مُكوِّناتُ الكِفاية الثقافيّة في تعليم اللُّغة العَربية للنَّاطقين بغيرها
"التَّدريسُ وآلياتُ التَّقييم"
أحمد نوّاف الرّهبان
مُلَخَّصُ البَحث:
لم يعد تَعَلَّمُ اللغة مقتصراً على معرفة مفرداتها وتراكيبها؛ بل شملَ ذلك الجوانب التي تقف خلف الأداء اللغوي، وعلى رأسها الموقف التّواصلي والسّياق الاجتماعيّ والثّقافيّ الذي تُعلَّم فيه اللّغة؛ إذ تَوسَّعَ مفهوم الكفاية الاتِّصاليِّة الذي وضعَته المداخل الاتّصالية هدفًا لها ليشملَ بعداً آخر، ألا وهو الكفاية الثقافية، وقد جاء الاهتمام بهذا البعد نتيجة الملاحظات المأخوذة من مواقف التّواصل اللّغوي الحقيقيّ؛ فالرّسالة اللّغوية يقف في وَجهها عوائق تُسيء الفهم أحيانًا، وهذه العوائق قد تكون لغوية أحياناً مرتبطة بدلالة الكلمات أو التّعبيرات في البيئة الأصليّة، وأحيانا تكون متعلقة بلغة الجسد أو بالسّياق الاجتماعي والثّقافي الذي لا يدركه إلا ابن اللّغة الهدف، الأمر الذي يجعل طرفا الرِّسالة عاجزين عن التَّواصل بسلاسة ما يؤدي أحياناً إلى تداخل ثقافي.
ومع أهميّة هذا البُعد من كونه يُمثِّل أعلى مراتِب تَعلُّم اللغة إلا أنَّ الباحث لا يزال يلاحظ قصوراً في عرض الثَّقافة العربية في مناهج العربيّة للنّاطقين بغيرها؛ لعدم وجود تصوُّر واضح لمكوّنات الكفاية الثّقافية وآلية التّعامل معها في تصميم المناهج وعملية التَّدريس. ومن هنا جاءت أسئِلَةُ البَحث حول: ما الكفاية الثَّقافية؟ ما مكوناتها المشمولة في المنهج التعليمي؟ كيف ندمج مكوناتها في المنهجِ التعليميّ؟ كيف يمكن تدريسها مع مناهِج مُعَدَّة سلفاً؟ ما المواد التّعليميّة اللازمة لتطوير تَدريس عَناصِر الكفاية الثّقافية؟ كيف نُقيِّم الكِفايَة الثَّقافِيَّة؟
وستحاول هذه الورقة البَحثِيّة بناءَ شبكة متكاملة لمكوّنات الكفاية الثّقافيّة في صفوف تعليم اللّغة العربيّة بوصفها لغة ثانية، وتقديمَ تَصوُّرٍ مُقترَحٍ لآليّة عرض الكفاية الثّقافيّة وتدريسها بمكوّناتها المختلفة في مناهج تعليم اللّغة العربيّة للناطقين بغيرها.
وتأتي أهمية هذه الورقة البحثية في كونها تتناول موضوعاً لا يزال في طور البحث، ليس في ميدان العربية فحسب، بل في ميادين اللغات الأخرى أيضاً، إذ لا تزال الأبحاث مستمرة في هذه الخصوص للوصول إلى معايير ومحِكاَّت ثَقافية تضبط مستويات الكفاية الثقافية، بحيث تكون دليلًا للمتَخصِّصين في مجالي التصميم والتَّدريس.
البَحثُ كاملًا
مفهوم الثَّقافَة:
تناولَت كثير من المعاجم والكتب تَعريفاتٍ مختلفة لمفهوم الثَّقافة، وليسَت المهمة هنا حَصر هذه التَّعريفات في دراستنا الموجزة، بل سنُلقي الضَّوء على بعضها للوصول إلى بعض النّقاط المُشتركة التي تُفيدُنا في بحثِنا؛ فقد عرَّفها رِيتشاردز وزملاؤه بأنَّها: " مجموع المعتقدات والاتّجاهات والعادات وأشكال السُّلوك والعادات الاجتماعيَّة لأعضاء مُجتَمَعٍ مُعَيَّن" (ريتشاردز، بلاث، بلاث، وكاندلين، 2007، ص. 179).
وهي وفقاً لـِ LARSON & SMALLY : مُخَطَّطٌ يَستَرشِدُ به الناسُ في سُلوكِهم في أيِّ مُجتَمَع وتغرسه الأُسرة وتُنمِّيه، وتحكُم الثّقافة سلوكنا، وتُشعِرنا بِحساسيّة المَكانَة الاجتِماعيّة وتُساعِدُنا على معرفة ما يتوقَّعه الآخرون وما سيحدث إن لم نُحقِّق توقُّعاتهم، كما تساعدنا الثَّقافة على معرفة ما نستطيع تحقيقه كأفراد، ومعرفة مسؤوليّتنا تجاه المجتمع الذي نعيش فيه، والثَّقافات المُختلفة هي الهياكِل الأساسيّة التي تطبَع على أيّ مُجتمع سماتٍ معينة تميِّزه عن غيره من المجتمعات الأخرى" (براون،1994، ص.213، 214).
ويُعرِّفها كوندون1973) ) بقوله: "هي الأفكار والتقاليد والمهارات والفنون والوسائل التي تُميِّز مجموعة معينة من الناس في فترة معينة من الزمن، ولكن الثَّقافَة أكبرُ من مَجموع أجزائِها؛ إذ تُعتَبَرُ نظاما من الأنماط المتكاملة التي يبقي معظمها تحت مستوى الشعور، ولكنَّها تحكم وتوجِّه السُّلوك الإنساني بدقَّة كما تَحكُم الخيوطُ الدُّميةَ المتحركة" (براون، 1994، ص. 214)
من خلال هذه التَّعريفات نَستطيع الخُروج بمجموعة من السِّمات لكلمة ثقافة؛ فهي:
سلوكيّات
عادات اجتماعية
فنون عامّة
اتّجاهات وقِيم حول مفاهيم معينة في المُجتمع
مُعتَقدات
والسُّؤال هنا، إذا كان مَفهوم الثَّقافَة بهذا الحَجم من الاتِّساع فكيف لنا أن نُدرِّسه أو نَدمِجه في المَنهَج التعليمي؟ هذا السُّؤال سنُحاولُ الإجابَة عليه في قادِمِ الصَّفَحات.
الثّقافةُ وتَعليمُ اللُّغاتِ الأجنَبِيَّة:
العلاقة بين الثَّقافة واللغة علاقةٌ لا تنفصل؛ فهي بمثابة الرّوح للجسد، فاللُّغة تعبِّر عن ثقافةِ المُجتَمع وأنماطه الثقافِيَّة المُختلِفة، وكذلك فإنَّ نَظرَة مُجتمعٍ ما إلى الحياة وما يؤمنون به يؤثِّر في تشكيل اللُّغة بالمفهوم العام ، ولذلك فإنَّ مسألة الفصل بينهما غير واردة، ومن يجرِّد اللّغة من ثقافتها فإنه سيحصل على هياكل لُغوية خاوِية (الطّاهِر، 2007، ص316، وبراون، 1994، ص.241)
أما فيما يتعلَّق باللّغات الأجنبيّة فقد أصبحت قضيّة دمج الثَّقافة في العمليّة التَّعليميّة من القضايا المهمّة جِدًّا، لا سيَما بعد أن تغيَّرت النّظرة إلى اللّغة، وأنّ هناك عوامل اجتماعيّة تؤثر فيها؛ فتعلُّم اللغة يتمُّ في السّياق الاجتماعي للّغة الهدف، وهذا السِّياق يشملُ ما هو لغوي وما هو فوق لغوي؛ كالعوامل النّفسية والاجتماعيّة والمكانيّة ...إلخ، وهذه العوامل تُؤثر في الإنتاج اللّغويّ وفهم التَّعبيرات اللغويَّة ( Allwood, 1990, P.2)
وإنَّ ما يؤكِّدُ أهميَّةَ العَلاقة بينَ الثَّقافة وتَعليم اللُّغة الثّانية والحاجة لتزويد مُتعلِّمها بثقافتها هو أنَّ المُتَعلِّم الجديد للغة الثَّانية ينتقل بمنظومَته الثّقافية واللُّغوية إلى عالم جديد، إلى عالَمٍ ربما يكون مخالِفًا تمامًا لمنظومَتِه التي اكتسبها منذ أن رأت عيناه النُّور، وهنا يجدُ نفسَه أمامَ جِسمٍ غريب، فإمّا أن يُقبِلَ عليه إن أحسنَ فهمه فَينجَح في تَعلُّمِ اللّغة الهَدف، أو أن ينفر منه فيفشَل في تعلُّمها. ومَسألة الفَشَل لا تَكون في تراكيب اللغة ومُفرداتها فحسب؛ فالواقِع الحاصِل أنَّ أبناءَ اللُّغة الهَدف عندما يقيِّمون مُتعلِّمًا للُغَتهم لا يقيِّمونه على أساس مَعرفَتِه اللُّغوِيّة والمقدرة على التَّواصُلِ وحسب، بل يُقيّمونه من منظار ثقافتهم أيضًأ، الأمرُ الذي يَجعلُه – أي المُتَعلِّم- مَحطّ سُخريةٍ واستهزاء إن لم يُحسِن التَّفاعُل مع الإطار الثَّقافي الموضوع فيه، ويؤدِّي أحيانًا إلى سوء تَفاهُمٍ بينَ الطَّرفين نَتيجةَ التَّداخُل الثَّقافيّ[1] بينهما.
ونظرًا لِهذه الأهمية التي تحدَّثنا عنها حول أثَرِ الثَّقافة في تعزيز عمليّة التعلُّم لدى المُتعَلِّم، فقد أصبحت جزءًا من المعايير الوطنية لتعلُّم اللغات الأجنبية في الولايات المُتَّحِدَّة الأمريكيّة ACTFL, 1996))، يجبُ الالتفاتُ لها في مناهج تعليم اللّغات الأجنَبيّة، هذه المعايير شمَلَتْ:
الثَّقافات: فالطُّلاب يُحصِّلون المَعرفة ويفهمون ثَقافة اللُّغة الهدف عن طريق دراسة اللُّغات الأخرى، والمُتَعلِّمون لن يستطيعوا إتقان اللُّغة مالم يُتقِنوا السّياقات الثَّقافيّة التي تجري فيها اللُّغة الأَجنبيّة.
المقارنات: أن يَعقِد المتعلِّمون مُقارناتٍ بين ثقافات اللُّغة الهدف وثقافتِهم، بحيث يدركون أنَّ هناك طُرقًا مختلفة للنَّظر إلى العالم.
المُجتمعات: تمكين المتعلِّمين من المشاركة في مجتمعات متعدِّدة لُغويًّا في مجموعة من السِّياقات وفي طرق ملائمة ثقافياً
الاتِّصال: وهو أساسُ تَعلُّم اللغة والهدف الرَّئيس لها
الرَّبط: ربط تعليم اللغات الأجنبيَّة بالموادّ الدِّراسيّة الأُخرى المُلائِمة للمُتَعلّمين
مِن الكِفايَة اللُّغَوِيَّة إلى الكِفاية الثَّقافيّة " خلفيَّة تاريخِيَّة":
شهدَ ميدانا علم اللُّغة وعلم النّفس بحلول الستينات من القَرن العشرين تغييرات جذريّة؛ فقد شهدَ ميدان علم اللُّغة انتقالًا من علم اللُّغة البنيوي إلى علم اللُّغة التوليدي، وقد تَمثَّل هذا الانتِقال عندما أعلن "نعوم تشومسكي" ثورته على البنيويّة والبنيويّين، وذلك في كتابه التراكيب النحوية 1957؛ حيث ميَّز بين الكِفاية التي كانت تُحاوِل النظرية التوليدية شرحها وبين الأداء، ومِمَّا ذكره أنَّ اللُّغةَ ظاهرةٌ مُجرَّدة لا علاقة للعوامل الاجتماعية فيها (Uso, Martؤ±nez, & Flor, 2006, p.6). وكان هذا أوَّل ظهور لِمُصطَلح الكِفاية الذي وُسِمَ فيما بَعد بِاسمِ الكِفايَةِ اللُّغويَّة التي تُشير إلى المعرفة اللا شُعورية باللُّغة لدى النَّاطِق المِثالي الأصلي باللُّغة، ويقوم الأداء بشكل كُلِّي على الكِفايَة ( هامرلي، 1994، ص. 76).
لقد تعرَّضَتْ وِجهَةُ النَّظر هذه إلى النِّقد بناء على مقولة مفادها أنّ المظاهر الاجتماعيّة للّغة هي التي تُفسِّر عمليّة اكتساب اللّغة وليس مُجرَّد التعرُّض للّغة؛ وقد ارتبطَ هذا النَّقد بعالم اللُّغة الاجتماعي ديل هايمز Dell Hymes الذي نشر هذه الفكرة في كتابه علم اللّغة الاجتماعيّ {Sociolinguistics} ليقابل بها مفهوم الكفاية اللغويّة الموجود عند تشومسكي الذي أنكر أيّ أثر للعوامل الاجتماعية في اللغة، وقد كان لهذا النَّقد كبيرُ الأثر فيما بعد في ظهور مفهوم الكِفاية التواصليةCommunicative Competence الذي يُشير إلى " القدرة على نقل الرسائل اللغويّة الملائمة في وسط اجتماعي، ومن مظاهرها التفوق في مهارة أداء أحداث الاتصال اليومي؛ مثل الطَّلب والموافقة والرّفض وغير ذلك من الأحداث التي تُكوِّن الاتّصال ( هامرلي، 1994، ص. 77، و Sharifian, 2013, p.3).
وفي فترة الثَّمانينات والتِّسعينات اقتَرحَ بعض الباحثين في الميدان مُكوِّناتٍ أُخرى للكِفايَة الاتِّصاليَّة؛ من هذه الكفايات الكِفاية اللُّغويَّة الاجتِماعِيَّة والكِفايةُ الاستراتيجية (Canale and Swain, 1980) والكِفايةُ الخِطابيَّة(Canale, 1984) والكِفايَةُ التَّنظيميَّة والنَّفعِيَّة (Bachman, 1990)[2]، وبحلول القرن العشرين بدأ بعض الباحثين (Michael Byram) النَّظر إلى العالم الحالي على أنَّه أكثر تداخلًا بين الثَّقافات وأنَّ كُلًّا من النَّاطقين الأصليين باللغة الهدف ومن يتحدَّثون هذه اللُّغة من ثقافات أخرى بحاجة إلى مهارات الاتِّصال الثَّقافي التي تُساعِد في فهم اللُّغة وما وراءها بصورة أفضل، ومن هنا ظهرت الحاجة إلى توسيع مفهوم الكفاية ليشمل الكفاية الثَّقافيّة (Sharifian, 2013, p.4).
مَفهوم الكِفايَةُ الثَّقافيّة:
من أبرز الذين اشتَغلوا على هذا المفهوم Michael Byram ، وقد حدَّد هذا المفهوم بأنَّه عبارة عن" التَّعرُّض والتَّفاعُل مع ناطِقين من خلفيَّاتٍ ثقافِيَّة مُختَلِفة، وهي المَعرِفةَ والمَهاراتِ التي تُمَكِّن المُتَحَدِّثينَ من التَّواصُلِ بفاعليَّةٍ وبِشَكْلٍ مُلائِم مع متحدِّثين من ثقافاتٍ مُختَلِفة" في sharifian, 2013)).
وقد عرَّفها هامرلي (1994 ) بأنَّها "المَعرِفةُ بِثقافَةٍ ما والقُدرَةُ على السُّلوكِ وفقًا لِسلوكِ أعضائها، وفيما يَتعلَّقُ بتدريس اللغة فإنّ معرِفةَ الأداء الثَّقافيّ؛ أي القُدرة على التَّصرُّف المُناسِب بِحَسبِ ما تُمليه الأوضاعُ الثَّقافيَّة المُختلِفة هي أهمُّ كثيرًا من مُجَرَّد المَعرِفة الإدراكيَّة، الأمرُ الذي يُحتِّم على ضَرورة التّأكيد على التَّعليم الثَّقافي. وبدونِ هذا النَّوع من المَعرِفة الكَيفِيَّة فإنَّ مُتَحدِّثَ اللُّغة الثَّانِيَة يَكونُ عُرضَةً لعدمِ فهمه من قِبلِ الآخرين ولسوء فَهمهم له، وهو وضعٌ قد يَنتُجُ عنه استِخفافٌ به أو إهانةٌ له. إنَّ المَعرِفَةَ العامَّةَ عن ثقافَةِ اللُّغة الثَّانية والتي تتوفَّر عادةً لدى النّاطق الأصلي عاديّ الثَّقافَة تُعتَبَرُ مُهمَّة كذلك، فبدونها يعجز متَحدِّث اللغة الثانية عن فهم بعض الرّسائل، إلى جانب ما يُعطيه ذلكَ الوضع من انطباع عن الشَّخص بأنّه ضَحلُ الثَّقافة أو غير مبالٍ بالثَّقافة الثَّانِيَة لدرَجة تجعله لا يَهتَمُّ بمعرفة الحقائق الأساسيّة عنها" (ص.77)
الكِفايةُ الثّقافيّة بينَ الكِفايات:
ما الموقع الذي تشغله الكِفاية الثَّقافية في تَعليم اللُّغات الأجنَبيَّة ؟ وهل هي من الأهميَّةِ بمكان لنُرَكِّز عليها في بحثنا هذا؟ إنَّ الكِفاياتِ التي ذكرناها آنفاً لا تعملُ بِصورةٍ مُنفَصِلةٍ حَسب التّوجُّهات الحديثة في تعليم اللّغات، وكما ذكرنا فإنَّ الكفايات المُتعلِّقة بتعليم اللُّغات وتعلُّمها أصبحت مُتَشَعِّبة لِدَرجَةٍ يَصعُب على الباحِث تصنيفُها، إلا أننا نستطيع تَبسيط المَسألة للإجابة على السّؤالين السّابقين وفق الآتي:
مَفهوم الكفاية في مجال تعليم اللُّغات وتَعلُّمها يَشملُ " المَعرِفة التي تُمَكِّن المُتَحَدِّث من فهمِ اللغة واستخدامها بِدِقَّة وطلاقة وبكيفية ملائمة لجميع الأغراض الاتِّصالية في الأوضاع الثَّقافيَّة" (هامرلي، 1994، ص. 75)
وحَسبَ هذا التَّعريف فإننا نَستَخلِص ثلاثَ كِفاياتٍ رَئيسة يجب أن تكون محورَ الاهتِمام لمُعلِّم اللُّغة بِغَضِّ النَّظر عن تَشَعُّباتِها، وأوَّلُ هذه الكفايات وأهمُّها الكفاية اللُّغوية التي تُكوِّن المكَوّنات الأساسيّة للتَّعبير عن المواقف الاتّصاليّة؛ فهي تَشمَلُ مَعرِفة الأصواتِ والمفردات والتَّراكيب التي لا يُمكِن لمتَعلِّم اللُّغة أنْ ينتَقِلَ إلى الكفاية الاتِّصاليَّة دونَ إدراكها، ولهذا نقول إنها – أي الكفاية اللُّغوية- أسُّ الكِفايات، يأتي بَعدها الكفاية الاتِّصاليَّة التي تُعبِّر عن حُسنِ استِخدامِ المُتَعلِّم للّغة في مُختلفِ المواقف الاتِّصاليّة، ثمَّ يأتي بعدَ ذلك الكفاية الثَّقافيَّة التي تُعتَبَر لازِمة من لوازم أيّ مَوقف تواصليّ؛ فهي تَشمَلُ السِّياق الثَّقافي الذي يَقعُ فيه المَوقِف التَّواصُليّ. وتُعتَبَرُ هذه الكفاية أعلى الكفايات- ليسَتْ أَهمّها- على الإطلاق؛ بحيثُ إنْ حصَّلها المُتعلِّم بنسبة جَيِّدة فإنَّه يَكون قد اقتربَ من مُستوى النَّاطقين الأصليّين، ولا يُطلَق عليه حُكْم مُتَمكِّن لُغوِياً إلا إذا استوعبَ ثقافة اللغة الهدف عبر مراحل التَّعلُّم، ويُصبِحُ أيُّ خطأ ثقافي مَصدر حرجٍ للمتعلِّم واستهزاء من طرف أبناء الثَّقافة، وهذا نراه كَثيراً من خلال خبرتنا في الميدان، وغالبا ما تكون ناتجة عن تداخل ثقافي من طرف المتعلم.
بناء على المُناقَشة السّابِقة فإنّنا نستطيع أن نُدرِّجَ الكفايات المذكورة حسب الأهميّة وفق الآتي:
الكِفايَةُ اللُّغوية
الكِفايَةُ الاتِّصاليّة
الكِفايَةُ الثَّقافيّة
وهو رأي هامرلي (1994) أيضًا، لكنّه يَقترحُ إلى جانب ذلك تأخير تَقديم الكِفايَةُ الثَّقافيّة إلى مُستوياتٍ مُتَقَدِّمة جِدًّا ، وهو ما لا يوافِق عليه الباحث، وسيأتي تِبيانُ ذلك في الفقرات القادِمة
أهداف تدريس الكِفايَة الثَّقافيَّة:
هناكَ أهدافٌ مُتَعَدِّدة للتّركيز على تدريس الكِفايَة الثّقافِيّة، نذكُر منها:
تقديم إضاءات حول اللغة الجديدة وثقافتها
التَّأثير في اتّجاهات الطّلبة إيجابيًّا نحو اللُّغة الجديدة وثقافَتها
تأهيل المُتعلِّم ثَقافِيًّا ولغويًّا في اللُّغة الجديدة
تطويرُ قُدرَتهم على الاندماج والتَّكيُّف مع هويّاتٍ جَديدَة لضمان التّفاهُم بين الأشخاص من هويّاتٍ مُختَلِفة
تَصحيحُ الصُّور النَّمطيّة المُرتِبِطة بِثقافَةِ اللُّغة الهَدَف (BYRAM, GRIBKOVA, & STARKEY, 2002, P. 9,10, and Allwood, 1990, p.7)
ولتحقيق هذه الأهداف ينبغي على المُتَعلِّم أن يَمتَلِكَ مجموعةً من المهارات تتمثَّلُ في:
الاتّجاه / الدّافعية نحو الثَّقافات: حبُّ الاطّلاع والانفِتاح والاستعداد إلى إزالة الحواجز وسوء التّفاهم بين الثَّقافات، وهذا يَتطَلَّبُ ألا يَنظرَ المتَعلِّم إلى ثقافته نظرة مركزية يرى من خلالها الثقافات الأخرى ويَحكُم عليها بناءً على معيار ثقافته، بل أن يتعامل مع الثَّقافات الأخرى من وِجهَة نَظر خارجيّة.
المَعرِفَة: وذلك بالمجموعات الاجتماعية الخاصة بثقافة اللغة الهدف وممارساتها، وكذلك العمليّات العامّة للتّفاعُل الفردي والجماعيّ.
مهاراتُ التَّفسير والرَّبط: القُدرة على تفسير وثيقة أو حَدَث من ثقافة أخرى وربطه بالمعارف الموجودة عِنده.
مهاراتُ الاكتِشاف والتَّفاعُل: المَقدِرة على اكتسابِ معرفة جَديدة من الثَّقافة والممارسات الثّقافيّة في اللُّغة الهدف، والقدرة على معالجة المعرفة والاتّجاهات المهارات تحت قيود التّفاعل والاتّصال في الوقت الحقيقي.
الوعي الثَّقافي النَّقدي: القُدرَة على التّقييم النّاقد على أساس معايير ووِجهات نظر واضحة في الثقافة الخاصّة والثَّقافات الأخرى (Allwood, 1990, p.12,13).