البلاغيون والإعجاز البياني خطوات على الطريق
من كتاب الإعجاز البياني للقرآن لعائشة بنت الشاطئ
هذا الإجماع على إعجاز البيان القرآني، هو الذي نقل القضية إلى الميدان البلاغي على وجه التخصيص، إلى جانب ما يعرض له المفسرون، وبخاصة البلاغيون منهم، من ملاحظ بلاغية في سياق تفسيرهم لآيات الكتاب المحكم.
وقد ظهرت محاولات مبكرة في الإعجاز البلاغي، واشتهر عبد القاهر الجرجاني بأنه صاحب مذهب الإعجاز في النظم، واشتهر أبو بكر الباقلانى بأنه أول من بسط القول في بلاغة القرآن.
والواقع أن كل المصنفات الأولى التي تحمل عنوان (نظم القرآن) تشير إلى أن مصنفيها اتجهوا إلى الدرس البلاغي "احتجاجاً لنظم القرآن" كما قال الجاحظ في تقديمه كتاب (نظم القرآن) إلى الفتح بن خاقان، ومثله كتاب أبي بكر السجستاني في (نظم القرآن) والكتابان من تراث القرن الثالث.
وإذا كنا لا نملك الحكم على مناهج المصنفين الأوائل في الإعجاز البلاغي، ممن لم تصل إلينا كتبهم، فلننظر في مناهج الذين بقيت كتبهم معالم لخطواتهم على الطريق.
سبق "الخطابي" من القرن الرابع الهجري - ت 388 هـ - في رسالته (بيان إعجاز القرآن) إلى شرح فكرة الإعجاز بالنظم، إيضاحاً للإعجاز من جهة البلاغة "الذي قال به الأكثرون من علماء أهل النظر" قبله، وإن كانت فكرتهم فيه قائمة على نوع من التقليد وضرب من غلبة الظن. أو كما قال:
"وفي كيفيتها - جهة البلاغة - يعرض لهم إشكال ويصعب عليهم منه الانفصال. ووجدتُ عامة أهل هذه المقالة - الإعجاز من جهة البلاغة - قد جروا في تسليم هذه الصفة للقرآن على نوع من التقليد وضرب من غلبة الظن دون التحقيق له وإحاطة العلم به، ولذلك صاروا إذا سئلوا عن تحديد هذه البلاغة التي أختص بها القرآن، الفائقة في وصفها سائر البلاغات، وعن المعنى الذي يتميز به عن سائر أنواع الكلام الموصوف بالبلاغة، قالوا: إنه لا يمكننا تصويره ولا تحديده بأمر ظاهر نعلم به مباينة القرآن غيره من الكلام، وإنما يعرفه العالمون عند سماعه ضرباً من المعرفة لا يمكن تحديده. وأحالوا على سائر أجناس الكلام الذي يقع فيه التفاضل، فتقع في نفوس العلماء به عند سماعه معرفةُ ذلك، ويتميز في أفهامهم قبيلُ الفاضل من المفضول منه. قالوا: وقد يخفى سببه عند البحث ويظهر أثره في النفس حتى لا يلتبس على ذوي العلم والمعرفة به. قالوا: وقد توجد لبعض الكلام عذوبة في السمع وهشاشة في النفس لا يوجد مثلها لغيره منه، والكلامان معاً فصيحان، ثم لا يوقف لشيء من ذلك على علة.
"قلت: وهذا لا يقنع في مثل هذا العلم، ولا يشَفى من داء الجهل به، وإنما هو إشكال أُحِيلَ على إبهام. . .
"فأما من لم يرضَ من المعرفة بظاهر السمة دون البحث عن ظاهر العلة. . . فإنه يقول إن الذي يوجد لهذا الكلام من العذوبة في حس السامع الهشاشة في نفسه، وما يتحلى به من الرونق والبهجة التي يباين بها سائر الكلام حتى يكون له هذا الصنيع في القلوب وتَحصى الأقوال عن معارضته وتنقطع به الأطماع عنها، أمر لابد له من سبب، بوجوده يجب له هذا الحكمُ وبحصوله يستحق هذا الوصف" 24: 26
ومناط البلاغة في النظم القرآني، عند الخطابي، إنه "اللفظ في مكانه إذا أبدل فسد معناه أو ضاع الرونق الذي يكون منه سقوط البلاغة" 29
وهذا الملحظ الدقيق، هو المحور الذي أدار عليه عبد الظاهر مذهبه في الإعجاز بالنظم، وهو أيضاً مما يلتقي - إلى حد ما - مع جوهر فكرتنا في الإعجاز البياني، ثم نختلف بعد ذلك في تحقيق مغزاه ولمح أبعاده وطريق الاحتجاج له:
فالخطابي حين يقول بسقوط البلاغة لفساد المعنى أو ضياع الرونق، يتجه إلى الرونق اللفظي فيجعله غير فساد المعنى.
وسنرى الجرجاني يعتمد هذه التفرقة بين المعنى واللفظ أساساً لنظريته في النظم، على حين لا نرى اللفظ منفصلاً عن معناه بحيث يمكن أن يصح أحدهما والآخر فاسد، بل يفسد المعنى بفساد لفظه، ولا عبرة عندنا برونق لفظي مع فساد المعنى. ثم إن الخطابي في شرح فكرته في النظم المعجز، يرى من الإعجاز أن تأتي بلاغات القرآن جامعة لطبقات ثلاث متفاوتة من حيث المستوى بعد استبعاد الهجين المذموم. قال:
"والعلة فيه - يعني إعجاز القرآن من جهة البلاغة - أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها في نسبة التبيان متفاوتة ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية: فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز الطلق. وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود، دون النوع الهجين المذموم الذي لا يوجد في القرآن شيء منه البتة:
"فالقسم الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه. والقسم الثاني أوسطه وأقصده، والقسم الثالث أدناه وأقربه، فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع من أنواعها شعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة" 26
والعبارة موهمة، قد يُفهم منها أن في القرآن ما هو من الدرجة العليا في البلاغة وفيه ما هو من أوسطها وأدناها. وذلك مردود عندنا من ناحيتين:
أولاهما: أن فهمنا للإعجاز البياني، فوت لأعلى درجات البلاغة دون أوسطها وأدناها.
والأخرى، أن هذه الدرجات الثلاث لا تجتمع، بالضرورة، في السورة الواحدة، وبسورة واحدة كان التحدي والمعاجزة.
وسبق "الخطابي" أيضاً إلى لمح فروق دقيقة في الدلالة، لألفاظ قرآنية جرت معاجمنا وكتب المفسرين على القول بترادفها مع "ألفاظ أخرى في معناها" مثل: العلم والمعرف، الحمد والشكر، العتق وفك الرقبة، (29: 33) . . .
وهذا أيضاً مما نتزود به لطريقنا إلى فهم الإعجاز البياني، على ما سوف نوضحه في: "الترادف وسر الكلمة".
وتجرد الخطابي لدفع شبهات من جادلوا في بلاغة عبارات قرآنية قالوا إنها جاءت على غير المسموع من فصيح كلام العرب. وفي ردَّ الخطابي عليهم ملاحظُ دقيقة، غير أنا نختلف معه، من حيث المبدأ، في قبول عرض العبارات القرآنية على ما نقل عصر التدوين من فصيح كلام العرب. والأصل أن يعرض هذا الذي نقلوه على القرآن، إذ هو الفصحى والنص الموثق الذي لم يصل إلينا من أصيل العربية بنص آخر صح له مثل ما صح للقرآن من توثيق يحميه من شوائب الرواية النقلية، وما لألفاظه من حرمة لا تجيز رواية بالمعنى، فضلاً عما في الشواهد الشعرية من ضرورات لا مجال لمثلها في الشواهد القرآنية.
وتفرغ الخطابي في النصف الأخير من رسالته، لنقض ما سموه "معارضات للقرآن" من مدّعي النبوة، فبسط القول في معنى المعارضة وشروطها ورسومها، وضرب الأمثلة من معارضات امرئ القيس وعلقمة في وصف الفرس، وامرئ القيس والحارث بن التوءم اليشكرى في إجازة أبيات، كما ضرب أمثلة من تنازع الشاعرين معنى واحداً، كأبيات في وصف الليل لامرئ القيس والنابغة الذبيانى، وفي وصف الخمر للأعشى والأخطل، وفي صفة الخيل لأبي دؤاد الإيادي والنابغة الجعدي. وقابل هذا كله إسفاف مسيلمة الكذاب وسُخف من تكلم في الفيل مبيناً سقم كلامهم وعدم استيفائه شروط المعارضة ورسومها. . .
ولهذا الفصل من رسالة الخطابي قيمته في المباحث البلاغية والنقدية المبكرة. ونرى مع ذلك أن أبا سليمان كان في غنى عن الاشتغال بهذيان من ادّعوا النبوة بعد عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجاءوا بسخافات هابطة سقيمة يعارضون بها القرآن فيما زعموا. وهي عندنا أهون من أن توضع في الميزان أو يشار إليها في مجال الاحتجاج لإعجاز القرآن من جهة البلاغة. ومجرد ذكرها في هذا المقام الجليل، ولو للكشف عن سقمها وإسفافها، يرفع شأنها ويعطيها من القيمة ما لا تستحق. . .
* * *