لما قرأت بعض المقالات التي وضعها أخونا العزيز خالد الحوفي حول العربية، وجدت من الملائم أن أعيد نشر المقال الآتي، الذي كنت قد نشرته سابقا في موقع شبكيآخر، بعنوان "العربية بين ذات ناجحة ورعاة متخبطين"؛ لما وجدت فيه من ملاءمة لسياق الحديث.
المقال:
لعل المتفكر في ذات اللغة العربية، يجد فيها مشروع نجاح متميز، والذي أقصده بالنجاح هنا، احتواء تلك اللغة على خصائص عديدة، تجعلها أهلا للاستعمال السهل اليسير، فهي لغة غنية بالمفردات؛ حيث تعتبر واحدة من أكثر لغات العالم في عدد مفرداتها، وهي لغة غنية في أساليبها، كما ونوعا، وغنية في قوالبها، كما ونوعا، وعريقة في تاريخها، فهي من أقدم اللغات الحية على وجه البسيطة، هذا إن لم تكن أقدمها. والقدم هنا لا يعني بأي حال من الأحوال الشيخوخة، فهذه اللغة كالطاقة التي تتجدد ولا تفنى.
كل هذه الميزات، جعلت من هذه اللغة العظيمة وعاء من ألماس -لا تقدر قيمته بثمن- لأفكار كل من نطق بها من عرب وغيرهم، وركوبا سهلة الامتطاء، لكل من أرادها وسيلة اتصال. ويمكن للمرء أن يكتب صفحات وصفحات في ميزات هذه اللغة، وأسرار نجاحها، لكنه يجد نفسه مضطرا إلى الوقوف قليلا عند واقع مؤسف تعيشه هذه اللغة العظيمة اليوم، واقع الهجر، ونكران الجميل، واقع مليء بالمهازل التي تحيط بصاحبة الذات الناجحة، فهذا منكر لها من أهلها، وذلك جاحد لفضلها، وآخر هجرها إلى ديار غيرها، لا لشيء إلا لجهل عميت به الأبصار، فأخذ يلهث راكضا خلف غاية واهية، يظن نفسه إذا ما وصلها أصاب عين الرقي والتطور، ولم يعلم أنه ينظر في مرآة، تريه القعر قمة، والهاوية جبلا.
لقد آلمني قول أحدهم إن العاطفة والحماسة هي ما يدفع ببعض الناس إلى التغني بأمجاد وميزات اللغة العربية، وإن القول بثرائها وغناها أمر عاطفي، وإن اللغويين أجمعوا على أنه لا توجد لغة ثرية ولغة فقيرة، فكل اللغات سواء، وقد تخطيت مرحلة الألم إلى مرحلة الاندهاش، ثم الاستنكار، عندما وجدت أن من يقول هذا الكلام يحمل رتبة علمية عليا، وأنه أستاذ في النحو العربي، وزادني ألما قليل من الببغاوات اللتي رددت من حوله نفس قوله، فجعلت أنظر إلى ذات النجاح في لغة عظيمة تارة، وإلى رعاة متخبطين تارة أخرى.
أعلم أن علينا أن ننفتح على ثقافة الآخر، ولعلي ممن أنعم الله عليهم بفرصة نادرة للتعرف إلى ثقافة أخرى، قد تكون السائدة في عصرنا، تعرفت إليها عن قرب، وكنت جزءا منها، لكنني أرفض رفضا قاطعا أن نبقى نعيش دورا واحدا، وهو دور الجوقة، التي تردد وتقلد، ولا أقبل إلا أن نكون في موقع القيادة، الذي عشناه ردحا من الدهر، وأرى أننا بتنا نملك أدواته، ولكننا لا نملك الإرادة الكافية للانتقال إليه، وأرى أن أول خطوة في طريق تلك الإرادة، هي الانتقال من مرحلة الانقياد الأعمى لحضارة الآخر، إلى مرحلة الاحترام، وفيها -أي مرحلة الاحترام- يحدث التلاقح الفكري، الذي يسمح بالرفض والقبول، ويسمح بالمناقشة والتطوير، ويسمح بالتبني والتخلي، عندها تصبح لنا هويتنا الخاصة، ونعود إلى مصاف القادة، تاركين دور الجوقة إلى من يستحقه.
وهنا أكرر لنفسي ولكل من أراد أن يعي، هذه اللغة -اللغة العربية- هي أغنى لغة عرفتها وأثرى لغة عرفتها، وقد عرفت الكثير، وهي ذات ناجحة، فعلينا أن لا نكون رعاة متخبطين.