
العلامة اللغوي الأديب سيد علي المرصفي (ت 1350 هـ، 1931 م) شيخ شيخنا محمود محمد شاكر رحمهما الله، وشيخ كثير من أهل العلم والأدب، صاحب "رغبة الآمل من كتاب الكامل" و"أسرار الحماسة"، وصحح كتاب "الطراز المتضمن لاسرار البلاغة و علوم حقائق الاعجاز ليحيى بن حمزة العلوي".
وله العديد من الكتب المخطوطة التي لم تطبع بعد مثل : "شرح الأمالي لأبي علي القالي" ، "تصحيح لسان العرب" ، "شرح العقد الفريد لابن عبد ربه" .
كان الشيخ يذكره كثيرا، وكنتُ أحاول أن أضع له صورة في ذهني فأعجز، حتى رأيته يتحدث عنه في سياق أبيات للمستوغر بن ربيعة بن كعب، فلم أتصوره إلا رجلا نحيلا قد أخذ منه الدهر قوة الساعد، ولم يغير العمر منه قوة الذاكرة والعقل، وكذا يكون العلماء. فلما وجدت الصورة رأيت أني قد كدت أرى صورته من خلال حديث الشيخ عنه.
قال الشيخ في تعليقه على أبيات المستوغر في كتاب الطبقات (ص 34، رقم 40):
"دخلتُ أعود شيخي رحمه الله –سيد بن علي المرصفي- وقد كسرت ساقه، فلما رآني أنشدني هذه الأبيات:
[إِذا مَا الْمَرْء صَمَّ فَلمْ يُنَاجى
وأودى سَمعُه إِلاَّ نِدَايَا
وَلاعبَ بالعشيِّ بني بَنِيهِ
كَفِعْلِ الهرِّ يَحْتَرِشُ العَظَايَا
يُلاعِبُهُم وَوَدُّوا لَو سَقَوْهُ
من الذِّيفَانِ مترعةً مِلايَا
فَلا ذاقَ النَّعيمَ وَلاَ شرابًا
وَلَا يُسْقَى مِنَ الْمَرَضِ الشِّفَايَا]
وذلك أنه كان على أريكة، فجاء ابن ابنه الصغير، فظل يعاكسه فانقلب فوقع على الأرض، فأصيبت ساقه. وكان ذلك في آخر عمره، تغمده الله برحمته. وكان ذلك أول سماعي للأبيات فقرأتها عليه".
قال عنه الشيخ محمود محمد شاكر رحمهما الله "وكان الشيخ حسن التقسيم للشعر حين يقرؤه، قيقف حيث ينبغي الوقوف، ويمضي حيث تتصل المعاني، فإذا سمعت الشعر وهو يقرؤه فهمته على ما فيه من غريب أو غموض أو تقديم أو تأخير أو اعتراض، فكأنه يمثله لك تمثيلا لا تحتاج بعده إلى شرح أو توقيف".
وقال عنه أيضا في موقف آخر، وهذا من أحسن ما رأيت من بيان وتصوير كأنه ينقل لك صورة متحركة
"" كانَتْ لِلشَّيْخِ - رَحِمَه اللّـهُ، وَأَثابَه - عِنْدَ قِراءَةِ الشِّعْر، وَقَفات: يَقِفُ عَلى الْكَلِمَةِ أَوْ عَلى الْبَيْتِ أَوْ عَلى الْأَبْياتِ ، يُعيدُها ، وَيُرَدِّدُها ، وَيُشيرُ بِيَدَيْهِ ، وَتَبْرُقُ عَيْناهُ ، وَتُضيءُ مَعارِفُ وَجْهِه ، وَيَهْتَزُّ يَمْنَةً وَيَسْرَةً ، وَيَرْفَعُ مِنْ قامَتِه مادًّا ذِراعَيْهِ مُلَوِّحًا بِهِما يَهُمُّ أَنْ يَطيرَ ! / وَتَرى شَفَتَيْهِ وَالْكَلِماتُ تَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهما تَراهُ ، كَأَنَّه يَجِدُ لِلْكَلِماتِ في فَمِه مِنَ اللَّذَّةِ وَالنَّشْوَةِ وَالْحَلاوَةِ يَفوقُ كُلَّ تَصَوُّرٍ. كُنْتُ أُنْصِتُ وَأُصْغي وَأَنْظُرُ إِلَيْهِ لا يُفارِقُه نَظَري ، وَيَأْخُذُني عِنْدَ ذلِكَ ما يَأْخُذُني ، وَأُطيلُ النَّظَرَ إِلَيْهِ كَالْمَبْهوتِ لا تَكادُ عَيْني تَطْرِفُ ، وَصَوْتُه يَتَحَدَّرُ في أَقْصى أَعْماقِ نَفْسي كَأَنَّهُ وابِلٌ مُنْهَمِرٌ تَسْتَطيرُ في نَواحيهِ شَقائِقُ بَرْقٍ يومِضُ إيماضًا سَريعًا خَفيفًا ثاقِبًا - أَيّامٌ لَمْ يَبْقَ مِنْها إِلّا هذِه الذِّكْرى الْخافِتَةُ!- فَإِذا كَفَّ عَنِ الْإِنْشادِ وَالتَّرَنُّمِ أَقْبَلَ يَشْرَحُ وَيُبَيِّنُ. وَلكِنَّ شَرْحَه وَتَبْيينَه لِهذا الَّذي حَرَّكَهُ كُلَّ هذا التَّحْريكِ ، كانَ دونَ ما أُحِسُّه وَأَفْهَمُه وَيَتَغَلْغَلُ في أَقاصي نَفْسي مِنْ هَيْئَتِه وَمَلامِحِه وَهُوَ يَتَرَنَّمُ بِالشِّعْرِ أَوْ يُرَدِّد، كانَ دونَ ذلِكَ بِكَثيرٍ. وَكُنْتُ أُحِسُّ أَحْيانًا بِالْحَيْرَةِ وَالْحَسْرَةِ تَتَرَقْرَقُ في أَلْفاظِه وَهُوَ يَشْرَحُ وَيُبَيِّنُ، كَأَنَّه كانَ هُوَ أَيْضًا يُحِسُّ بِأَنَّه لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغًا يَرْضاهُ في الْإِبانَةِ عَنْ أَسْرارِ هذِه الْكَلِماتِ وَالْأَبْياتِ. هكَذا كانَ شَأْنُ الشَّيْخِ -رَحِمَه اللّـهُ ! - أَيَّ عَلّامَةٍ ذَوّاقَةٍ كانَ !
هكَذا حالُ الشَّيْخِ كانَ في بَيْتِه وَأَنا أَقْرَأُ عَلَيْهِ الْأَدَبَ وَالشِّعْرَ يَوْمَئِذٍ وَحْدي. أَمّا حالُه وَهُوَ يُلْقي دُروسَه الْعامَّةَ الَّتي يَحْضُرُها الْجَمْعُ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ ، وَالَّتي كانَ يَحْضُرُ أَمْثالَها مِنْ قَبْلِنا الدُّكْتورُ طه قَديمًا فيمَنْ يَحْضُرُ دُروسَه في الْأَزْهَرِ - فَكانَ مُخْتَلِفًا كُلَّ الِاخْتِلافِ : كانَ مُلْتَزِمًا بِالْجِدِّ وَالْوَقارِ يَتَخَلَّلُهُما دَوْرٌ قَليلٌ مِنَ الْمِزاحِ لاذِعٌ جارِحٌ أَحْيانًا ، وَلكِنَّهُ كانَ لا يُقَصِّرُ في الْإِبانَةِ وَالشَّرْحِ وَلا في التَّوَقُّفِ عِنْدَ الْأَبْياتِ أَوِ الْكَلِماتِ الْجِيادِ الْحِسانِ الْمُحْكَمَةِ. فَهذا مَوْضِعُ فَرْقٍ بَيْنَ الَّذي أَخَذْتُه أَنا عَنِ الشَّيْخِ وَالَّذي أَخَذَه عَنْهُ الدُّكْتورُ طه. وَما كانَ عَلى كُلِّ حالٍ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَأْخُذَ عَنْهُ ما أَخَذْتُ؛ فَإِنَّ الَّذي أَخَذْتُه عَنْهُ وَأَحْدَثَ في نَفْسي ما أَحْدَثَ ، لا يَبْلُغُ السَّماعُ بِالْأُذُنِ مِنْهُ شَيْئًا ، لِأَنَّه وَليدُ الْمُشاهَدَةِ وَالْعِيانِ لا وَليدُ الْأَلْفاظِ وَالْكَلِمات" .
ــــــــــــــــــــــــــــ
وهذان رابطان لكتابيه "رغبة الآمل" و"أسرار الحماسة"
1- رغبة الآمل من كتاب الكامل:
http://archive.org/details/rakbh
2- أسرار الحماسة:
http://archive.org/details/asrarh