الفتوى (3513) :
طبتم أيها السائل الكريم
في هذه اللفظة اضطراب شديد في الضبط والإعراب تبعًا لاختلاف الروايات الواردة فيها، ولذلك قال ابن الأثير: "هَذِهِ اللَّفْظَةُ كَثِيرًا مَا تَخْتَلِفُ أَلْفَاظُ المحدِّثين فِيهَا، فَيَقُولُونَ بَيْرَحَاء بِفَتْحِ البَاءِ وَكَسْرِهَا، وبِفَتْحِ الرَّاءِ وضَمِّهَا والْمَدِّ فِيهِمَا، وبفَتْحِهما والقصْر". فهذه ثمان لغات، وفي رواية: بَريحاء، بفتح أوله وكسر الراء وتقديمها على التحتانية، وفي أخرى: باريحاء، فتحصل عشر لغات في تلك اللفظة.
و(بيرحاء) اسم بستان، وكانت بساتين المدينة تُدْعى بالآبار التي فيها أي البستان الذي فيه (بِيرُحاء)، أضيف (البيرُ) إلى (حاء)، وروي (بَيْرَحاء) بفتح الباء وسكون التحتانية وفتح الراء على أنه كلمة واحدة لا مضاف ومضاف، ومن هنا أتى الاضطراب في إعراب اللفظة.
ومن خلال استقراء الروايات تبين الآتي:
- روى الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: ((كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءُ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ...قال أبو طلحةُ: وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءُ)).
وفي رواية عنده: «بَخٍ بَخٍ بَيْرُحَاءُ خَيْرٌ رَابِحٌ».
وفي أخرى: "وَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ أَرْضِي بَيْرُحَاءَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ".
وبلفظ أحمد "وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءُ.." رواه ابن حبان، والدارمي، والنسائي، والبيهقي.
ومن خلال الروايات السالفة تبين أن (بَيْرُحاءَ) قد عومِلَتْ مُعاملة المفرد لا المركب ويُعرب آخره إعراب الممنوع من الصرف، وإعرابهُ في (وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءُ): اسم (كان) مؤخر مرفوع بضمة من غير تنوين لأنه ممنوع من الصرف لألف التأنيث الممدودة، وفي (وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءُ): خبر (إنَّ) مرفوع على النحو المذكور آنفًا.
وجاء في تاريخ المدينة لابن شبة: "وفِي وَسَطِهِ بَيْرَحَاءُ"، بالرفع مبتدأ مؤخر، و" فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِوَضًا مِنْهَا بَيْرَحَاءَ"، بالنصب مفعول به.
وهذا يؤيد الروايات السابقة من أنهم عاملوا (بيْرَحاءَ) معاملة الاسم المفرد لا المركب ولذلك تظهر حركات الإعراب على أواخره.
- ولفظ رواية مالكٍ: "وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بِيرَحَاءَ... وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بِيرَحَاءَ".
وعلى هذا الضبط ذهب بعضُّ الشُّراح إلى أن (بيْرَحاء) اسمان جُعِلا اسمًا واحدًا وبُنِيَا على الفتح، ويكون (بِيرَحاءَ) مبنيًّا على فتح الجزأين في محل رفع اسم كان مؤخر، وفي التركيب الثاني يكون مبنيًّا على فتح الجزأين في محل رفع خبر (إنَّ).
- ولفظ رواية البخاري: "وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ".
وهذه الرواية على الأصل في تقديم اسم كان وتأخير خبرها، فيكون (أحَبَّ) اسم كان مرفوعًا، و(بَيْرُحاءَ) خبرها منصوبًا من غير تنوين لمنعه من الصرف.
ومنهم من قال بإجراء حركات الإعراب على راء (بيرحاء)، أي: بضم راء (بيرحاء) في الرفع، وفتحها في النصب، وكسرها في الجر مع الإضافة أبدًا إلى "حاء"، وهو بعض أحوال المركب تركيب مزجٍ عند العرب، فمن العرب من يجعل الجزء الأول من المركب المزجي مضافًا تجري عليه جميع حركات الإعراب على حسب حاجة الجملة، ويكون المضاف إليه مجرورًا دائِمًا ممنوعًا من الصرف إن استحق المنع؛ وإلا فينصرف، ومثله: رامَ هُرْمُزَ، وأنكر ذلك آخرون.. والله تعالى أعلم.
اللجنة المعنية بالفتوى:
المجيب:
د.مصطفى شعبان
أستاذ مساعد اللغة العربية وآدابها بكلية اللغات-
جامعة القوميات بشمال غربي الصين
راجعه:
أ.د. محروس بُريّك
أستاذ النحو والصرف والعروض
بكلية دار العلوم جامعة القاهرة
رئيس اللجنة:
أ.د. عبد العزيز بن علي الحربي
(رئيس المجمع)