المفارقة في قصيدة الوصايا لاحمد مطر

[هاني أبو غليون]

المفارقة في قصيدة الوصايا لاحمد مطر
الكاتب : هاني أبو غليون

المفارقة مصطلح دخل الأدب العربي حديثا عن طريق الآداب الغربية , و لتعريف هذا المصطلح والذي اتفق على انه مصطلح مراوغ نجده من مادة فَـرَق, الفَـرْق : خلاف الجمع , وفارق الشيء مفارقة و فراقا : باينه (1)

1 ـ تعريف المفارقة :

وعرّف ميويك المفارقة بأنها طريقة في الكتابة تريد أن تترك السؤال قائما عن المعنى الحرفي المقصود , فثمة تأجيل ابدي للمغزى وهو قول شيء بطريقة تستثير لا تفسيرا واحدا بل سلسلة لا تنتهي من التفسيرات (2) .

وإذا كنا قد وصفنا المصطلح بأنه مراوغ , فان المفارقة عينها توصف بأنها لعبة , لكنها ليست لعبة عادية بل لعبة متناقضات , فلقد عرّف شليجل المفارقة : " انه لا يمكننا أن نصل إلى المفارقة إلا بعد أن تكون الأحداث أو الناس , بل الحياة بأسرها مُدْرَكة وقابلة للتمثيل بوصفها لعبة , فالحياة حشد من التناقضات والمتعارضات التي لا يمكن الإمساك بها في إطار مُوَحّد من الإدراك , إلا بعد أن تصل إلى حالة من إدراك أن المفارقة هي جوهر الحياة " (3) .

إذا اتفقنا على أن المفارقة لعبة , فان أي لعبة تحتاج لنشاط عقلي لإتقانها أو فهمها,لذا نجد سيزا قاسم تحدث عن المفارقة بقولها : " المفارقة لعبة عقلية من أرقى النشاط العقلي و أكثرها تعقيدا , يستخدم لقتل العاطفة المفرطة وللقضاء على المظهر الزائف و تقوم على استراتيجية الإحباط واللامبالاة وخيبة الأمل ولكنها ـ في الوقت نفسه ـ تنطوي على جانب ايجابي فقد ننظر إليها على أنها سلاح هجومي فعال وهذا السلاح هو الضحك الذي يتولد من التوتر الحاد و الضغط الذي لا بد أن ينفجر .(4)

نبيلة إبراهيم تعرفها : " المفارقة لعبة لغوية ماهرة و ذكية بين طرفين : صانع المفارقة , و قارئها , على نحو يقدم فيه صانع المفارقة النص بطريقة تستثير القارئ و تدعوه إلى رفضه بمعناه الحرفي وذلك لصالح المعنى الخفي الذي غالبا ما يكون المعنى الضد , وهو في أثناء ذلك يجعل اللغة يرتطم بعضها ببعض , بحيث لا يهدأ للقارئ بال إلا بعد أن يصل إلى المعنى الذي يرتضيه ليستقر عنده " (5)


2 ـ أنواع المفارقة

1ـ 2 المفارقة اللفظية
هي شكل من أشكال القول يُساق فيه معنى ما , في حين يُقصد منه معنى آخر , يخالف غالبا المعنى السطحي الظاهر , فهي التناقض بين المعاني الحرفية للكلمة و بين ما يقصده المؤلف .

2 ـ 2 مفارقة الفجاءة :
وتقوم هذه المفارقة على مخالفة ما يتوقعه المرء في الموقف الذي يمر به فيفاجأ تماما لما في ذهنه (7)

3 ـ 2 المفارقة الدرامية
تسمى أحيانا مفارقة سوفوكليس نسبة إلى المسرحي اليوناني لذلك ارتبطت في الأساس بالمسرح مع وجودها في أعمال أخرى وتكون هذه المفارقة عندما نرى شخصية تتصرف بطريقة تتصف بالجهل بحقيقة ما يدور حولها (8)

4 ـ 2 المفارقة الرومانسية :
وفيها يقوم الكاتب يخلق وهم جمالي على شكل ما وفجأة يقوم بتدمير هذا الوهم و تحطيمه من خلال تغيير أو انقلابه في النبرة أو الأسلوب أو من خلال ملاحظة ذاتية سريعة(9)

5 ـ 2 المفارقة السياقية / التصويرية
تعتمد على حسن الشاعر الذي يرى به الأشياء و الأحداث من حوله و تصويرها بمنظور المفارقة , ويترك للمراقب تحليلها واستنباط أبعدها الفلسفية و الشعورية و كشف خيوط تعارضها (10)


3 ـ عناصر المفارقة
و أي عمل فني لا بد له من عناصر فالمفارقة لا تتم إلا بعناصر وهي :

1 ـ 3 المرسل :
وهو صانع المفارقة وهو الذي يحكم غلق بناء المفارقة الشكلي و فتحها دلاليا في آن واحد وهو أما يقول شيئا و يقصد شيئا آخر , أو يقول شيئا بينما يفهم المتلقي شيئا آخر

2 ـ 3 الرسالة :
وهي النص المفارق الخاضع للتأويل و يلزمها وحدة البناء و التنسيق الدقيق بالإضافة إلى وجود القرينة أو الكلمة المفتاحية , أي ما تحمله المفارقة من دلالات نقيضه للدلالة المعجمية . (11)

3 ـ 3 المستقبل :
متلق , واع , حذر , يعيد إنتاج الرسالة (12)

4 ـ وظيفة المفارقة :

المفارقة وظيفة إصلاحية في الأساس فهي تشبه أداة التوازن التي تبقى الحياة متوازنة فتعيد للحياة توازنها عندما تحمل على مجمل الحد المفرط , والمفارقة أداة أسلوبية فعالة في تنمية قوى التماسك الدلالي للنص , ذلك باعتبار بنية المفارقة جزءا من بنيه نصية اكبر وتوظيفها في الشعر يجعلها تحقق أغراضا متعددة منها أنها تباغت القارئ و تثير انتباهه و تحفزه على التفكير و التأمل في موضوع المفارقة (13)

وترى نبيلة إبراهيم أن المفارقة لغة اتصال سري بين الكاتب و القارئ , فقد تكون سلاحا للهجوم الساخر و قد تكون أشبه بستار رقيق يشف عما وراءه من هزيمة الإنسان (14)

والتشويق المفعم بالحيوية في المفارقة يقوم عندما يتم وضع الضروف المحتملة أو الشخصيات أو البواعث أو المبادئ في وضع يتصف بالتناقض بحيث يصبح الخير و الشر نسيجا متداخلا في كل جانب و بحيث نرى أنفسنا مجبرين على إعطاء كل جانب حصة متساوية من التعاطف (15)

وتستخدم المفارقة في نهاية المطاف لفشل كل وسائل الإقناع و نفاذ الحجج (16)


5 ـ السخرية في المفارقة :

المفارقة ترتبط بكثير من أشكال التعبير الفني , فهي تعد خليطا من الهجاء و فن السخرية (17) فالسخرية تولد الضحك , لكن ليس الضحك الذي يتولد عن الكوميديا بل الضحك المتولد عن التوتر الحاد (18) ولنقل ضحك مؤلم .

ويُعدُّ التهكم و السخرية سلاحا فعّالا من أسلحة المفارقة اللفظية التي تدل عليها وتبشر بها , فالخطاب التهكمي الساخر ارض خصبة لنمو المفارقات و تكاثرها (19)



المفارقة في قصيدة الوصايا

الوصايا
إذا ما توقفنا عند قصيدة " الوصايا " (20) محللين أسلوبها البنائي , ومتذوقين جمالياتها , سنجد أن قصيدة " الوصايا " قصيدة مفارقة بنيت على المفارقات ولو انتزعت منها المفارقات لماتت القصيدة .

و وظف احمد مطر أكثر من شكل من أشكال المفارقة في هذه القصيدة لتخدم هدفه من نظمها وهي :

1 ـ المفارقة التصويرية :

تتطلب المفارقة التصويرية عمقا في البحث عن طرفي المفارقة , وقد تحتاج ربطها بسياق خارجي عن القصيدة عينها .

فعنوان القصيدة " الوصايا " نموذجا للمفارقة التصويرية المبنية على نص تراثي فاحمد مطر اعتمد في بناء عنوان قصيدته على توظيف بعض معطيات التراث وتحوير هذا الاقتباس ليولد منه دلالة معاصرة تناقضت مع الدلالة التراثية للنص والتي ارتبطت في الأذهان . (21)

" الوصايا العشر " في التراث الديني هي أرفع الآثار الموسوية وأبرزها في التراث اليهودي المسيحي , تلقاها موسى منقوشة على لوحي الشريعة في جبل جوريب وتعتبر أساسية في إلزامها بحيث لا يمكن أن يُعفى احد من الالتزام بها.

" فالوصايا العشر " في معناها التراثي تهدف إلى احترام إنسانية الإنسان و الرقي به وتنظم علاقته مع خالقه لكن احمد مطر حوّر هذا المدلول إلى مدلول معاصر جعل من " الوصايا " نواميس تهدم كرامة الإنسان و تجعله بلا كرامة ولا إرادة , خاضع لقوانين الأنظمة المستبدة موصيا له بعدم اختراق قوانينها وإلا سيلقى الإهانة و الاحتقار و الذل .

من خلال المقابلة بين المدلول الجديد للنص المقتبس بعد تحويره وبين الدلالة الأساسية المضمرة في ذهن القارئ تتولد المفارقة .

لتكون " الوصايا " هي الكلمة المفتاحية لما تحمله المفارقة من دلالات نقيضه للدلالة المعجمية مغلفة بالتهكم و السخرية .

ويظهر جليا أن العنوان فيه تناص مفارق مع نص خارجي فمن آليات التناص الاستدعاء وهنا الشاعر يستدعي عنوان تراث ديني لعشر وصايا كان على إتباع اليهودية و المسيحية التقيد بها وعدم مخالفتها نهائيا , ولتكن مفارقة التناص في تقديم الشاعر وصايا احمد مطر الساخرة ولكن يجب على المتلقي التقيد بها و عدم مخالفتها لأنه أن خالفها يعرض حياته للخطر أو الموت المؤكد .

وليزيد التناص مفارقة يتناص الشاعر في بناء قصيدته في محاولة لمحاكاة الوصايا العشر إذ جعل قصيدته في عشر مقطوعات بعدد الوصايا , متخذنا من محاكاة أو التناص مع شكل بناء الوصايا وسيلة للإيقاع بالمتلقي و ليجعل منه ضحية لتناصه المفارق في ضرورة التقيد بها وعدم مخالفتها

عندما تذهب للنوم
تذكر أن تنام
كل صحو خارج النوم
حرام !

مادة المفارقة الأساسية عند مطر هي اللعب بالمتناقضات , فهذه مفارقة ساخرة خدمت هدف مطر من القصيدة في أول وصية له, فهو يطلب من المتلقي الغافل عندما يذهب للنوم أن يتذكر النوم تهكما من علاقة الشعوب بأنظمتها

والمفارقة في هذه الأسطر في كلمة " صحو " فالشاعر لم يقصد معناها الحرفي المعجمي السطحي للكلمة وهو صحوة النائم , بل قصد المعنى الكامن فيها , فمن متناقضات كلمة " صحو " الصحوة و اليقظة وهذا ما تخشاه و تخافه الأنظمة المستبدة من شعوبها .

وهذه المفارقة لا تعتمد على الشاعر في كشف خيوطها , كما أن المعنى الظاهر و الباطن لم يكونا في مواجهة مباشرة , بل اعتمدت المفارقة على قدرت القارئ على استنباط و كشف بين المعنى الظاهري و الخفي .

وخذ الفرشاة و المعجون
واغسل
ما تبقى بين أسنانك من بعض الكلام

يستخدم الشاعر فعل الأمر " اغسل " مع المتلقي طالبا منه أن يعتاد على غسل أسنانه دائما قبل النوم , لكن مم يغسلها ؟ لا يطلب منه أن يغسلها من بقايا الطعام بل من بقايا ما يعلق بها من الكلام .

فهنا مفارقة تصويرية لان كشف خيوط المفارقة لم يعتمد على الشاعر بل اعتمد عل قوة استنتاج القارئ لهذا المعنى الخفي بعد أن تلاعب فيها الشاعر بالمتناقضات , وبنى المفارقة هنا من كلمة "الكلام " ولا يريد الشاعر المعنى السطحي لها من أي كلام عادي بل أي أفكار أو معتقدات قد يفكر بها الإنسان عليه التخلص منها

ومن المفارقات التصويرية المبنية على نص تراثي

لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد
ربما قبل حلول الليل
تبعد

فالشاعر يريد أن يسخر من واقع الأنظمة المستبدة الظالمة في تعاملها مع مواطنيها فعمد إلى مفارقة تصويرية عن طريق استدعاء نص من التراث يعتبر حكمة يعرفها الجميع و يُستَـشهَد بها دائما , ارتبطت هذه الحكمة بمعاني الإخلاص في العمل و عدم تأجيل العمل فحوّر استعماله إلى مدلول مناقض بما ارتبط بالأذهان إلى معنى يبعث الحزن و اليأس عند الإنسان , فأنت تنهي عملك و لا تؤجله لأنه قد لا يأتي عليك غد وأنت في وطنك فقد تبعد ليبرز الشاعر استراتيجية الأبعاد و الإقصاء لشرفاء أوطانهم من قبل السلطات


2 ـ المفارقة اللفظية :


تعتمد المفارقة اللفظية على استخدام الشاعر موقف له معنى سطحي ظاهر و معنى خفي يريده الشاعر ويقوم بكشف المفارقة ومن أمثلتها في قصيدة الوصايا :

فدع المصباح مشبوبا
لكي تدرأ عنك الاتهام
يا صديقي
كل فعل في الظلام
هو تخطيط لإسقاط النظام !

لكل مفارقة مرسل " الشاعر " و مستقبل " الضحية " و رسالة , فالشاعر يرسم مفارقة ساخرة عمادها التهكم من مستوى الحرية عند الشعوب , فبعد أن طلب منه ألا يفكر قبل النوم , وان لا يصحو إلا في النوم وان لا يترك في فمه كلمات ينهي المقطوعة بالطلب منه أن يبقي المصباح مشتعلا حتى يسلم من الاتهام بأنه يخطط لإسقاط النظام فهو يسخر من الأنظمة التي تعتقد أن في الظلمة تحاك أمور إسقاطها , وقدمت المفارقة من خلال المعنى الخفي لكلمة " فعل " والفهم الساذج لمعناه من قبل الأنظمة .

فالشاعر بنى المفارقة في " كل فعل في الظلام " قاصدا معنى خفي تلاعب به بالضحية , ليكشف بعد ذلك لنا المفارقة في انه قد يعتقد من أجهزة الأنظمة الظالمة انه تخطيط لانقلاب فانطوت على المتلقي الحيلة و أوقعه في مفارقته .

خاطب الشاعر المتلقي في مفارقاته بعبارة " يا صديقي " اعتقد انه يريد أن يجعل من المفارقة إغلاق للوصية , فعندما يستخدم الشاعر " يا صديقي " كأنه يأخذ بيد القارئ لتلمس موطن المفارقة في مقطوعته وهذا ما جعلها مفارقة لفظية

قبل أن تنوي الصلاة
اتصل بالسلطات
واشرح الوضع لها
لا تتذمر
وخذ الأمر بروح وطنية
يا صديقي
خطرٌ أي اتصال
بجهاتٍ خارجية !

يجعل احمد مطر من السخرية و التهكم أساسا في مفارقته فهو يسخر من هامش الحرية الذي يتمتع به في وطنه حتى انه إذ ما أراد الصلاة عليه إبلاغ السلطات ويستدرج ضحيته ليوقع به في مفارقته.

ومطر بنى المفارقة على كلمة " اتصال " فهو لا يقصد المعنى السطحي البسيط لها ولكنه يقصد معنى متناقض تماما فأي تواصل مع شخوص أو شعوب خارج حدود البلد مهما كانت طبيعته أو أداته هو ممنوع حتى لو كان مع الله في الصلاة فهي سخرية مضحكة واعتقد أن ضحكها مؤلم لا فرح .


عند افطارك
لا تشرب سوى كوب اللبن
قدح البُنّ مُنبّه
فتجنبه إذن
قدح الشاي مُنبّه
فتجنبه إذن
يا صديقي
كل شخص مُتنبه
هو مشبوه , مثير للفطن
يبتغي أن يشعل الوعي
لإحراق الوطن !

في هذه المفارقة يوظف الشاعر استراتيجية التلاعب بالمتلقي الضحية فيجعل منه إنسانا غافلا , كما أن الشاعر تمكن من الإيقاع بالضحية حيث بدأ المقطوعة بتقديم نصائح اقرب للمجال الطبي فعند افطارك لا تشرب سوى كوب اللبن , ولكن ما يلبث أن يصدمه بنسف ما سبق بان كوب البن منبه فجتنبه كذلك قدح الشاي كلها منبهات اجتبها , أخال أن المتلقي سيقول له شكرا على هذه النصيحة ليتيقن احمد مطر من وقوع الضحية .

ليصدمنا بعد ذلك بالمفارقة اللفظية عندما نجد أن كلمة " منبه " هي عماد المفارقة فهو لا يقصد معناها السطحي الطبي الظاهر بل معناها السياسي الخفي المتمثل في الوعي و اليقظة ولتدل قرائن السياق على المفارقة من إحراق للوطن من جراء التنبه .

أما الصدمة الكبرى التي يوقعنا فيها عندما يوصلنا بهذه المفارقة إلى سذاجة موظفي الأنظمة فهم ضحايا أنظمتهم تم تعطيل الفكر عندهم وزُرع في عقولهم مفردات بعينها تعتبر جريمة مهما كان استخدامها ومنها مصطلح " منبه " والتي سيكثر منها في قصيدته .


هو مشبوه , مثير للفطن
يبتغي أن يشعل الوعي

مثير الفتن غير مرغوب عند الجميع و يجب محاربته , لكن مطر يقدم لنا مفارقة ساخرة مضحكة بان تهمته انه " مثير للفطن " و " يشعل الوعي " وان السلطات المستبدة تسعى لتجهيل شعوبها بمفارقة تتلاعب بالمتناقضات .

هل أنت تقنعهم
انك مشغول بإعداد طبيخ
لا بإعداد انقلاب ؟!

والمفارقة اللفظية في هذه الأسطر مبنية على المعنى الخفي لكلمة " إعداد " فبعد أن يوقع بالمتلقي يصدمه بمفارقته أن الأنظمة تخاف منها .

ومن المفارقات اللفظية التي اعتمد فيها احمد مطر على " الكناية " يقول :

قبل أن تخرج
دع راسك في البيت
من باب الحذر
يا صديقي
في بلاد العرُب أضحى
كل رأس في خطر
ما عدا رأس الشهر

مفارقة تهكمية ساخرة تعبر عن تناقض في بلاد العرب , استخدم الشاعر فيها فن بلاغي وهو " الكناية " في كلمة " رأسك " فالمعنى السطحي لا يستقيم و يجعل المقطوعة من نوع الضحك بهدف التسلية فقط وهذا ليس من أهداف المفارقة ولا من أهداف بنائها .

فالشاعر أوقع بالضحية وجعله يصل إلى مرحلة الاستغراب و التخبط في فهم المعنى عندما قال له " دع رأسك في البيت " ولكن الشاعر لا يقصد المعنى السطحي الظاهر للفظة " رأسك " بل يقصد المعنى الخفي وهو الأفكار و المعتقدات و الآراء وهذا ما تخاف منه الأنظمة المتسلطة

لقد اعتمد الشاعر على تقنية الضحك و السخرية في رسم مفارقته وليصدم المتلقي الغافل عندما يقدم له استثناء باستخدام " ما عدا " وليصدمه مرة أخرى بالمستثنى " رأس الشهر " في مفارقة ساخرة مضحكة .

3 ـ مفارقة الفجاءة :
وتقوم هذه المفارقة على مخالفة ما يتوقعه المرء في الموقف الذي يمر به فيفاجأ تماما لما في ذهنه كقول احمد مطر :

انتبه عند الإشارة
لا تقف حتى إذا احمرت
إذا كنت قريبا من سفارة

فقد عمد الشاعر إلى خلق موقف معين وهو الانتباه عند الإشارة الضوئية , و بالتالي التقيد بنظامها وألوانها و ما هو مخزن في الذهن الوقوف عندما تصبح حمراء ليقوم ـ فجأة ـ بتدمير وتحطيم وتغير ما في الذهن بل مخالفته بما يناقضه وهو عدم الوقوف على الإشارة إذا ما احمرت لأنك قريب من سفارة .

4 ـ المفارقة الدرامية :

التفكير الدرامي : " هو ذلك اللون الذي لا يسير في اتجاه واحد وإنما يأخذ في الاعتبار أن كل فكرة تقابلها فكرة وان كل ظاهر يستخفي وراءه باطن " (23) والدراما تعتمد على الصراع في الموقف .

ولقد وظف احمد مطر المفارقة الدرامية في قصيدته موضوع البحث " الوصايا " في المقطوعة التاسعة إذ يقول :

أغلق السمع
ولا تصغ الأبواق الخيانة
ليس في التحقيق ذل
أو عذاب أو إهانه
أنت في التحقيق موفور الحصانة
ربما يشتمك الشرطي
من باب " الميانه "
هل تسمي ذلك اللطف إهانه ؟!
ربما تربط في مروحة السقف
لكي تكون في أعلى مكانة
هل تسمي ذلك العز اهانة ؟!
يا صديقي
إن إثبات العصا في ( الظهر )
إجراء ضروري
لإثبات الإدانة !

يعمد الشاعر لخلق صراع خفي من خلال مفارقات درامیة متتالیة ، يحاول أن يكسر بها أفق توقع القارئ , فهو يتلاعب بدرجة الغفلة التي أوقع ضحيته فيها بعد أن قدم له في المقطوعات أو الوصايا الثماني السابقة صورة قاتمة عن تعامل السلطات معه ليرسخ في ذهنه انه إذ ما خالف إحدى الوصايا و وصل للتحقيق ستكون الكارثة , ليصدمه بمفارقة درامية مستمرا في تناقضاته ولكن التناقض هذه المرة بين فكرة المقطوعات السابقة وهذه المقطوعة .


الهوامش
1 ـ ابن منظور , لسان العرب , مادة فرق
2 ـ ناصر شبانه, المفارقة في الشعر العربي المعاصر , ص 47
3 ـ حسني عبد الجليل, المفارقة في شعر عدي بن زيد , ص14
4 ـ سيزا قاسم, المفارقة في القص العربي المعاصر , ص144
5 ـ نبيلة إبراهيم, فن القص في النظرية و التطبيق , ص 198
6 ـ نعيمة السعدية, مقال شعرية المفارقة بين الإبداع والتلقي
7 ـ خالد سليمان, المفارقة و الأدب , ص 29
8 ـ المرجع السابق , 29
9ـ نوال صالح, جماليات المفارقة الشعرية عند محمود درويش ص 29
10 ـ نعيمة السعدية
11 ـ نوال صالح, ص 18
12 ـ شبانة,ص 73
13 ـ نبيلة , ص 198
14 ـ خالد سليمان, ص 36
15ـ سيزا ,ص 133
16 ـ نبيلة ,ص 198
17 ـ سيزا ,ص 133
18 ـ نوال صالح, ص 54
19 ـ نبيلة إبراهيم, فن القص , ص 200
20 ـ زياد أبو لبن , مختارات من شعر احمد مطر, ص56
21ـ علي عشري زايد, عن بناء القصيدة , ص 151
22ـ, عز الدين إسماعيل, الشعر العربي المعاصر ,ص279