى أرؤسًا قد أينعت لحصادها ... فأين ولا أين السيوف القواطع1
وتخفق الثورة، ويَصْلى البارودي نار أعدائها بعد الإخفاق، فيُحاكم ويُنفى إلى سرنديب، ويتحول إلى دورة بائسة في حياته، ويتحول معه شعره، فيفيض بالألم والشكوى والشوق والحنين إلى وطنه، ويرثي من يموت من أهله، وكأنه يرثي نفسه. ومرثيته في زوجه الأولى:
أيد المنون قدحت أي زناد ... وأطرت أية شعلة بفؤادي2
سيل لاذع من الحزن والشجى والتفجع المرير. ويعود إلى وطنه، فيفرح فرحة الطائر ينطلق من قفصه، وينشد قصيدته:
أبابل مرأى العين أم هذه مصر ... فإني رأى فيها عيونًا هي السحر
وعلى هذه الشاكلة كان البارودي يصور نفسه وبيئته ووطنه وما مر به من أحداث تصويرًا صادقًا. ومن تمام هذا الصدق فيه شعوره الدقيق بعصره لا بأحداثه فحسب؛ بل أيضًا بمخترعاته، وكان يُجريها في تشبيهاته واستعاراته كقوله في الغزل:
وسرت بجسمي كهرباءة حسنه ... فمن العروق به سلوك تخبر
وبما قدمنا كله كان البارودي أول المجددين في الشعر العربي الحديث، وهو تجديد كان يقوم عنده على أصلين: بعث الأسلوب القديم في الشعر؛ بحيث تعود إليه جزالته ورصانته، وتصوير الشاعر لنفسه وقومه وبيئته وعصره تصويرًا مخلصًا صادقًا.

__________
1 أينعت: أدركت وحان قطافها.
2 المنون: الموت، والزناد: حجر تقدح به النار.
__________
مصدر ترجمة البارودي:
الأدب العربي المعاصر في مصر
المؤلف: أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف (المتوفى: 1426هـ)
الناشر: دار المعارف
الطبعة: الثالثة عشرة
عدد الأجزاء: 1

رد مع اقتباس
 
 رقم المشاركة : ( 3 )
عبدالله بنعلي
عضو نشيط
رقم العضوية : 1630
تاريخ التسجيل : Apr 2014
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 6,053
عدد النقاط : 10
جهات الاتصال :

عبدالله بنعلي غير موجود حالياً

   

افتراضي

كُتب : [ 04-24-2017 - 10:04 AM ]


منقول من منتديات بجيلة
محمود سامي البارودي


1255- 1322هـ 1838- 1904م


البارودي صدى عصره


عندما نذكر البارودي نذكر الثورة العرابية التي اشترك فيها ، وناضل من أجلها ، ونفي عن

وطنه بسببه .

وكان صدى لعصره ، عصر ما قبل الثورة العرابية وما بعدها ، و ترجمانا أمينا لمشاعر

مصر فيه .


شاعرية البارودي


كأنما خلق البارودي ليجدد الشعر ، ويحيي دارس عروبته ، فقد كان منذ حداثته يميل إلى

آداب اللغة ويوجه ذلك الميل إلى غشيان مجالس الأدب ، واستماع ما يلقى فيها من منثور

ومنظوم ، ثم صار يقرأ على الأدباء ويشاطرهم فقه ما يقرأ ن ثم اشتغل وحده بقراءة

الدواوين بالدقة الإمعان حتى وصل في قليل من الزمن إلى ما لا يدرك في متطاول الأزمان

، فنظم الشعر دون سن العشرين وصار يحذو حذو الجاهليين والإسلاميين ، فلا يقصر عنهم

،و لا يقع دونهم .

وإن تعجب فعجب البارودي لم يدرس قواعد العروض والقافية ولا قرأ النحو والتصريف

ومعاجم اللغة ، وإنما اتخذ الأدب أمامه ووصل إلى ما وصل إليه عن طريق محاكاته للقدماء

، فلا تجد له ألفاظا نابية ، ولا أساليب ضعيفة ، كأنما هو من الإعراب النابتين في البادية ،

فطرة سليمة ، ونفس صافية ، وإلهام إلهي ، وتعهد سماوي .


مميزات شعر البارودي



1- شعره في أيام الاغتراب ممتلئ فني رصين يحاكي فحول القرنين الثالث والرابع من

أمثال أبي تمام ،والبحتري ، والمتنبي ، وابن الرومي وغيرهم

2- شعره يمتاز بالقوة وجزالة اللفظ وفخامة النظم ، ومتانة القافية وصفاء العبارة

وخصوصا في آخر عهده

3- ألفاظ شعره ألفاظ فحلة ، جزلة قوية بريئة عن عنجهية البداوة ووحشتها .

4- أساليبه عربية قوية متينة الأسر رصينة السبك ، نطالع فيها قوة الجاهليين وعذوبة

الإسلاميين ، ودقة العباسيين ، ورقة الحضارة المصرية .

5- أغراض شعره سار البارودي في طريق الشعراء القدماء وحطم القيود والأغلال ، ففخر
،ووصف وشكا ، وحن إلى الوطن ، وتعزل ومدح ، وهجاء ورثى ، وقال في السياسة

، وعالج جميع الإغراض التي عالجوها ، وقد برز في وصف المعارك والشكوى

والحنين إلى الوطن وفي الوصف والفخر والتمدح بشمائله وصفاته الفذة.


مظاهر نهضة الشعر على يد البارودي

1- حين ظهر البارودي أخذ ينهض بالشعر نهضة أحيت مكانته ، ووثب به وثبة ردت

صولته ، فأرسله جزل العبارة ، فخم الأسلوب يأسر به الألباب ، ويسحر القلوب ،

وطار به في سماء المتقدمين ، وحلق في أفق الجاهليين والإسلاميين

2- لقد لبث الشعر يتعثر في أذيال الجمود والتكلف ، حتى أتاح الله له البارودي فرفع لواءه

، وشاد بناءه

3- كانت أعظم المظاهر في تطور الشعر على أيدي مدرسة البارودي هي : النزوع به إلى

أساليب البلاغة العربية وترك الإفراط في المبالغات وعدم الاكتراث للمحسنات البديعية .
4- وما من حيث الإغراض فقد أعرض الشعراء عن الفخر بتاتا والمدح والرثاء إلا في

عظما ء الرجال على إنه بعد ذلك قد شارك في الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية

وخاض به الفنون في فنون الفلسفة ، وقواعد الأخلاق ، على أن البارودي مع سمو أدبه

وعلو كعبه لم يعد كما ذكرنا أغراض السابقين ولم يرم إلى غير أهداف

الأقدمين : من غزل ونسيب ومدح وتشبيب ، وإطراء ، وهجاء وفخر أو رثاء ووصف

إلى حد ما وبكاء ديار ووقوف لدمن وآثار .

5- إذا جعلنا الحوادث الكبرى وفي ومقدمتها الثورة العرابية ثم الحرب الكبرى مجازا انتقل

عليه الشعر من حال إلى حال فإننا لا نسى أن من تلك الحوادث ظهر البارودي فإنه كما

يقول النقاد والباحثون ضفر بالشعر من حضيضه الراكد الآسن إلى ثبج بحر خضم تتلاطم

أمواجه ويعب عبابه ، فرأينا في شعره جلجلة كلام الأقدمين ، وقوة روحهم وسمعنا على بعد

العصر جزالة أبي تمام وصفاء البحتري ووصف المتنبي للحروب



التجديد بين البارودي وشوقي



كان أثر النهضة في تجديد الشعر مختلفا فتجديد البارودي كان من ناحية الرجوع بالشعر

العربي لا إلى العصر القريب المنحط الذي لم يتجاوز فيه الشعر التهاني والتعازي وما

شاكلهما أو الخلاعة والمجون في ألفاظ بذيئة ، بل إلى العصر العباسي البعيد فترسم آثار أبي

نواس وأبي فراس الحمداني والمتنبي ، والشريف الرضي من حيث الأغراض والمعاني

وفحولة اللفظ وما تجديد شوقي وحافظ وأضرابهما فكان بتطعيم الشعر العربي بالشعر

الأجنبي قليلا ، كما يفهم من التجديد ولذلك كان أوضح من تجديد البارودي ولكنهما مع هذا

كان حظهما من القديم أكثر من حظهما من الجديد يقول هيكل في مقدمته لديوان شوقي " إن

حكمة شوقي وما يصدر عنه من وصف وغزل وما يميز شعره جميعا يبدو وكأنما شوقي

عربي لا يتأثر بالحياة الغربية إلا بمقدار ، وهذا طبيعي ما دام شوقي شاعر العرب

والمسلمين وما دام يجد في الحضارة الشرقية القديمة ما يغنيه عن استعارة لبوس المدنية

الغربية إلا بالمقدار الذي تحتاج إليه أمم الشرق في حياتها الحاضرة لسيرها في سبيل

المنافسة العامة ، ولقد ترى شوقي يغلو في شرقيته وعربيته أحيانا ولقد تراه يعتمد ذلك في

لفظه ومعناه ، وسبب ذلك ما يراه من ضرورة مقاومة النزعة القائمة بنفوس كثيرة تصبو

إلى نسيان ما خلف السلف من تراث والأخذ بكل ما يلمع به الحاضر من وراء الغرب

وقد يكون غلو شوقي أكثر وضوحا في جانب اللغة ، منه ف جانب المعاني فهو بمعانيه

وصوره ما وخيالاته يحيط بما في الغرب بكل ما يسيغه الطبع الشرقي وترضاه الحضارة

الشرقية أما لغته فتعتمد على بعث القديم من الألفاظ التي نسيها الناس و صاروا لا يجيدونها

لأنهم لا يعرفونها ولعل سر ذلك عند شوقي أن البعث وسيلة من وسائل التجديد ، بل لقد

يكون البعث آكد وسائل التجديد ، نتيجة أن وجد من أرباب اللغة من يفيضون على الألفاظ

القديمة روحا تكفل حياتها .

دراسات في الأدب الحديث ومدارسه
د. محمد خفاجي


رد مع اقتباس
 
 رقم المشاركة : ( 4 )
عبدالله بنعلي
عضو نشيط
رقم العضوية : 1630
تاريخ التسجيل : Apr 2014
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 6,053
عدد النقاط : 10
جهات الاتصال :

عبدالله بنعلي غير موجود حالياً

   

افتراضي

كُتب : [ 04-24-2017 - 10:06 AM ]


بحث حول محمود سامي البارودي رائد الشعر العربي الحديث
مُساهمة ngadi pil في الخميس ديسمبر 17, 2009 8:47 am
محمود سامي البارودي رائد الشعر العربي الحديث



محيط - هاني ضوَّه

في تاريخ الشعر العربي شخصيات أثرت وطورت الشعر وأحيته بعد ركود، ومن هؤلاء محمود سامي البارودي، رب السيف والقلب، كما يلقبونه، صاحب تلك الروح الشفافة التي تتقاطر عذوبة ورقة على ثُنيّات أبياته.

ولد محمود سامي البارودي عام 1838م بمصر وتوفي فيها عام 1904م لأبوين من الجراسكة ، وكان أبوه حسن حسين بك البارودي من أمراء المدفعية ثم صار مديرا لـ (بربر) و(دنقلة) في عهد محمد علي باشا والي مصر ، وكان جده لأبيه عبد الله بك الجرسكي كشافا في عهد محمد علي مأمورا وكان أحد أجداد الشاعر مراد بن يوسف شاويش ملتزما في العصر العثماني لبلدة (آيتاي البارود) إحدى بلاد محافظة البحيرة، ومن ثم لقب البارودي نسبة إليها وحمل أبناؤه هذا اللقب .

وكان أجداده يرقون بنسبهم إلى المماليك حكام مصر وكان الشاعر شديد الاعتزاز بهذا النسب في شعره وفي كل أعماله ، الذي كان له فيه اثر قوي في جميع أدوار حياته وفي المصير الذي انتهى أليه .

تلقي البارودي وهو في السابعة من عمره دروسه الأولى في البيت فتعلم القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ النحو والصرف، ودرس شيئًا من الفقه والتاريخ والحساب، ثم التحق وهو في الثانية عشرة من عمره بالمدرسة الحربية وفي هذه الفترة بدأ يظهر شغفًا بالشعر العربي وشعرائه الفحول، وبعد أربع سنوات من الدراسة تخرّج عام 1845م برتبة باششاويش ثم سافر إلى إستانبول مقر الخلافة العثمانية، والتحق بوزارة الخارجية، وتمكن في أثناء إقامته من إتقان التركية والفارسية ومطالعة آدابهما، وحفظ كثيرًا من أشعارهما، ودعته سليقته الشعرية المتوهجة إلى نظم الشعر بهما كما ينظم بالعربية.

ولسوء حظ الأدب وسوء حظه أن ولاية مصر قد آلت آنذاك إلى عباس الأول ثم إلى سعيد وكان عباس قد عدل عن خطة محمد علي حين رأى الدولة العثمانية تنظر إلى الجيش المصري بعين الريبة والقلق لذا تعطلت النهضة التي كانت متصلة بالجيش في الصناعة والتعليم .

ترقى البارودي في السلك العسكري والسلك المدني، وحصل على أعلى المراتب، فكان وزيراً للمعارف والأوقاف ووزيراً للحربية والبحرية في عهد الخديوي توفيق، ثم أصبح رئيساً للوزراء قبيل اندلاع الثورة العرابية التي شارك فيها وكان من أبرز وجوهها، وبعد إخفاق الثورة واحتلال الإنجليز لمصر سنة 1882، حوكم مع غيره من قادة الثورة وحكم عليه بالنفي المؤبد إلى جزيرة سرنديب "سريلانكا حالياً"، وظل هناك حتى عاد إلى مصر سنة 1900م، بناء على نصيحة الأطباء بعد أن فقد بصره.

مع مجموعة من رفاقه الثوار اطل شاعرنا على ساحل مصر ليلقي عليه نظرة الوداع ، وما تكاد الباخرة تغادر أرض النيل حتى ترتفع عواطف الشاعر الدافقة لتتحول إلى مشهد حزين ينتهي إلي تجربة صادقة تجسدها قصيدته النونية التي يبدؤها بقوله:

ولما وقفنا للوداع وأسبلت

أهبت بصبري أن يعود فعزّني

وما هي ألا خطرة ثم أقلعت

مدامعنا فوق الترائب كالمزنٍ

وناديت حلمي أن يثوب فلم يغن

بنا عن شطوط الحي أجنحة السفن

كان البارودي في شعره السياسي ناقداً اجتماعياً وثائراً وطنياً ومصلحاً صريحاً شديد الحرص على حرية أبناء بلده ناقداً لهوانهم وذلهم وتهاونهم في الرد على الظلم والسكوت عليه يقول :

وكيف ترون الذل دار إقـــامـة وذلك فضل الله في الأرض واسـعُ

أرى رؤوساً قد أينعت لحصادهــا فأين ـ ولا أين ـ السيف القواطعُ ؟

فكونوا حصيدا خامدين أو افزعـوا إلى الحرب حتى يدفع الضيم دافـع

أهبت فعاد الصوت لم يقض حاجـة أليّ ولبّاني الصدى وهو طائـــعُ

فلم ادرِ أن الله صور قبلكـــــم تماثيل يخلق لهن مسامـــــعُ

وكثيرا ما تغنى بمصر وجمالها وسحرها لاسيما في المنفى إذ ظلت تلك القصائد تؤكد مشاعره تجاه وطنه وأحبابه يقول :

فيا (مصر) مدّ الله ظلك وآرتوى ثراك بسلسال من النيل دافــقِ

ولا برحت تمتار منك يد الصـبا أريجا يداوي عرفه كل ناشــقِ

فانت حمى قومي ومشعب أسرتي وملعب أترابي ، ومجرى سوابقي

بلاد بها حل الشباب تمائمـــي وناط نجاد المشرفيّ بعانقـــي

امتازت مراثي البلاد عند البارودي بصدق الإحساس ورقة العاطفة لذا فنه لم يرث صديقاً أو قريباً إلا كان رثاؤه صادقاً بعيداً عن شعر المناسبات، ويبدو على شعره الحزن العميق بعد أن تسلم خبر وفاة زوجته وتعد هذه القصيدة من عيون الشعر العربي في رثاء الزوجات يقول:

أَيَدَ المنون قدحت أي زنـــاد أطرت أية شعلة بفــــؤادي

أوهنت عزمي وهو حملة فيلق وحطمت عودي وهو رمح طراد

لا ادري هل خطب ألم بساحتي فأناخ ، أم سهم أصاب سوادي ؟

أقذى العيون فأسبلت بمدامـع تجري على الخدين كالفرصـاد

ما كنت احسبني أراع لحـادث حتى منيت به فأوهـــن آدي

أبلتني الحسرات حتى لم يكـد جسمي يلوح لأعين الـــعوّاد

استنجد الزفرات وهي لوافـح وأسفه العبرات وهي بــوادي

ويعد البارودي باعث النهضة الشعرية الحديثة في الشعر العربي، فقد نجح في تحميل الإطار القديم تجارب حياته الخاصة، كما نجح في إعادة الشعر العربي إلى ما كان عليه في عصوره الزاهرة، فأضحى شعره يشاكل شعر الفحول في صدر العصر العباسي. وساعده ذكاؤه الحاد وموهبته الفذة على تحقيق ذلك الهدف بمعارضة الشعراء الأقدمين وتقليد أساليبهم وتراكيبهم، وبذلك أصبح رائد حركة الإحياء في الأدب العربي الحديث، وكان عظيم التأثير في المدارس الشعرية التالية، وقد صنف مختاراته التي جمعها لثلاثين شاعراً، وله ديوان في جزأين أعادت طبعه مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري وكرمته فأطلقت اسمه على إحدى دورات جوائزها للإبداع الشعري، (الدورة الثالثة عام 1992م).

بعد أن بلغ الستين من عمره اشتدت عليه وطأة المرض وضعف بصره فتقرر عودته إلى وطنه مصر للعلاج ، فعاد إلى مصر يوم 12 سبتمبر عام 1899 وكانت فرحته غامرة بعودته إلى الوطن وأنشد:

أبابلَ رأي العين أم هذه مصـر ُ *** فإني أرى فيها عيوناً هي السحرُ

نواعسَ أيقظن الهوى بلواحـظٍ *** تدين لها بالفتْكةِ البيضُ و السمرُ

فليس لعقلٍ دون سلطانها حـمىً *** ولا لفؤادٍ من غشْيَانِها سترُ

فإن يكُ موسى أبطل السحرَ مرةً *** فذلك عصر المعجزات و ذا عصرُ

بعد عودته إلى القاهرة ترك العمل السياسي، وفتح بيته للأدباء والشعراء، يستمع إليهم، ويسمعون منه، وكان على رأسهم شوقي وحافظ ومطران، وإسماعيل صبري، وقد تأثروا به ونسجوا على منواله، فخطوا بالشعر خطوات واسعة، وأُطلق عليهم "مدرسة النهضة" أو "مدرسة الأحياء".

ولم تطل الحياة بالبارودي بعد رجوعه، فلقي ربه في 4 من شوال 1322هـ ، 12 من ديسمبر 1904م، بعد سلسلة من الكفاح والنضال من أجل إستقلال مصر وحريتها وعزتها.


رد مع اقتباس
إضافة رد


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على الموضوعات
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الموضوعات المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى الردود آخر مشاركة
من أعلام الأدب في العصر الحديث (26): الطيب صالح مصطفى شعبان واحة الأدب 0 09-10-2017 06:33 AM
من أعلام الأدب في العصر الحديث (17): محمود حسن إسماعيل مصطفى شعبان واحة الأدب 3 07-19-2017 12:03 PM
من أعلام الأدب في العصر الحديث (15): علي محمود طه مصطفى شعبان واحة الأدب 0 07-08-2017 06:29 AM
من أعلام الأدب في العصر الحديث (11): محمود تيمور مصطفى شعبان واحة الأدب 0 06-10-2017 08:57 AM
من أعلام الأدب في العصر الحديث (8): عباس محمود العقاد مصطفى شعبان واحة الأدب 1 05-28-2017 08:16 AM


الساعة الآن 06:05 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2025, vBulletin Solutions, Inc. Trans by