#شيء_من_اللغة: (أنزل) و(نزّل) في القرآن وكلام العرب
هادي حسن حمّودي
كتب لي البروفيسور الدكتور (Nabil El Mikatti) بشأن (أنزل ونزّل) في القرآن، حيث رأى في شبكة المعلومات من قال إنهما بمعنى واحد، ومن قال باختلاف معناهما. ورأى اختلاف القائلين باختلاف المعنى فيما بينهم. وسألني رأيا.
فأقول:
أمّا المعنى فمختلف بينهما. فـ(أنزل) لها إطارها الدلالي، و(نزّل) لها إطار آخر يأخذ من الأول شيئا، ويضيف إليه أشياء. وأمّا حسم الخلاف بين القائلين باختلاف معناهما فيجب أن يرتكز على الأدلة القرآنية الواضحة ذاتها، وليس بعد الأدلة القرآنية دليل.
ولقد رأيت من المعاصرين من نقل اختلافات القدماء وقال: إنها قد تكون صائبة وقد تكون خاطئة، لكن لا يليق التقليل من شأنها، بل المطلوب تقديرها.
ولا أدري كيف يكون تقديرها في حالة كونها خاطئة باعتراف القائل نفسه.
لقد جاء الخطأ للمخطئين لأنهم ارتكزوا على فهم غير سليم للآية الكريمة (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) (آل عمران 3). فقد رأوا فيها (نزّل) و(أنزل) فاختلفوا في الفرق بينهما، ما بين قائل بتنزيل القرآن للسماء الدنيا (ولا أعرف كيف ذلك)، وقائل إنه نزل منجّما، وقائل إنه نزل دفعة واحدة، وقائل إن التوراة والإنجيل أنزلا دفعة واحدة وقائل إنهما أنزلا على دفعات. وكل هذا لا علاقة له بالآية.
وسبب الاختلاف افتقادهم المنهج السليم للنظر في الموضوع. فالمنهج السليم يصل إلى نتيجة سليمة لا مجال للخلاف فيها. لأن من مقتضياته أن ننظر إلى كل من الكلمتين في الآيات الأخرى قبل أن نحدّد معناهما هنا.
في القرآن من الجذر (ن ز ل) هذه المشتقات: نزل، أنزل، نزّل، تنزيل، تنزّل، مُنَزّل، مُنْزِل، نُزُل، وما يُشتقّ منها، إضافة إلى منازل (القمر). فبدون تفهم دلالات هذه الألفاظ في سياقاتها وآياتها نقع في الوهم والتخيلات ونلبّس على الناس فهم لغة القرآن.
ومن الواضح أن الموضوع طويل ويحتاج إلى سعة في الشرح، ولكننا نختصر جدا بحكم موضع النشر.
فأقول:
(نزل) دالّ على ما يُشبه هُبوط شيء من مكان عالٍ إلى مكان أوطأ منه. ومثالُه: (وأنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً)(البقرة 22). نزول الماء من السماء ظاهرة ملحوظة ليست بحاجة إلى تأكيد ولا تعميق أثر في النفوس.
وننتقل من (نزل) إلى (نزّل): (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ)(سورة ق 9). فهنا تأكيدٌ للمعنى وتعميقٌ لأثَر السياق في النفوس. فما كل ماء نازل من السماء ماءً مباركا تنبت به الجنّات: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)(سورة الأعراف 84). فجاءت اللفطة مشدّدة مفخّمة (ونزّلنا) لدلالات مضافة إلى (نزل).
ومن (نزّلنا) المصدر (تنزيل): الدّالّ على تأكيدٍ وتعميق في المعنى والتأثير. ومنه: (وقُرآناً فَرَقْناهُ لتقرأهُ على النّاسِ على مُكْثٍ ونَزّلْناهُ تَنْزيلا)(الإسراء 106) أي بتنسيق وتنظيم وتفخيم من أجل التأثير. والتّنزيلُ: القرآن الكريم: (إنّهُ لَقُرآنٌ كريمٌ. في كتابٍ مَكْنونٍ. لا يَمَسُّهُ إلاّ الـمُطَهَّرونَ. تَنْزيلٌ مِنْ رَبِّ العالَمينَ)(الواقعة 77-80).
ومثلها: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ)(سورة الشعراء 192-193). ولاحظ أنّ (نَزَلَ) في (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) لا تحتاج إلى تأكيد وتفخيم، فقد مرّ التأكيد والتفخيم في الآية 192.
ولاحظ المبالغة والتأكيد في الآية (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)(سورة الشعراء 221-222) فهنا التأكيد وتعميق تأثير الشياطين على كل أفّاك أثيم.
وأما (أنزل) فتقع بين (نَزَل) و(نَزّل) من حيث التأكيد والتأثير في النفوس ومثاله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(سورة القدر 1) فقارن تركيبها اللغوي والآية: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(سورة الحجر 9). ففي الأولى (إنزال) وهو تقرير حقيقة فيها شيء من التأكيد والتأثير في الناس بوجود (إنّا)، وفي الثانية (تنزيل) وفي هذه زيادة تأكيد يعمّق تأثير الآية في النفوس، في سياق موظف لذلك.
فالفروق بين هذه الاستعمالات تتجلى في مستويات التأكيد والتفخيم والتنسيق والتأثير، فحسب.
وقد تسأل: إذا كان المراد التأكيد وتعميق الأثر في النفوس بالآية (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) المذكورة سابقا، أفلم يكن التأكيد والتأثير في النفوس مُرادا من نزول التوراة والإنجيل؟ فكيف جاء في الآية نفسها (وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) لا (ونزّل التوراة والإنجيل)؟
الجواب: إن استعمال (أنزلنا) يتضمن التأكيد والتأثير، ولكن بمستوى أقل من (نزّلنا). ثم لاحظ كلمة (مهيمنا) في الآية: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)(المائدة 48) ففيها الجواب.
المصدر