التنبيه في اللغة العربية
د. عبدالفتاح محمد
جامعة البعث- حمص
مقدمة:
لا ريب في أن حال السامع أو الملتقط أو المستقبِل أو المخاطَب لا تجري على وتِيرة واحدة إزاء تلقي الرسالة، فربما اعتراه ما يجعله لا يتلقاها كما ينبغي، كأن يكون نائماً مستثقلاً أو ساهياً أو متراخياً، أو مُعرِضاً، أو غافلاً، أو بعيداً أو غير هذا.
ومن هنا يعمد المرسِل إلى ما من شأنه أن يجعل المخاطَب مُقبلاً متيقظاً، منتبهاً، ليكون التواصل على أتمّه ويحقق المرسلُ الغاية من الرسالة ويبلغ المراد.
وهذه الأمور الداعية إلى التنبه تندرج ضمن ما يسمى بوظائف اللغة، ويعود الفضل في الكشف عنها، وتبيانها إلى العالم المعاصر جاكبسون (Jakobson).
والحق أن المصطلح الدال على الوظيفة موضوع البحث لم يستقر على حال بَعْدُ، ذلك أن الكتب التي عُنيت بالحديث عن وظائف اللغة تذكر في مقابل (Conative) مصطلحات ثلاثة في العربية هي:
- الوظيفة الندائية- ووظيفة إقامة الاتصال- ووظيفة التنبيه (1).
وبصرف النظر عن مدى شيوع هذا المصطلح أو ذاك، وبصرف النظر عمّا في تلك الكتب من تناقض وتعارض في انتقاء الكلمة التي تترجم المصطلح عن لغته الأصلية، فإنني أميل إلى استعمال "وظيفة التنبيه" لأسباب منها: أن كلمة "التنبيه" كلمة كثيرة الدوران في العربية، وهذا ما سوف تدل عليه النصوص الواردة في هذا البحث مما نطق به أهل العلم بالعربية، ومنها أن "النداء" في العربية مشغول، فالكلمة تطلق ويفهم منها أسلوب معروف في العربية وهو جزء من "التنبيه" وعلاقته بالتنبيه علاقة الخاص بالعام، ومنها أن ما يفهم من التنبيه أعمق كثيراً مما يُفهم من إقامة الاتصال.
وما بين أيدينا من دراسات يدل على أن وظيفة التنبيه لا تمتلك حدوداً حاصرة، أو بنية مستقلة، بل إنها تتداخل مع الوظائف الأخرى للغة مثل التعبيرية، والمرجعية، والشعرية،… وغيرها وهذه كلها تَنْدَغِمْ بدورها في وظيفة أساسية تؤديها اللغة، فغايتها إنما هي التواصل في إطار المجتمع الذي تنتمي إليه.
وإذا ما أردنا أن نستطلع بعض ما قيل عن وظيفة التنبيه في كتابات المعاصرين نجد أنهم يقولون إنها تظهر في المرسلات التي تتوجه إلى الملتقِط لإثارة انتباهه، أو للطلب إليه القيام بعمل معين، ويجعلون جملة الطلب ضمن نطاق الوظيفة. (2)
وربما فصّلوا القول فذكروا أن هذه الوظيفة تتجلى في العبارات الدالة على تأكيد الاتصال، أو إبقائه ، أو إيقافه…… وربما أكدوا أن هذه الوظيفة تؤدي دوراً مهماً في الخطاب الديني، والسياسي، وفي الأحاديث العائلية والغرامية فيصبح الوجود في أماكن تلك الخطابات والأحاديث، مع الاندماج في الآخرين هَدَفَ الاتصال وغايتَهُ (3).
ولا يخفى أن ما ذُكِرَ عن هذه الوظيفة لا يتعدى الإشارات.
ولمّا كان الحديث عن وظيفة التنبيه علماً معاصراً، فإن هذا يَفْتَرِضُ أن تكون الدراسات التي تتناول هذه الوظيفة في العربية نادرةً أو معدومة، لكن – والحق يقال- إن للمتقدمين من أهل التفسير والبلاغة والنحو واللغة، شذرات مفيدة، ولمحات صائبة غير أنها لم تكن مقصودة لذاتها. هذا في القديم أما في الحديث فقد أفرد بعض الدارسين بحثاً تناول فيه الأدوات المفيدة للتنبيه (4).
والبحث على أهميته ليس كلَّ ما يقال عن التنبيه في العربية، بل هو حلقة أولى من حلقات أحسب أنها ليست قليلة، وإني لآمل أن يكون هذا البحث الذي أعده إحدى تلك الحلقات.
دل التقصي على أن للتنبيه في العربية صلة بأساليب كثيرة، لعل أبرزها النداء، والدعاء، والتوكيد، والإشارة، والاستفهام، وأمور أخرى كثيرة، ويهدف البحث إلى دراسة كل أسلوب على حدة بغية كشف جوانب التنبيه فيه، وأكثر ما يجري هذا في ضوء ما ورد في القرآن الكريم، يدفع إلى اتبّاع هذا المنهج، أمور منها أن الدراسات التي تتناول القرآن الكريم تفسيرا، وتأويلاً، وبلاغة، ولغةً، وأساليبَ، هي مادة ثرة يمكن الإفادة منها إلى حد بعيد، ومنها التدقيقُ في صحة ما يذهبون إليه من أن وظيفة التنبيه تتجلى تجلياً واضحاً في الخطاب الديني. ومنها أن تتبع التنبيه ضمن السياقات هو أكثر جدوى، وأشدّ حيوية، وأوصل إلى الغرض، وأبين للمراد.
النداء والتنبيه:
النداء لغةً الصوت، أو الدعاء بأرفع صوت، يقال، ندوتُ القوم أندوهم إذ جمعتهم في النادي فتشاوروا وتحدثوا، ومنه قيل للموضع الذي يُفعل فيه ذلك نَدِيٌّ ونادٍ (5). ويمكن التدليل على صلة النداء بالتنبيه من وجوه: منها أن المخاطب كثيراً ما يحتاج إلى تنبيه. ومنها أن تعريف النداء فيه ذكر للتنبيه، فالنداء "تنبيه المدعو، ودعاؤه بأحرف مخصوصة" (6)، بل إن كلمة التنبيه كثيرة الدوران على ألسنة النحويين عند حديثهم عن النداء وأدواته، من ذلك مثلاً قول سيبويه: "فأما الاسم غير المندوب فينبه بخمسة أشياء"(7)، وينص في موضع آخر على تسمية حروف النداء بحروف التنبيه فيقول: "…… ولا يكون مكان "يا" سواها من حروف التنبيه نحو أيْ، وهَيَا، وأيا"(8) كذلك يُشير ابن جني إلى معنى التنبيه في بعض هذه الحروف فيقول: "يا في النداء تنبيهاً ونداء، في نحو يازيدُ، ويا عبدَالله" (9). ثم جاء ابن يعيش ليقول" أصل النداء تنبيه المدعو ليُقبل عليك"(10) وهذه الأقوال تؤول إلى نتيجة واحدة، وهي أن النداء يحمل في طياته التنبيه، وربما دار في الأذهان أن هذه الأقوال جاءت في مرحلة مبكرة نسبيا، ولم تكن فيها المصطلحات مستقرة، فكان هذا التداخل بين النداء والتنبيه، وهذا إنْ صح إلى حد ما، فإنه لا يصح عندما تأتي (يا) خالصة للتنبيه دون النداء عندما يليها ما ليس بمنادى، كالحرف، والفعل، والجملة.
بعد هذا لا بد من أن نقف عند أدوات النداء لنبيّن مدى إفادتها للتنبيه، مسترشدين بأقوال بعض أهل اللغة والنحو:
يا: أصل أدوات النداء، وقد أشار إلى التنبيه فيها غير واحد، قال سيبويه:
"وأما يا، فتنبيه، ألا تراها في النداء وفي الأمر، كأنك تنبه المأمور" (11) ولا يخفى أن سيبويه يُلحّ على معنى التنبيه في "يا" ويجعله بها ألصق، في حين نجد ابن جني يؤاخي بين التنبيه والنداء فيها فيرى أنها تكون تنبيهاً ونداء، لكنه يرى أنها تخلص أحياناً، وتتعين لمجرد التنبيه، يقول: "يا: في النداء تكون تنبيهاً ونداء……. وقد تجردها من النداء للتنبيه البتة"(12) وأكثر ما يجري الحديث عن دلالة (يا) على التنبيه، فيما يأتي:
عندما تدخل على فعل الأمر، كقوله تعالى: "ألاَّ يَسْجُدوا (13) " ويقرر ابن جني أنها جُعلت خالصة للتنبيه في هذا الموضع،، يقول:
"….. كأنه قال: هيا اسجدوا (14) فهو يفسر (يا) بـ (ها) التنبيهية.
عندما تدخل على الحروف كما في قوله تعالى: " ياليتني كنتُ معهم فأفوزَ فوزاً عظيماً" (15)، ويكثر ورود مثل هذا في القرآن الكريم (16). كما تدخل
على (رُبَّ) كقوله صلى الله عليه وسلم: يارُبَّ كاسيةٍ في الدنيا، عاريةٌ يوم القيامة." (17)، وكقول جميل:
يارُبَّ عارضةٍ علينا وَصْلَها
بالجِدّ تْخُلُطه بقولِ الهازلِ(18)
وعندما تدخل على الفعل الماضي، كقول الشاعر:
يا حبّذا جبلُ الريانِ مِنْ جَبَل
وحبذا ساكنُ الريانِ مَنْ كانا(19)
- وعندما تدخل على المبتدأ، كقول الشاعر:
يا لعنةُ اللَّهِ والأقوامِ كلّهم
والصالحينَ على سِمْعانَ مِنْ جارِ(20)
والنحاة مختلفون في دلالة (يا) في مثل هذه المواضع كونها للنداء أو للتنبيه، ولو عرضنا لجميع أقوالهم، لضاق بنا المجال (21)، وما يعنينا أن بعضهم يرى أنها تدل على مجرد التنبيه، ومنهم ابن جني، يقول: "… فجاء بيا ولا منادى معها، قيل: يا في هذه الأماكن جُرِّدَتْ من معنى النداء، وخلَصَتْ تنبيهاً. (22)، ومنهم أبو حيان (ت 754 هـ) الذي يدلل على كون يا للتنبيه بقوله: والأصحُّ أن يا في قوله يا ليتنا حرف تنبيه لا حرف نداء والمنادى محذوف، لأنَّ في هذا حذفَ جملة النداء، وحذف متعلقه، وذلك إجحاف كثير". (23) فأبو حيان يرفض أن يُحذَفَ من جملة النداء الفعلُ الذي يُقدَّر بـ (أنادي) أو (أدعو) أو (أُنبِّهُ) وأنْ يُحّذَفَ المنادى، ولمّا كان ذلك ممتنعاً عنده رأى أن يا خلصَتْ تنبيهاً.
أما باقي أدوات النداء التي لها صلة بالتنبيه فمنها أَيَا ومعناها التنبيه ويُنادى بها، وتُستخدم لنداء البعيد والقريب…. والمبالغ في تنبيهه وندائه، ولا يجوز حذفها وإبقاء المنادى، ومنها هيا: ومعناها التنبيه، وقيل هي يا أُدخِلَ عليها هاء التنبيه مبالغة (24)، وليس ببعيد أن تكون أيا وهيا لغتين، مثل قولهم: أراقَ وهَرَاق. ومنها الهمزة وتكون تنبيهاً وينادى بها القريب(25). وقد تُمَدُّ فيقال: آ وتكون تنبيهاً ونداء، ولا يخفى ما بين القيمة الصوتية لهذه الأدوات وأوجه استعمالها من مناسبة، فلا يمتد الصوتُ إلا بالمقدار الذي يتنبه معه المنادى (26). وبناء على ما تقدم يمكن القول: إن لأسلوب النداء صلة بالتنبيه، وندرك أهمية التنبيه في النداء إذا علمنا أن النداء شيء من لوازم العربية الأصيلة، وهو ألصق ما يكون بالأدب الوجداني، تقرؤه في الرثاء والنسيب، ومواطن أخرى (27).
كذلك، إن مَنْ يبحث عن أسلوب النداء في القرآن الكريم يجد أنه يكثر كثرةً لافتة، من ذلك قوله: " يابنيَّ اركبْ معنا"(28). وقوله: "يوسف أيُّها الصِّديقُ أَفْتِنا" (29) وقوله "يا أبتِ لا تعبدِ الشيطان"(30) ولا ريب في أنّ هذه الكثرة تفتح الباب لقول مستفيض، يضيق المجال عن الخوض فيه، غير أنني سوف أشير إلى بعض طرق النداء، بغية الكشف عن جوانب التنبيه فيها.
يذكر الزمخشري بإسناد إلى عبدالله بن مسعود أن قوله تعالى: "أيها الناس" منبهة على المكي من الآيات، وأن قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا" منبهة على المدني منها (31).
كما يتصف النداء بـ "يا أيها الذين آمنوا " بخصوصية، وهذه الخصوصية آتية من جهتين، أما الأولى فإن التنبيه في هذا النهج، هو تنبيه مؤكد، وقد أشار الزمخشري إلى ذلك بقوله " وكلمة التنبيه { يريد: (ها) } المقحمة بين الصفة وموصوفها لفائدتين؛ معاضدة حرف النداء، ومكانفته بتأكيد معناه، ووقوعها عوضاً مما يستحقه أيُّ من الإضافة". (32) كذلك يشير الشيخ خالد الأزهري (ت 905) إلى التوكيد في ها (يا أيها) بقوله:
" ….. وفي ها التنبيهية مبالغة وتأكيد"(33) وأما الجهة الثانية فإن هذا النهج من النداء يأتي لينبِّهَ على أمور عظيمة تلي، وهذا أما أشار إليه بعض أهل العلم، روي عن الحسن البصري (ت 110هـ) قوله:
"إذ سمعتَ الله يقول: يا أيها الذين آمنوا فأرعِ لها سمعَك، فإنها لأمر تُؤْمَرُ به، أو لنهي تُنهى عنه"(34)، ثم جاء الزمخشري ليفصّل القول في هذا فيقول: "فإن قلت : لَم كثر في كتاب الله النداءُ على هذه الطريقة ما لم يكثر في غيره؟ قلتُ: لاستقلاله بأوجه من التأكيد وأسباب المبالغة، لأن كل ما نادى الله له عباده – مِنْ أوامره، ونواهيه، وزواجره، ووعده، ووعيده، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم، مما أنطق الله به كتابه – أمورٌ عظامٌ وخطوب جسام، ومعان عليهم أن يتيقظوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها، وهم عنها غافلون، فاقتضت أن ينادوا بالآكد الأبلغ."(35).
وصفوة القول في هذه الطريقة من النداء أن درجة التنبيه فيها عالية تتناسب وأهمية ما يليها من ذكر لأمور لا ينبغي للإنسان أن يغفل عنها. ولكن ليس معنى هذا أن النداء يجيَّرُ للتنبيه فحسب، بل إن فيه أموراً أخرى لا تقل أهمية عن التنبيه، منها ما أدركه جعفر الصادق (ت 148 هـ) حين قال: "لذَّةُ ما في النداء، إزالة تعب العبادة والعناء." (36).