بسم الله الرحمن الرحيم
هذا مقال نحوي في تنزيل ما يسمى حديثا بـ(نحو النص) على بعض أمثلة سيبويه
إن اللغة نظام من العلاقات المعقدة القائمة بنفس المنشئ لها، ويدل عليها بعلامات معنوية ولفظية تسمى بالكلام، وإن شئت قلت تسمى بالإنجاز، وإن شئت قلت: تسمى بالنص؛ لأنها تنص على ما في الضمير، أي على المعاني الذهنية، وجاء علماء اللغة فنظروا في مكونات هذه النصوص المنجزة، محاولَة لتفسيرها، وإدراك العلاقات الرابطة بينها، وكيفية ائتلاف عناصرها، فوجدوا أن ذلك بمنزلة تشريح جسم من الأجسام، وأن العلاقات الدلالية بين أجزاء النص أوسع في أحيان كثيرة من عناصر البنية وإمكاناتها، وأن الاحتمالات الدلالية للبنية لا تتحدد إلا بإدراك خصوصياتها الكائنة في داخل إطارها العام بكل محتوياته وملابساته.
لأجل هذا نجد علماء العربية وعلى رأسهم سيبويه رحمه الله يحللون الجمل اللغوية لاكتشاف خصائص تركيبها، لأجل تفسير منظومتها، وإيجاد الروابط القائمة بين نظامها الصوتي والمعنوي، فوجدوا أن الأنظمة الصوتية التي نراها ما هي إلا علامات(سمات) وقرائن دالة على معانٍ تختلف باختلافها، وتتوزع بأنظمة التبادل بين عناصرها.
ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره سيبويه وترجمه بقوله: " هذا باب ما ينتصب من المصادر على أنه حالٌ صار فيه المذكور" فقوله : (ما ينتصب) تعبير عن قرينة صوتية يحملها عنصر من عناصر النص وهي النصب المدلول عليه بـ(النصبة/ الفتحة) ـ أو ما يؤدي وظيفتها الدلالية ـ وقوله :(المصادر) ربط بين تلك القرينة ومحلها من كلمات النص، وهو يريد أن يقول إن هذا النوع من الكَلِم له أحوال لفظية في التركيب منها كونه منصوبا، ثم خصص الوظيفة المعنوية لهذه المصادر فذكر أنها بيان لحال المتَحَدَّث عنه، فربط بذلك بين القرينة اللفظية (النصب) ومحلها التصريفي(المصدر) ومحلها التركيبي (الحال) وربط ذلك كله بمفهوم محور الخطاب وهو الإطار العام، أو النص الكلي المجرد الذي سيق الكلام لبنائه، وهو إطار لا يتكون إلا عن طريق السياق التواصلي الذي ينجز فيه الكلام، غير أنه هنا يشرح الجمل الكلامية التي تكوِّن ذلك الإطار، ويحيل المتحدث إلى (الموقف) بعد أن أعلمه كيف ينجز غرضه؟. ثم شرع في تفصيل الأحداث الكلامية التي ترجمها بهذه الترجمة(العنوان) فقال:
"وذلك قولك: ( أما سِمَناً فسمين) و( أما عِلْماً فعالم). وزعم الخليلُ، أنه بمنزلة قولك: (أنت الرجلُ عِلماً وديناً) و ( أنت الرجل فهماً وأدباً)، أي: أنت الرجل في هذه الحال. وعَمِل فيه ما قبله وما بعده، ولم يحسن في هذا الوجه الألف واللام كما لم يحسن فيما كان حالاً، وكان في موضع فاعل حالا. وكذلك هذا، فانتصب المصدر لأنه حال مَصِيرٌ فيه. ومِن ذلك قولك: (أما عِلماً فلا عِلم له) و (وأما عِلماً فلا علم عنده) وأما عِلْماً فلا علم) وتضمر له؛ لأنك إنما تعني رجلاً."
وهنا نجده يَعْبُر إلى التنظير على ظهر التطبيق، وإن شئت قلت: يُنَظِّر للغة من داخلها، فينفذ إلى القاعدة النحوية من زاوية المنهج التجريبي، غير أنها تجربة مباشرة مبنية على السماع المباشر من الناطقين باللغة سليقة وطبعًا، وهو أدق منهج وأقومه في دراسة اللغة، لأن الناطق الأصلي باللغة لا يُطلَب منه تعليل إنجازه اللغوي، ولا تبرير استخداماته التواصلية الصوتية، ومن ثَمَّ كانت مهمة اللغويّ الحاذق أخْذَ تلك القوالب اللغوية (الخام) لتحليلها واكتشاف أنظمتها الداخلية لاستخلاص ما أمكن من الضوابط والقوانين التي تنتظمها وتحكمها.
فقال: "( أما سِمَناً فسمين) و( أما عِلْماً فعالم)" الجملة ارتبطت في إطارها العام عن طريق حرف التفصيل (أمَّا) وجوابه الذي تربطه الفاء، هذا من جهة الداخل ، أما من جهة الخارج فهي مرتبطة بالمتحدَّث عنه عن طريق قرينة الوصف، وهي (سمين / عالم) والموقف أو السياق هو الموكل إليه تعيينه وترشيحه، عن طريق تحديد مرجع الضمير، لأن كل وصف فهو متضمن لضمير يربطه بالموصوف. ولكن العرب عندما تستخدم هذا الأسلوب ربما جاءت به مكتنفا لمصدر منصوبٍ يُنْبِئ عن حال المتحدَّث عنه، وتلك الحال هي المفصلة بـ(أمَّا) وجوابها، فإذا مر في الكلام مثل هذه الجملة فاعلم أن عناصرها مرتبطة بهذه الخيوط، كقولك لمن قال (لا أعلم شيئا عن علم زيد، ولا عن شيء من أمره) فتقول: أما عِلْمًا فعالم، وأما سِمنًا فسمين ......
فجئت بالعناصر المستفهم عنها في صيغة المصدر، ثم نصبته على أن المعنى المحال إليه هو: أما في هذه الحال فهو كذا.... فلما سأل شيخه الخليل عن تفسير هذا الأسلوب ومعناه نَظَّره له بنحو: "(أنت الرجلُ عِلماً وديناً) و ( أنت الرجل فهماً وأدباً) فهذه جملة متماسكة نصيا بعلاقات الربط الأساسية التي يعبر عنها المسند والمسند إليه ومخصصات الإسناد، فـ(أنت) مسند إليه. و(الرجل) مسند. وهذا الإخبار يحتاج إلى تخصيص، إما بالإحالة إلى اصطحاب المبالغة والكمال المعهود عند إطلاق قرينة (ال) في مثل هذا وحذف ما تدل عليه توغلا في أعماق المعنى المراد، وإما بذكر المخصص الذي يفسر المراد بالخبر، كما فعل هنا حين قال: (فهما وأدبا) و (علما ودينا) فجاءت الجملة النحوية مرتبطة بعناصر الربط الرئيسة فيها متناصة بجملة (أما عِلما فعالم) المتقدمة، عن طريق الترادف الأسلوبي، فتبين بذلك سر الظاهرة الإعرابية الملتزمة في مثل هذا التركيب، إذْ رُبِطت بأشكالها من الجمل التي ترد فيها هذه الألفاظ دالة على بيان الحال المصير فيها، أي الهيئة التي يبدو عليها المتحدَّث عنه، فكان هذا تعليلا للنصب، لِما عُلم في لغة العرب عن طريق الاستقراء أنهم ينصبون الألفاظ التي تأتي لهذه الوظيفة.
وأما قوله(وعَمِل فيه ما قبله وما بعده) فهو بيان لعلاقة الكلمة المنصوبة هذه بالجملة من جهة المعنى، فيقول إن التناسق المعنوي والترابط العرفي بين هذه الألفاظ وما قبلها وما بعدها هو الذي دل على ما لها من دلالة، تلك الدلالة المقرونة بالنصب أو الكيفية الأدائية صوتا، وهذه العلاقة المعنوية بين عناصر الجملة هي التي يسميها النحويون بالعامل النحوي مجازًا، فإذا وجدوا ترابطا نصيا بين عنصرين في اللغة يختل باختلال تركيبهما في البنية ويتأسس بالتئامهما فيها نظروا إلى الحالة اللفظية المصاحبة لهذه الرابطة النصية فجعلوها هي وما صاحبته معمولا لمقارنها، وهذا من باب التوسع في المجاز، وهو إجراء حسنٌ يستفيد منه المبتدئون كثيرا.
والله تعالى أعلى وأعلم.
د. عبد الله بن محمد بن مهدي الأنصاري.