اللُّغةُ العَربيّةُ وسُؤالُ الهُويةِ في سِياقِ تَحْقيقِ التّنميةِ، نَحْوَ مَنهجٍ لابْتعاثِ اللُّغةِ مِنْ مَصادِرِها.
لا يشكُّ أحدٌ في أنّ الشّعوبَ العَربيّةَ الإسلاميّةَ اجْتازَتْ حقبةً طويلةً من التّخلُّفِ والانتكاسِ والتّبعيّةِ للغَربِ طَبَعَت حَياتَها الاقْتصاديّةَ والسّياسيّةَ والثّقافيّةَ،
وجَرّتْ عليْها عَواقبَ وَخيمةً أثَّرَتْ في حاضرِها وحدّدَت مَعالِمَ بارزَةً في طريقِها نحو صياغَةِ مُستقْبَلِها. ولا شكّ أنّه ضاعَتْ مَعَ هذا الواقعِ المَريرِ كثيرٌ من القِيَمِ
الحضارِيّةِ والثّقافيّةِ الرّفيعَةِ.
وقد تأثّرت اللغةُ العربيّة بأحوالِ الأمّةِ العربيّة الإسلاميّةِ فأصابَها ما أصابَ الأمّةَ من تراجُعٍ وتخلُّفٍ وإهمال، بعد أن كانت لغةَ العلم والتنمية والسياسة والإدارة،
ووعاءَ الفكرِ والثّقافَةِ والحَضارَةِ، وعَدّها بَنوها لغةً لا تُسايرُ العَصرَ ولا تُواكبُ التّطوّرَ ولا تَصلُحُ للتّعليمِ.
وهكذا فإنّ سِهامَ الاتِّهامِ التي وُجِّهَت إلى اللغةِ العربيّةِ أصابَت في الصّميمِ هويةَ الأمّةِ وشَكّكتْ في انتمائها وفي قِيَمِها الثّقافيّةِ والحَضارِيّةِ، وعَدّتْها من أعباءِ
الماضي وممّا يَنبغي التّخلُّصُ منه؛ لأنّ اللغَةَ عُنوانُ الهويةِ والنّاطقُ باسمِها. وعليْه، يَنْبَغي التّعلُّقُ بلُغاتِ الغربِ وثَقافاتِه بأكثرَ من سَبَبٍ؛ لتحقيقِ النّموّ والازدِهارِ.
أمّا العربيّةُ وما يتبَعُها من فكرٍ وثَقافةٍ فَلا تستحقُّ من ذَويها إلاّ الإهانَةَ، وإهانَةُ العربيّةُ طَريقٌ إلى إهانَةِ الهويّةِ وسياسَةٌ مُحْكَمَةٌ في الطّعْنِ في كلِّ ما هو أصيلٌ
مَوْروثٌ في الأمّةِ. ولا يَعْني ذلِك أنّ إعادةَ الاعتبارِ إلى لغةِ الأمّةِ وهويتِها لا يتحقّقُ إلاّ بنَبْذِ لغاتِ الغربِ وثَقافاتِه، فالثقافَةُ المُعاصرَةُ واللغاتُ الحيّةُ من رَوافدِ العلمِ
والمَعْرِفَةِ ووَسائلِ الانفتاحِ على الحَضاراتِ وتَلْقيحِها بما يَنْفَعُ وبِما لا يصطدِمُ مع الهويّةِ.
لقَد كابَدَت العربيّةُ جَرّاءَ سياسَةِ التبعيّةِ للغربِ، وبعدَ خُروجِ الاستعمارِ من بِلادِ العربِ، غُرْبَةً قاتلةً، لما لَها من اتّصالٍ بالحَضارَةِ والثّقافَةِ والدّين؛ وهذه الوشيجةُ التي
تجمعُها بالهويةِ والحضارَةِ والدّينِ تَرْقى بها وتُشرِّفُها، إلى جانبِ ما يرفَعُها من كونِها اللسانَ المبينَ للقرآنِ الكريمِ. فما من معولٍ من معاولِ الهدمِ وُجِّه إلى الثّقافَةِ
والدّينِ إلاّ وكانَت العربيّةُ هدفًا مقصودًا بالتّبعية. ولقد سعى الخصومُ على مرِّ التّاريخِ، إلى القضاءِ على عقيدةِ الأمّة ولغتِها وقيمها الحضاريّةِ، قضاءً مُبْرَمًا، بأسلحةٍ
فتّاكةٍ. فلمّا استعصى عليه الأمرُ، وأدركَ أنّه أوهى معوَلَه بضرباتٍ طائشةٍ لم تَضُرَّ المضروبَ إلاّ أذىً طفيفًا، لم يألُ جُهدًا في بثِّ الشّبُهاتِ ونثرِ بذورِ البلبلةِ حول الدّين
واللّغةِ، وتشويهِ صورةِ التّراثِ في أعينِ أبنائه. وإنّ مُعاناةَ العربيّةِ من سياسَةِ التغريبِ في ديارِها وبين أبنائها وذويها، لهي غربةٌ مَحْمودةٌ موجبةٌ غيرُ سالبةٍ؛ لأنّ صفةَ
الغربةِ فيها تدلّ على قدرتِها على البقاءِ واستعصائها على عواملِ الإزالةِ والزّوال، فلو لم تكن على هذه الصّفةِ من الهجرانِ أو شبه الهجرانِ، لَطَواها النّسيان، ولأنّ
الحياةَ الثّقافيّةَ ما زالت عربيّةَ الطّابع في عُمومِها، وإنْ عَمّ فكرُ الغربِ وثقافتُه وسياسَتُه في التّخطيطِ، ولأنّ الفكرَ العربيّ ما زالَ ينمو ويتطوّرُ ويزدهرُ داخلَ المنظومةِ
اللّغويّة العربيّة. وهذا الإقبالُ يدلّ على الحاجةِ الماسّةِ المتجدِّدة إلى العربيّةِ، على الرّغمِ ممّا يعتريها ويعترضُ طريقَها من عوائقَ؛ وأكبرُ العَوائقِ اليومَ، حالةُ الاستلابِ
الحضاريِّ للغةِ العربيّةِ في عالَمِ عوْلمةٍ مُبْتلِعَةٍ ومُنافَسةٍ شرِسةٍ، أضعفتْ تأثيرَها وأوهَنَت ساعدَها عن تَحقيقِ وُجودها الحضاريّ، ولا شكّ أنّ الارتِباطَ التّلازُمِيَّ بين اللّغَةِ
والهويّةِ يُسوِّغُ لنا مَقولةَ ضَياعِ الهويةِ العربيّةِ بضياعِ لُغَتِها .
ولا يعني ذلِكَ أنّ الأمّةَ في أمنٍ وأمانٍ واطمئنانٍ على مستقْبَلِها، ولكنّها مدعوّةٌ للقيامِ بمهمّة إقالةِ نفْسِها من عثْرَتِها وارْتجاعِ ما فاتَها، فقَد هجعت هجعةً طويلةً، ولاذَت
بالقشورِ قرونًا طويلةً، سِيمَت خلالَها شتّى ضُروبِ المحن، وها هي اليومَ مدعوّةً من جديدٍ إلى أن تنتفضَ لتنزعَ عن نفسِها أغلالَ التّخلُّفِ والاستعمارِ، وتكشحَ ظلُماتِ
الهوانِ، وتعملَ على ترميمِ ما انهارَ من عزيمتِها واستردادِ ما ضاعَ من حقِّها، وإعادَةِ بناءِ هويتِها في زَمَنِ تَنازُعِ الهوياتِ وتَصادُم الحَضارات.
https://www.facebook.com/photo.php?f...type=1&theater