توظيف اللسانيات التطبيقية في تعليم العربية للناطقين بها وبغيرها
د. محمد خالد الفجر
ملخص البحث:
يهدِفُ هذا البحثُ إلى تسليط الضّوء على كيفية استثمارِ اللِّسانيات التطبيقيَّة في تعليم اللغة العربية، وستركّز الدراسةُ على المستوى الصَّوتي والدِّلالي والمستوى المعجمي، وبيان كيفيةِ توظيف ما جدّ في علم اللسانيات في تعليم المستويات المذكورة آنفًا، وستُقدِّم الدّراسة مجموعةً من الاقتراحات التي تُسهم في تطويرِ العملية التعليمية للّغة العربية.
الموضوع:
يشهد العالم الذي نعيشه ثورةً مصطلحيّةً في المجالات العلمية كافةً أدّت هذه الثورة إلى توليد علومٍ جديدة لها منظوماتها المصطلحية المستقلة، ولم تخرجْ علومُ اللّغة عن هذه السُّنة، فاللُّغة ما هي إلا تعبيرٌ وانعكاسٌ لألسنة البشرية تُصوِّر مجتمعهم وتعكس تطورهم وتتماشى مع إبداعاتهم العلمية، ومع بداية القرن العشرين ظهرت منظومةٌ مصطلحيَّةٌ لعلمٍ استُقيت مفرداتُه من محاضراتٍ ألقاها ولم يتمَّها العالم السويسري ديسوسير[1] de Saussure)، وأهمّ ما أتى به هذا العالم هو جعل دراسة اللغة غايةً في ذاتها؛ ولهذا فرّق بين الظواهر اللغوية والظواهر الخارجة عنها، لكن ما ينبغي الإشارةُ إليه هو أنّ سوسير لم يكن مبدع الدراسات اللغوية؛ إذ إنَّ ما ورد عنده كان له إرهاصاتٌ عند الهنود الذين اشتُهِر فيهم اسم العالم بانيني (Pnini)، فلولا اطِّلاع الأوربيين على ما أنجزه الهنود في مجال اللغة لما نهض النهضة التي نراها في أيامنا[2]، كما أنَّ دراسة اللغة شهدت تطورات مهمة في المرحلة الإسلامية العربية لا سيّما في كتابات ابن جني (ت 392 هـ) وكتابات ابن حزم الأندلسي (ت 456 هـ) العالـمَين اللذين أولَيَا دراسة المستويات اللغوية أهميةً ظهرت في الخصائص لابن جني، وفي الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، لكنّ ديسوسير يمثل مرحلة بلورةِ الدّراسات اللُّغوية المعاصرة وتشقيق فنونها وهذا ما أتمه بلومفيلد (Bloomfield) في الغرب وحديثًا تشومسكي (Chomsky) في أمريكا.
ولكنَّ الفارق بيننا وبينهم أنّ الغرب تسلّم الراية اللّغوية وطوّر مناهج وطرق الدراسة اللغوية بحيث صار علم اللغة يتماشى مع التطور في باقي المجالات، وما يثير الألم أنّ أرضيتنا اللغوية قادرةٌ على استيعاب ما جدّ في مجال اللسانيات، إلا أنّنا لم نُفد منها في مجالات التّطور التعليمي وبقيت اللسانيات مادةً هجينةً على طلاب علم اللغة العربية يجدونها تنظيرًا لا جدوى منه وكائنًا غريبًا دخل في جسد علوم اللغة المتعارف عليها، وكلُّ هذا يرجعُ إلى عدم استثمار ميدان علم اللسانيات التطبيقي (Applied Linguistic) في مناهجنا التعليمية، لأنّ قضية التنظير اللُّغوي قد وصلت في تراثنا إلى درجةٍ رفيعةٍ لا تقلُّ شأنًا عن التَّنظير اللغوي في اللسانيات المعاصرة، إلا أنّ الأمر المهم هو مجال اللسانيات التطبيقيّة، لما فيها من طرقٍ ووسائل جدّت مع ما جدّ من مخترعاتٍ في العصور المتأخرة "فقد استقل هذا الفرع من الدراسات اللغوية منهجيًّا سنة 1946 عندما دُرِّس في جامعة ميتشجان، وأسِّست مدرسة علم اللغة التطبيقي (School Of Applied Linguistic) في جامعة أدنبرة سنة 1958[3]، وأبسط تعريف للسانيات التطبيقيّة أنَّها: "هو العلم القائم على دمجٍ تطبيقي لكثير من النظريات اللغوية وغير اللغوية خدمة للغة"[4].
وسأحاول في هذه الورقات إبرازَ المجالات التي يمكن الإفادة فيها من علم اللسانيات التطبيقيّ المعاصر، وسأسعى إلى أن يكون بحثي مرتبطًا أولاً بالمكوِّنات الداخليّة للُّغة العربية وسأحصر الدراسة بثلاثة مستويات هي: الصوت والدلالة والمعجم، العناصر التي إنْ أحسَنا الربط بينها وبين اللسانيات فسنزيلُ الصورة التقليدية عن هذا العلم التي تتمثل في اعتباره علمًا تنظيريًّا بل فلسفيَّا لا علاقة له بالمنطوق ولا المكتوب جانبا العملية اللغوية. وإنني أرجو أن ينسأ الله في الأجل لكتابة بحثٍ آخر أُبيِّن فيه كيفية الإفادة من اللسانيات التطبيقية في المجالات الخارجة عن المكوِّنات الدَّاخلية للغة، لكنّها وثيقةُ الصِّلة بها أي المجالات الاجتماعية، والنفسية، والتربويَّة...إلخ.
وبناءً على ما سبق، فإنّ الدراسة ستتوزع على ثلاثة محاور:
1- المستوى الصوتي.
2- المستوى الدلالي.
3- المستوى المعجمي.
أولاً- المستوى الصوتي:
إنَّ تراثنا اللُّغوي يفخر بما قدَّمه في علم الأصوات، وإذا كان الغربيون فُتِنوا بما قام به الهنود والصينيون من جهود في مجال علم الصوت، فإنّهم لن يتوقعوا وصول العرب إلى ما وصلوا إليه من تنظيم الأصوات وتحديد المخارج وما إلى ذلك من أمورٍ تتّصل بعلم الأصوات. فقد وجدنا العرب قد وقفوا على ظواهر لغوية وحدّدوا مصطلحاتها التي حملت مضامين المصطلحات العصرية من ذلك مثلاً مصطلح (الإدغام) الذي يقابل مصطلح (التماثل، Assimilation) الذي تحدّث عنه دانيال جونز (Daniel Jones) وقد عرَّفه بقوله: "استبدالُ صوتٍ بآخر تحت تأثيرِ صوتٍ ثالثٍ يكون مجاورًا له في الكلمةِ أو في الجملة، ويمثِّل له بكلمة (Horse-shoe) إذ إنَّ حرف S في أخر كلمة Horse ينطق هنا[5] sh، فالمصطلح السابق نراه متقاربًا أو متّحدًا مع مصطلح الإدغام في العربية الذي بيّن العرب أنه نوعان أحدهما ينتج عن تأثر الصوت الأول في الثاني كما في )ازدهر(، حيث التقى صوتان صوتٌ مجهور وهو الزاي مع صوتٍ مهموس وهو التاء؛ إذ إن أصل الكلمة (ازتهر) فتحول التاء إلى الدال المجهورة متأثرًا بصوت الزاي، وقد وقف العلماء المسلمون على قضية النَّبر كما بيَّن المسدّي عند عرضه لتعريف ابن سينا (ت 427 هـ) الدَّقيق للنبر (Stress) والتنغيم (Intonation)، تعريفًا يقارب ما توصَّلت إليه اللّسانيات المعاصرة لهذه الميزة الصوتية الغائبة في مناهج تعلمينا فينقل المسدّي قول ابن سينا عن النبر: "وربما أُعطيَت هذه النَّبْراتُ بالحدّة والثِّقل هيئاتٍ تصير بها دالَّةً على أحوالٍ أخرى من أحوال القائل أنَّهُ متحيِّرٌ أو غَضْبان أو تصير به مُستدرِجة للمقول معه بتهديدٍ أو تضرعٍ أو غير ذلك، وربَّما صارت المعاني مختلفةً باختلافها، مثل أنَّ النَّبْرة قد تجعل الخبر استفهامًا، والاستفهامَ تعجُبًا وغير ذلك "[6].
وما ذكرته آنفًا ما هو إلا غيضٌ من فيض إنتاجِ علمائنا الأوائل في مجال الأصوات، فقد وقف الخليل (ت 170 هـ) في معجم (العين) على مصطلحاتٍ مرتبطةٍ بعلم الأصوات مثل المخارج وصفات الحروف، وأتمّ عمل الخليل تلميذه سيبويه (ت 180 هـ) في الكتاب.
ومع أنّ هذا الفرع من العلوم اللغوية قد أُولي عنايةً فائقةً عند العلماء المسلمين، لا سيّما عند أوّل من دوّن علومها أمثال الخليل بن أحمد، وتلميذه سيبويه، إلا أنّنا وجدنا أنّ هذا العلم أصبح تنظيريًّا بحتًا في مدارسنا وجامعاتنا، مع أنّه المادة الأولى للكلام، وبه تتمايز اللغاتُ، فإتقان الصوت يعني إتقان اللغة. وغياب الجانب التطبيقي لعلم الأصوات في مدارسنا وجامعاتنا أدّى إلى جعل دارس العربية من أبنائنا لا يُتقن نطق حروفها، مع أنّ الذين درسوا في الكتاتيب ترى أهمَّ ميزاتهم مقدرتهم في نطق الحروف من مخارجها وتمتعهم بالإداء اللغوي المتقن، فهل كان "شيخ الكُتَّاب" أكثر حرصًا على لغتنا ممن أنشئت لهم كليّاتٌ وأقسام لعلوم العربية، أم أنّ شيخ الكتاب عرفَ حاجةَ الطالب أكثر من المدارس والجامعات؟ أليس مفزعًا ألا نجد إلا قلة من طلبة قسم اللغة العربية، ممَّن لا يتهيبون الكلامَ بالعربية الفصيحة، ويثقون بقدرتهم على ذلك؟
والغريب أن علم اللسانيات الذي يُدرَّس في بعض جامعاتنا لا يُعلِّم كيفية توظيف علم الأصوات، وإنما يكتفي بعرض مباحث علم اللسانيات. وربما هذه الأَزمة بين التنظير اللغوي والتطبيق الواقعي لهذا التنظير لا تقف عند العرب وحدهم، بل تتعدى ذلك إلى أمكنةٍ العالم الأخرى، لكنَّ اللُّغويين والباحثين الغربيين تنبهوا إلى هذا الخطر فأنزلوا أبحاثهم التنظيريّة على أرض الواقع فأينعت ثمارًا عمليةً في تعليم اللغة ونذكر ههنا H.E. palmer الذي شغل منصب أستاذٍ بمعهد ترقية تعليم اللغات بطوكيو وهو مؤلف مجموعة من الكتب باللغة الإنجليزية منها:
1- agrammar of spoken english londers 1924.
2- agrammar of english words lomders 1938.
فقد قام هذا الباحث بدراساتٍ نظرية تهدف في مجملها إلى تطوير طرائق تعليم اللُّغات وهي الدّراسات التي ما زالت إلى الآن تأخذُ مكانتَها العلمية. فهو لم يأل جهدًا في توظيف اللسانيات التطبيقية في تعليم نطق أصوات اللغة الإنكليزية، فقد وظّفها في مجال حلّ المشكلات المرتبطة بالمستوى الصوتي، أما نحن فلا شكّ أن ثمّة دراساتٍ مهمةً في هذا الصدد، لكنّها لم تُول العناية التّامة ولم توظَّف في منهج تعليم اللغة العربية سواء للناطقين بها أو للناطقين بغيرها، فمن الدِّراسات العربية المهمة في هذا المجال كتاب الأصوات اللغوية للدكتور إبراهيم أنيس و علم الأصوات للدكتور كمال بشر، والمنهج الصوتي للبنية العربية للدكتور عبد الصبور شاهين، وأصوات اللغة للدكتور عبد الرحمن أيوب...إلخ، إلا أنّ هذه الإنتاجات اللغوية المتميزة بقيت مراجع لطلاب الدراسات العليا، ولم تستثمرها الجامعات العربية في المراحل التعليمية الأولى.
وبعد هذا العرض الموجز لواقع علم الأصوات في تعليم العربية، أعرض بعض الاقتراحات في كيفية الإفادة من اللسانيات التطبيقية في هذا الموضوع:
1- لابد من اقتراحٍ جديدٍ تُعدَّلُ فيه مناهجُ دراسة اللغة العربية في الجامعات، من الناحية اللغوية. فلِمَ لا تُوضع في قسم اللغويات مادة الصوتيات قبل الصرف والنحو أو معهما جريًا على التقسيم اللساني للغة؟ فالتقسيم اللساني يسير على أنّ اللغةَ تقوم على الصوت (الفونيم) ثم البنية (المورفيم) ثم التركيب (السينتكس)، فهل يستقيمُ ألا يكون في السنة الأولى مادة ترتبط بعلم الأصوات؟
2- بعد وضع مِنهاج مادة الصوتيات في السنة الأولى على الكلية أن تختار أستاذًا ضليعًا في الصوتيات، ممن أُوتي خبرة في نطق حروف العربية ومعرفة مخارجها وصفاتها وإتقانه لتنغيمها ونبرها لتدريس هذه المادة، ووضع مفرداتها.
3- يتعرَّفُ الطالب في هذه المادة جهازَ النطق، ومخارج الحروف، وصفاتها، تنظيرًا وتطبيقًا. وتدْمَجُ في هذه المادة الأبحاثُ المرتبطة بالإعلال والإدغام التي تُدرّس في الصرف مع أنها لصيقة بعلم الأصوات.
4- من المفيد جدًّا إعدادُ مخبرٍ صوتيٍّ يُشرِفُ عليه أستاذُ الصوتيات، ويُستفاد من طرق الآخرين في وضع لوحات تحدِّد مخرج الحرف والصور التي تعتريه، وحبذا إيجادُ رموزٍ كتابيةٍ تحدِّدُ كيفية النطق، كتحديد نطق الترقيق والتفخيم....إلخ. وفي هذا المخبر تتمُّ أمور مهمة في مجال تعليم العربية لغير الناطقين بها حيث إننا نستطيع فيه نقل الجانب النظري إلى جانبٍ عمليٍّ، فتحديد الوحدات الصوتية في اللغة العربية مهم جدًا بالنسبة لمتعلمها من غير أهلها فالمثال المعروف في هذا المجال هو التفريق بين سار وصار وبين طين وتين فيدرّب الناطقون بغير العربية على كيفية نطق هذا الصوت في المختبر الصوتي؛ حتى تتأقلم أجهزة نطقهم مع هذه الظواهر الصوتية، فعلم الصوت الفنولوجي يخدمنا كثيرًا في تعليم الطالب الفوارق بين الصوتين حيث إننا نركِّز على اختلاف المعنى ونستعين به في إعانة الطالب على نطق الحرف؛ إذ إنَّ جملته العصبية ستوجه عامود الهواء إلى حواجز تتفق مع معنى الكلمة المراد نطقها، فعندما يدرك الطالب في ذهنه أنه إذا وضع دالاً محلَّ الضاد في ضلَّ فتخرج منه دلّ فهذا يخرج الكلمة عن المعنى المستعملة فيه، وهذا سيجعله يحرص على تغيير وضع لسانه لنطق الضاد بشكل صحيح يفيد المعنى الذي يريده وهو الضلال وليس الدل على مكان ما.
5- يُعلَّم الطالب توظيف التنغيم (Intonation) في نطق الجمل، وهذا التوظيف لا يؤدّي فقط إلى إتقان نطق الأصوات، وإنما يجعل الطالب يتكلم لغة سلسةً مقبولةً عند السامعين، ويرافق التنغيم (Intonation) تعليم الطالب طريقة النبر (Stress)في العربية، وهذا لا يتحقق إلا بعد تعريفه بمقاطع الكلمة وأقسامها في اللغة العربية.
6- تُخصص في السنة الأولى ساعاتٍ لما يُسمَّى بالأداء اللغوي، تُطبق فيها البحوث التنظيرية التي أخذها في علم الأصوات، وتكون هذه الساعاتُ مشابهةً لما يُعرَف بساعات حلقات البحث في قسم اللغة العربية، ومقابلة لساعات القسم العملي في الكليات العلمية.